الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأما الحفاظ بالجانب الغربي
فلولا مصر ما نهضت قوادمهم «1» المحصوصة «2» ، وسدّت خصاصتهم «3» المعروفة بهم فواقرها «4» المخصوصة، وسأذكر من لاح نجمه مصوّبا في غربهم، وسقي صيّبا من «5» سحّهم:
فمنهم
116- يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس
«6» الليثي الأندلسي، راوي كتاب الموطأ وعاقل الأندلس، وعاقد أزمّتها الشمس، والمقدّم في حفّاظها، والميمّم بقصد ألحاظها، والمعدود في معارف أعلامها، وثانيا في عوارف أيامها، وثالثا لدافق بحرها وساكب غمامها، ورابعا لنجوم سمائها وشموس ضيائها وبدور ظلامها، وخامسا إلى ما لا نهاية له من العدد من المحاسن المؤذنة بتمامها، مشدّد في دين، ومسدّد لا يلين، ومشيّد
لأركان الشريعة فرد ماله خدين «1» .
سمع من مالك المؤطأ غير أبواب في الاعتكاف، شكّ في سماعها، فأثبت روايته فيها عن زياد بن عبد الرحمن اللخمي «2» عن مالك.
وسمع بمكة من ابن عيينة «3» وبمصر من الليث بن سعد «4» وعبد الله بن
وهب «1» وعبد الرحمن بن القاسم «2» .
وتفقه بالمدنيين والمصريين من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه بمالك وملازمته له، وكان مالك يسميه عاقل الأندلس، وكان سبب ذلك فيما روي:
أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه فقال قائل: قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: ما لك لا تخرج تراه، لأنه لا يكون بالأندلس؟ فقال: أنا جئت من بلدي لأنظر إليك، وأتعلم منك هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك وسماه/ (ص 234) عاقل الأندلس. ثم إن يحيى عاد إلى الأندلس وانتهت إليه الرئاسة بها، وبه انتشر مذهب مالك في تلك البلاد، وتفقه به جماعة لا يحصون عددا، وروى عنه خلق كثير، وأشهر روايات الموطأ وأحسنها روايته، وكان مع إمامته ودينه معظما عند الأمراء، مكينا عفيفا عن الولايات، متنزها، جلّت رتبته عن القضاء، فكان أعلى قدرا من القضاة عند ولاة الأمر هنالك لزهده في القضاء،
وامتناعه منه، قال ابن حزم «1» : مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولّى قضاء القضاة أبو يوسف «2» ، كانت القضاة من قبله فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى المشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابه ومن انتمى إلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه، ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون به بلوغ أغراضهم به على أن يحيى بن يحيى لم يل القضاء قط ولا أجاب، وكان ذلك زايدا في جلالته عندهم، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم.
وقال أحمد بن أبي الفياض «3» : كتب الأمير عبد الرحمن بن الحكم «4»
المرتضى صاحب الأندلس إلى الفقهاء يستدعيهم إليه، فأتوا إلى القصر، وكان عبد الرحمن المذكور قد نظر في شهر رمضان إلى جارية له كان يحبها حبا شديدا فعبث بها ولم يملك نفسه أن وقع عليها، ثم ندم شديدا، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته، فقال يحيى بن يحيى: يكفّر ذلك يصوم شهرين متتابعين، فلما بدّر يحيى إلى هذه الفتيا سكت بقية الفقهاء/ (ص 235) حتى خرجوا من عنده، فقال بعضهم لبعض، وقالوا ليحيى مالك لم تفته بمذهب مالك؟ فعنده أنه مخير بين العتق والطعام والصيام، فقال: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود.
وقال محمد بن عمر بن لبابة «1» : فقيه الأندلس عيسى بن دينار «2» ، وعالمها عبد الملك ابن حبيب «3» ، وعاقلها يحيى بن يحيى، وكان أحمد بن
خالد «1» يقول: لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس منذ دخلها الإسلام من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر ما أعطيه يحيى بن يحيى، وقال ابن بشكوال «2» : كان يحيى بن يحيى مجاب الدعوة، وكان قد أخذ في نفسه وهيئته ومقعده هيئة مالك. وحكي عنه أنه قال: أخذت ركاب الليث بن سعد «3» فأراد غلامه أن يمنعني، فقال: دعه، ثم قال لي الليث: خدمك العلم فلم تزل بي الأيام حتى رأيت ذلك. ثم قال ابن بشكوال: توفي يحيى في رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين، وقبره بظاهر قرطبة بمقبرة ابن عيّاش يستسقى «4» به.
وزاد الحميدي «5» أن وفاته كانت لثمان بقين من الشهر المذكور.