الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توفي يوم التروية «1» سنة خمس وخمسين ومائتين.
ومنهم:
78- الإمام العلم أبو عبد الله البخاري
«2» واسمه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي- مولاهم- صاحب الجامع الصحيح المقدم على الصحاح، والمجرب للنجاح، والمشهور منه في نوب النوائب «3» سلاح يعرف على التجريب، ونجاح يتحف بالفرج القريب، وجناح يلحف «4» بشعار «5» النصر، وقد كادت سهام الأعداء تصيب، والمعد
مفتاحا لأبواب الحوائج إذا تعسرت أقفالها، وصلاحا لأدواء الأيام إذا فسدت أحوالها، وصباحا إذا طغت في سيل الليل النجوم، وطفئت ذبالها «1» ، وهو الذي ما سبق إلى ترتيبه، ولا عرف كيف الوصول إليه من تبويبه، ولا ادّعى أحد مثل ضبطه، ولا قدر على التوفية بشرطه وما برح من فضله يغترف، وبتفضيله يعترف، وأكثر الناس على أنه في كتب الحديث أصح كتاب، وأسح سحاب «2» ، وأفسح مغنى «3» ، يدخل إليه من كل باب. تدفق فاستوشلت «4» (ص 165) البحار، وتألق فتدأدأت «5» الأقمار، وطلع من بخارى فعقد الشكر عليها سحاب عنبر من بخار، وهمع «6» ما وراء النهر نوءه «7»
فرقصت في وشاح «1» الجيب «2» الأنهار، وقطع مؤلفه به الدنيا حتى دخلت عليه الملائكة قائلة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
«3» .
رحل في طلب الحديث «4» إلى أكثر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق والشام ومصر والحجاز، ولما قدم «5» اجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية.
قال محمد بن أبي حاتم الوراق «6» : قلت لأبي عبد الله البخاري: كيف كان
بدء أمرك في طلب الحديث؟
قال: ألهمت حفظ الحديث، وأنا في الكتّاب، وقد أتى علي عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى" الداخلي" وغيره، وقال يوما- فيما كان يقرأ للناس-: سفيان على «1» أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل، إن كان عندك، فدخل ونظر فيه ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟
فقلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه.
فقال: صدقت. فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددت عليه؟
فقال: ابن إحدى عشرة سنة، فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وكلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي أحمد، وتخلفت بها في طلب الحديث، فلما طعنت في ثماني عشرة جعلت أصنف" قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم «2» " وذلك أيام عبيد الله بن موسى «3» عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة.
وقال الفربري «4» : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي: أين تريد؟
فقلت: أريد محمد بن إسماعيل. فقال (ص 166) : أقره مني السلام.
وكان البخاري إذا كان أول ليلة من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال، وكان يختم بالنهار كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإفطار كل ليلة، ويقول: عند كل ختم دعوة مستجابة.
وقال البخاري: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا، وكان يصلي ذات يوم فلسعه الزنبور سبع عشرة فلما قضى صلاته قال: انظروا إيش هذا الذي آذاني في صلاتي، فإذا الزنبور قد ورمه في سبعة عشرة موضعا، ولم يقطع صلاته.
وقال محمد بن بشار «1» : حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومحمد بن إسماعيل ببخارى، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند.
وقال البخاري: ذاكرني أصحاب عمرو بن علي «2» بحديث فقلت: لا أعرفه، فسروا بذلك وصاروا إلى عمرو فقالوا: ذاكرنا محمد بن إسماعيل بحديث فلم يعرفه، فقال: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث.
وقال أبو علي البغدادي: كان البخاري يجلس ببغداد وكنت أستملي له، ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفا.
وقال أبو أحمد بن عدي «1» : سمعت عدة مشايخ يحكون أن البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث (ص 167) من الغرباء من أهل خراسان وغيرها، فلما اطمأن المجلس انتدب إليه رجل من الغرباء فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فهم الرجل، ومن كان منهم غير ذلك، يقضي على البخاري بالعجز والتقصير، وقلة الفهم، ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري:
لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال لا أعرفه، حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول في كل ذلك: لا أعرفه. ثم انتدب إليه الثالث ثم الرابع، إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة المائة، ولا يزيدهم البخاري على قوله لا أعرفه، فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم، وقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، ورد متون الأحاديث إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ،
وأذعنوا له بالفضل «1»
وقال سليم بن مجاهد: كنت عند محمد بن سلام البيكندي «2» ، فقال لي:
لو جئت قبل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث.
قال: فخرجت في طلبه حتى لقيته، فقلت: أنت الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم. وأكثر منه، ولا أجيئك بحديث من الصحابة أو التابعين إلا عرفت مولد أكثرهم، ووفاتهم ومساكنهم (ص 168) ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل أحفظه من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو سعيد بن منير: بعث الأمير خالد الذهلي «3» والي بخارى إلى البخاري: أن احمل كتاب الجامع والتاريخ وغيرهما لأسمع منك. فقال البخاري لرسوله: أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة، فاحضرني إلى مسجدي، أو في داري، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المسجد ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأني لا أكتم
العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» «1»
قال: وكان سبب الوحشة بينهما هذا.
وقال ابن أبي حاتم «2» : كان البخاري إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانا، فكنت أراه يقوم في ليلة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة، فيوري نارا بيده، ثم يخرج أحاديث، فيعلم عليها، ثم يضع رأسه، وكان يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة يوتر بواحدة، وكان لا يوقظني في كل ما يقوم، فقلت له: إنك تحمل على نفسك كل هذا، ولا توقظني، قال: أنت شاب فلا أحب أن أفسد عليك نومك، ورأيته استلقى على قفاه يوما، ونحن بفربر في تصنيف كتاب التفسير، وكان أتعب نفسه في كثرة إخراج الحديث، فقلت له: يا أبا عبد الله سمعتك تقول يوما: إني ما أتيت شيئا بغير علم قط منذ عقلت، قلت: وأي علم في هذا الاستلقاء؟ قال: أتعبنا نفسنا في هذا اليوم، وهذا ثغر من الثغور خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح (ص 169) وآخذ أهبة ذلك، فإن عافصنا «3» العدو كان بنا حراك «4» .
وقال البخاري: صنفت كتابي الصحيح في ست عشرة سنة، وخرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى، وما وضعت فيه حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين، وكتبت عن ألف شيخ، وأكثر ما عندي حديث إلا أذكر إسناده، ورب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر.
وقال عبد القدوس بن عبد الرحمن السمرقندي: جاء البخاري إلى خرتنك وكان له بها أقرباء «1» فنزل عندهم، قال: فسمعته ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه:
" اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك"
قال: فما تحرّ الشهر حتى قبضه الله إليه، وقبره بخرتنك.
وقال عبد الواحد بن أحمد الطواويسي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقف في موضع ذكر، فسلمت عليه، فقلت: ما وقفك يا رسول الله؟
فقال: أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري.
فلما كان بعد أيام بلغني موته، فنظرنا، فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وكان ذلك ليلة السبت عند صلاة العشاء، وكانت ليلة عيد الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين بخرتنك، ومولده يوم