الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يناظر، وقد تقدّم في الفصل الخطابي الأول في هذا الباب ما إن قيل إنه خطابي فهو الحق الذي لا يجحد، والصحيح الذي لا يكذّب «1» .
[المتنزهات.. والقلاع والمدن والأنهار]
قال ابن سعيد: المتنزهات التي تقع المناظرة فيها بين المشرق والمغرب فإننا نبني الكلام فيها على ما ورد في الكتب، من أن المتنزهات المشهورة بالحسن والتقديم على سواها أربعة: وهي غوطة دمشق بالشام «2» ، والأبلّة بالعراق «3» ، وشعب بوّان بأرض فارس «4» ، وصغد سمرقند وراء النهر «5» . وقد ذكر أبو بكر
الخوارزمي «1» : أنه رأى جميعها، فكان فضل غوطة دمشق عليها كفضل سائرها على متنزهات العالم، وجميع هذه الأماكن الأربعة قد أطنب في ذكرها البيهقي وعظمها على غيرها «2» .
وقد رأيت غوطة دمشق وتقدم أنها أفضلها، فنبني الحكم عليها، والتي تشبّه بها من أماكن المغرب غرناطة «3» ، فنتكلم في المدينتين ظاهرا وباطنا، كلاما موجزا يحتمله هذا الموضع، وكلاهما قد أبصرته وحررت المناظرة بينهما:
أما مسوّر بمسوّر فإن غرناطة أحسن من جهة أنّ سورها غير كدر اللون،
كسور دمشق، تنبو عنه العين.
ومن جهة أن المدينة موضوعة على جبل ممتد السهل الأعلى بحيث تمهدت فيه الشوارع، وترتبت الأسواق، وقسمة النهر المعروف بنهر الذهب «1» ، وعليه قناطر يعبر الناس عليها، وهواؤها من أجل ارتفاعها أطيب وأصح، ولها زيادة أنها في وسط الإقليم الرابع المعتدل، ودمشق في الثالث، ولها كونها مكشوفة من جهة الشمال لها جبل يفصل بينها وبين هبوب (ص 37) النسيم الرطب ولها في الخبون جبل الثلج يهب منه في الصيف نسيم يتنسم منه روح الحياة، وهو الذي روّق أمزجة أهلها، وأكسبهم الألوان البديعة، من امتزاج الحمرة بالبياض، التي تخجل ورد الرياض، وتزيد عليها بأن المياه لا تنقطع منها صيفا ولا شتاء، لأن الأنهار تشقها وتدير الأرجاء، في داخل المسوّر، ودمشق محجوبة من الشمال منخفضة، إذا انقطع عنها الماء المجلوب لها في القنوات بقيت جيفة، وتزيد عليها غرناطة بكثرة الأنهار، فإن أنهار دمشق سبعة «2» ، وأنهار غرناطة التي تنصب إليها من جبل الثلج أكثر من ذلك، وأن أنهار غرناطة تنصب من الجبل على رؤوسها في صخور، تحسن بتقطيعها عليها، وجريتها ما بين الجنادل والحصى. وأنهار دمشق تأتي بين دمن البساتين في أرض سهلة رخوة، فيقل ماؤها، ويحدث منه من الوخامة ما هو مشهور، وكان القاضي الفاضل يقول ماء دمشق يتخلّل منه أراد أن الأزبال التي تتخذ للبساتين تمتزج معه، لأن أنهار الغوطة تشق بكليتها بساتينها، وأنهار غرناطة تخرج منها مذانب تنقي في تصرفها، ويبقى جماهير الأنهار تتخلل مروج البسائط، وتزيد غرناطة على دمشق في الفرجة العظمى بأنها تاج مشرف على بسيط يمتد نحو يومين، لا ترى
فيه إلا أبراجا كبروج السماء، وأنهارا كأنهار المجرة «1» ، ومروجا كبسط الخز، وأشجارا كالعرايس، وأطيارا كالقيان، يسافر في جميع ذلك بصرك في دفعة واحدة، من غير انعطاف. فسبحان من أفرغها في قالب الحسن، الذي لم تر له عيني مثالا، وفيها يقول أبو جعفر بن سعيد «2» (ص 38) :[الكامل]
سرح لحاظك حيث شئت فإنه
…
في كل موضع لحظة متأمل
وفيها يقول ابن أخيه: [المجتث]
غرناطة الحسن تيهي
…
على دراري النجوم
أشرقت مثل عروس
…
على بساط رقيم
وكلّ نهر عليه
…
كمثل سلك نظيم
ما جرّدت كسيوف
…
إلا لقتل الهموم
وقلعة غرناطة في أعلاها شديدة الامتناع، وقلعة دمشق مساوية معها يأخذها القتال، وتركبها المجانيق، لكنا لانغبن دمشق حسن واديها، والشرفين المحدقين به، وما احتوى عليه ذلك المنظر من القصور الزاهرة، والبساتين الفتانة، مع حسن ترتيب الأنهار واحدا تحت آخر، ومرورها في البساتين بمعظمها، ولقد نظرت من نهر ثورى «3» في مروره بمعظمه على البستان السلطاني، المعروف بالنيرب، وما
عليه من المصانع الملوكية، وينبع ماء نهر يزيد من قلبه بحركات بديعة إلى منظر لم أر مثله في غرناطة. وتأملت الربوة «1» حيث مقسم الأنهار، وانحدار نهر يزيد في مبانيها، وانصبابه على رأسه منها، فرأيت منظرا فتانا، يجب أن يفتخر به ويذكر. وإذا صعد المتأمل هذه الربوة امتد بصره في ألفاف الأشجار المنخفضة عنه نحو مسيرة يوم، وبان له من ذلك الموضع المرتفع ما لا يوجد في غرناطة، لمن أشرف على بسيطها إلا أنه لا تبين له أنهارها لتكاثف الأشجار عليها كما تبين في بسيط غرناطة، وكل واحدة منها مما يجب أن يتمثل فيه (ص 39) :[الوافر]
ولو أني نظرت بألف لحظ
…
لما استوفت محاسنك العيون
وفي المشرق والمغرب متنزهات كثيرة، هذان أشرفها ولو لم يكن في الأندلس إلا مدينة بلنسية «2» ، وما في ظاهرها من المياه والبساتين، والبحيرة التي تقابلها الشمس فيكثر منها نور بلنسية لكفاها، فكيف وكل مكان بها ترتاح إليه النفس، ويعظم به الأنس، وفي بر العدوة أماكن للفرجة متعددة أخذها بمجامع القلوب، وأزمّة الأبصار، بليونش متنزه بظاهر سبته «3» ، على البحر في نهاية من حسن الوضع، وانحدار المياه، التي لها على الصخور دوي، والتفاف الأشجار،
وتزخرف المباني، وكثرة الفواكه الطيبة، المختلفة الأنواع، واجتمع على ابن سعيد صاحب كتاب المغرب «1» مع العماد السلماسي «2» في مجلس جرى بين أهله ذكر المشرق والمغرب، وزاد في ذلك المجلس من التنقص والتهكم بالغرب حتى كاد تقوم بينهم الحرب، فكتب إليه علي بن سعيد: لو ترك القطا ليلا لنام «3» ، وهذا ما أثاره ذلك المجلس ولا ملام، العجب ممن سأل عن المغرب في ذلك المجلس المعرب: هل فيه أنهار مثل المشرق؟ أو ليس فيه أنهار، بسؤال يظلم الجور على صفحاته، ويجول الازدراء في جنباته:[الطويل]
رمتني سهام الدهر من حيث لا أدري
…
فما بال من يرمي وليس برام
وإني لأقسم بمن أجرى الأنهار من الصم الجبال، وسلك بها في بسيط الأرض ذات الجنوب والشمال لو أن السائلين عن المغرب هل به أنهار؟ عاينوا من نهر إشبيلية «4» نهرا يصعد من البحر المحيط فيه سبعون ميلا عابرا على المدينة، مصعدا إليها السفن بالأرزاق والبضائع من البحر، دون مكابدة، ثم يحدر
(ص 40) أمثالها الجزر دون جهد، ولم تتغير عذوبة الماء بالبحر الملح، وقد طرز الله جانبيه بطرازين من ألفاف البساتين، ذوات الثمر والظلال، ورصعهما فيما بين ذلك بمصانع درّيّة الألوان، كأنما وضعهما الخالق جل وعلا من خيم الجنان لأقروا بالتسليم إلى ذلك، وأحالوا بالتقديم على ما هنالك، ولو عاينوا خضرة سرقسطة «1» التي حف بها من الجهات الأربع أربعة أنهار كأنما تغايرت عليها فمالت بالمصافحة والتقبيل من كل جهة إليها- لعذروا القائل:[الكامل]
نهر يهيم بحسنه من لم يهم
…
ويجيد فيه الشعر من لم يشعر
ما اصفرّ وجه الشمس عند غروبها
…
إلا لفرقة حسن ذاك المنظر
وليس هذا بموضع الإطناب، وقد عزمت أن أفرغ الفكر لكتاب أجعله بين الخصمين ميزانا، وأخلده عن الجهتين عنوانا. [الرجز]
لبّث قليلا يدرك الهيجا حمل
فأجابه العماد السلماسي كفى جوابا قول الله عز وجل (أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا)«2» . لو لم يكن للمغرب إلا طلوعك علينا منه لصمتنا له عن كل نقيصة، وأغضينا عنه فكيف وقد ملئ فضائل، وطلعت علينا منه نجوم فوائد غير أوائل، نحن أولى بالثناء عليه من الذم، وماذا يبلغ من التكدير من رمى الحجر في اليم، وقد رأيت أن أشتغل برسالة أثني فيها على الغرائب، التي استفدناها من