الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكررها، فلهذا أدعو له آناء الليل والنهار. قلت: ولقد صدق الملك العادل رحمه الله في قوله، فهكذا كان وما زال حمى الخلافة مصونا والبلاد محمية الأطراف متماسكة القوى حتى مات السلطان علاء الدين تكش «1» ، ثم ابنه السلطان جلال الدين محمد «2» رحمهما الله، فمالت التتار على الآفاق، وطمى سيلهم على الأرض فانتهكت حرمة الإسلام، وأخذت دار السلام، وأنهرت أوداج الأرض بالدماء، وسبت الكرائم، وترامت الهاشميات إلى دجلة، وقتل الخليفة، وشوهت الخليقة، وماج الثقلان، وكان ما كان، فرحم الله الملوك الخوارزمية، لقد (ص 16) جاهدوا في الله حق جهاده، وقاوموا التتار مدة سنين، إلى أن علا السيل الزبى، وبلغ الحزام الطبيبين، ولو شاء ربك ما فعلوه. فهل في الغرب من بلغ سلطانه هذا المبلغ، وعظم في الملك شأنه إلى هذا الحد، وهل فاض الملك من الشرق على الغرب، أم من الغرب على الشرق؟ قل وأنصف أيها المسؤول، ولا تقل عن المستنصر الفاطمي لما خطب له ببغداد،
[فتنة البساسيري]
فتلك سنة مظلمة كان سببها أرسلان البساسيري «3» ، لعداوة ابن
رئيس الرؤساء «1» ، ثم عاد الحق إلى أهله، بيد بني سلجوق، وقام القائم في مقامه، وقال «2» المعاند في حر انتقامه. ولم تكن تلك العارضة إلا شبهة بقضية سليمان عليه السلام إذ ألقي الجسد على كرسيه «3» . وقد قال ابن سعيد: إن السلطان من بلغ جيشه عشرة آلاف، فأين هو ممن بلغ ستمائة ألف، ولكنه تكلم على أعظم ما عنده مما رآه في بلاده ولو تخطى خطا إلى المشرق لما قال هذا المقال، ولا ضرب عن ضرب مثل هذا المثال. ومن المشرق الأنوار تفيض وفي الغرب تغيض «4» ، فالشمس لا تصل إلى الغرب إلا وقد ضعف فعلها، وقل تأثيرها، فلا يقابلها أهل المغرب إلا منكبّة عن أفقها، مولية على أدبارها، فهي في الشرق فتية، وهي في الغرب هرمة، وشتان ما بين الحالين، وبون كبير بين الجانبين، فهذا لا يقاس أهل الغرب بأهل الشرق في حسن الصور، وبهجة المرائي، ويكفيك النظر إلى الوجوه والشمائل، وحسبنا حكاية حكاها ابن سعيد في
المغرب، قال: إن تاجرا من أغنياء العجم سمع بسلطنة بني عبد المؤمن «1» فانتخب بالمشرق طرفا تليق أن تهدى إلى الملوك، وكتب الله سلامته حتى وصل إلى مراكش، وبها حينئذ العادل ابن المنصور «2» وهو يخطب (ص 17) له بالخلافة، فقدم له تلك الهدايا، وفي جملتها مملوك تركي زعم أن قيمته عليه عشرون ألف درهم مغربية، فلم يقبله العادل ولا وجد من يبتاعه منه، وصار إذا مشى به تعجب الناس من زيّه، وذهلوا في صورته التي لم يعتادوها، فبلغ ذلك قاضي القضاة وكان صاحب ناموس «3» مغربي، فأمره أن يغير زيّه بالزي المغربي، فقال ابن حوط كاتب العادل فيه:[الخفيف]
بأبي شادن «4» من الترك أبدى
…
زيّه زهرة حوتها كمامه
متروا ردفه فأبدوا جبالا
…
حين سارت قامت علينا القيامه
فلما لبس الزي المغربي قال أبو الربيع الداني: [البسيط]
يا حاكم المسلمين الله بينهم
…
وبين جائر حكم أنت مظهره
غيّرت زيا لظبي الترك ذا بدع
…
يسبي نواظر أهل اللطف منظره
قد كان ميّز منه كلّ جارحة
…
بشكله يقرأ التفسير مبصره
حجّبه عن أعين العشاق إن قدرت
…
قساوة منك دون الناس تهجره
وفيه قيلت هذه الأبيات مرافدة: [مجزوء الخفيف]
فتنة الترك قد أتت
…
من بلاد المشارق
أيّ شخص بدا له
…
دينه لم يفارق
إنّ أحدا قنا به
…
أبدا في حدائق
لم نطق سلوة
…
مذ بدا في المناطق
فها أنتم أهل المغرب رأيتم واحدا من أهل المشرق بزيه فتنكم حسنه، حتى خاف قاضيكم، المشفق عليكم الفتنة بحسنه وبحسن زيّه، وقال (ص 18) فيه شعراؤكم ما قالوا، حتى عرض أحدهم بمفارقة الدين في هواه، وما ترك خليفتهم- والله أعلم- قبوله نحلا بالعوض عنه، ولكن خوف الفتنة به، لإبداع حسنه في رأي عيون أهل المغرب، إذ لا نظير له عندهم فيقع في ظنونهم. إن مثل هذا لا صبر لأحد عنه، ولعل هذا المملوك ما كان حدّ نفسه، ولا واحد جنسه، وهل هو إلا واحد من أهل بلاد لا ينظر إليه فيها بعين الاستحسان، ولا يفرق فيها بينه وبين غيره من الغلمان. هذا وقد قال قائلكم واحتفل أن قيمة ذاك المملوك على ما زعم تاجره عشرون ألف درهم مغربية، ولعمرك لقد كثّر غير كثير، وعظّم غير عظيم، و «1» هل الدراهم المغربية إلا الدراهم السود كل ثلاثة بدرهم نقرة «2» من نقد مصر؟؟ وكان الترك في ذلك الوقت أغلى قيمة من وقتنا هذا بأضعاف مضاعفة، ولعله لو كان بمصر اليوم لما سوي أكثر من ألفي درهم. وكم في إصطبلات آحاد الأمراء مملوك بألفين وفوق الألفين، بل فيها من ثمنه عشرة آلاف درهم وما يزيد وينقص. فكيف لو رأيتم اليوم المماليك بمصر، وفيهم مع كثرة الجلب ورخص القيمة من بلغ ثمنه ثمانين ألف درهم، ثمنها من دراهمكم مائتا ألف وأربعون ألفا «3» لكنتم ترون ما تحار فيه عقولكم، ويعشي لمعانه أبصاركم، وأحسن ما فعله قاضيكم في تغيير زي هذا المملوك المشرقي بالزي