الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحصّل علم الحديث هناك، ثم رجع إلى الشام، وتولى تدريس المدرسة الصلاحية ببيت المقدس، وأقام مدة وأشغل الناس وانتفعوا به، ثم عاد إلى دمشق فولي تدريس الرّداحيه، ومشيخة دار الحديث الأشرفية، وتدريس الشامية التي داخل/ (ص 290) دمشق، وقام بالوظائف الثلاث من غير إخلال بشيء إلا لعذر شرعيّ، وكان من العلم والدين على قدم حسنة، وله مصنفات مفيدة وإشكالات على الوسيط، وجمعت فتاويه في مجلّد ولم يزل أمره جاريا على سداد وصلاح حال، واجتهاد في الاشتغال والنفع، إلى أن توفي يوم الأربعاء، وقت الصبح، وصلّي عليه بعد الظهر وهو الخامس والعشرون من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وأربعين وستمائة بدمشق، ودفن بمقبرة الصوفية، ومولده سنة سبع وسبعين وخمس مائة.
ومنهم
161- يحيى بن شرف بن مزي بن الحسن بن الحسين الحزامي النووي
«1» الشافعي الحافظ شيخ الإسلام علم الأولياء، قدوة الزهاد محيي الدين أبو زكريا صاحب التصانيف، رجل علم وعمل ونجاح سؤل وأمل، وكامل وقلّ مثله في الناس من كمل، وفّق للعلم وسهّل عليه ويسّر له وسيّر إليه، من أهل بيت من نوى من كرام القرى وكرام أهل القرى، لهم بها بيت مضيف لا تخمد ناره ودار قرى لا يخمل مناره، طلع من أممهم سادات، وسمع لكرمهم عادات، وجمع لهممهم أطراف السعادات، ونبت فيهم نباتا حسنا، ونبغ ذكاء ولسنا، وأتى دمشق متلقنا للأخذ عن علمائها، متقللا من عيشها حتى كاد يعفّ فلا يشرب من مائها، فنبه شكره ونهب مدى الآفاق ذكره، وحلق اسمه، وذكر تصنيفه
وعلمه، فلما سوّلت للملك الظاهر «1» بيبرس أمانيه، وحدثته نفسه من الظلم بما كاد يأتي/ (ص 291) قواعده من مبانيه، وكتب له من الفقهاء من كتب، وحمله سوء رأيه على بيع آخرته بشيء من الذهب، ولم يبق سواه فلما حضر هابه وألقى إليه الفتيا فألقاها وقال: لقد أفتوك بالباطل ليس لك أخذ معونة حتى ينفذ أموال بيت المال، وتعيد أنت ونساؤك ومماليكك وأمراؤك ما أخذتم زائدا عن حقكم، وتردوا فواضل بيت المال إليه. وأغلظ له في القول، فلما خرج قال:
اقطعوا وظائف هذا الفقيه ورواتبه، فقيل: إنه لا وظيفة له ولا راتب، قال: فمن أين يأكل؟ قالوا: مما يبعث إليه أبوه من نوى، فقال: والله لقد هممت بقتله، فرأيت كأن أسدا فاغرا فاه بيني وبينه لو عرّضت له لالتقمني. ثم وقر له في صدره ما وقر، ومدّ إليه يد المسالمة يسأله وما افتقر.
ثم كانت سمعة النووي التي شرّقت وغرّبت، وبعدت وقربت، وعظم شأن تصانيفه، وبيان البيان في مطاوي تواليفه، ثم هي اليوم محجة الفتوى وعليها العمل وما ثمّ سوى سببها الأقوى.
ولد في المحرّم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقدم دمشق سنة تسع وأربعين فسكن في الرواحية، وتناول خبز المدرسة، وحفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع المهذب حفظا في باقي السنة، ثم حجّ مع أبيه، ومرض أكثر الطريق، قال مخبرا عن نفسه: إنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درسا على
مشايخه، شرحا وتصحيحا في الحديث والفقه والنحو والأصلين والتصريف، وأسماء الرجال. قال: وكنت أعلّق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي، وخطر لي أن أشتغل في/ (ص 292) الطب واشتريت كتاب القانون، فأظلم قلبي، وبقيت أياما لا أقدر على الاشتغال، فأفقت على نفسي، وبعت القانون فأنار قلبي.
وسمع الكتب الستة والمسانيد والموطأ وغير ذلك، ولازم الاشتغال والتصنيف ونشر العلم، والعبادة والأوراد، والصيام والذكر، والصبر على العيش الخشن في المأكل والملبس ملازمة كلّية لا مزيد عليها، ملبسه ثوب خام، وعمامته شبختانيّة صغيرة، وتخرّج به جماعة من العلماء، وكان لا يضيّع له وقتا في ليل ولا نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، ودام على هذا ستّ سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة، وقول الحق مع ما هو فيه من المجاهدة لنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة، وتصفية النفس من الشهوات والشوائب ومحقها من أغراضها، وكان حافظا للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعلله، رأسا في معرفة المذهب، [حكى أبو الحسن ابن العطار «1» عنه أنه قال: كنت مريضا بالرواحية فبينا أنا ليلة في الصفة (الشرقية) بها ووالدي وإخوتي نائمون إلى جانبي إذ عافاني الله من ألمي ونشطني للذكر فجعلت أسبّح بين السر والجهر، فبينما أنا كذلك إذا بشيخ حسن الصورة جميل المنظر يتوضأ على البركة قريبا من نصف الليل، فلما فرغ من وضوئه أتاني وقال لي: يا ولدي لا تذكر فتزعج
أباك وإخوتك وأهل المدرسة فقلت: يا شيخ من أنت؟ قال: أنا ناصح لك، ودعني أكون من كنت، فوقع في نفسي أنه إبليس، فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ورفعت صوتي بالتسبيح، فأعرض عني ومشى نحو باب المدرسة، فقمت أتبعه فلم أجده، ووجدت الباب مقفلا، وفتشتها فلم أجد أحدا فيها، غير من كان فيها، فقال لي والدي: ما خبرك يا يحيى؟ فأخبرته، فجعل هو وإخوتي [يتعجبون وقعدنا كلنا نسبح ونذكر
…
«1» ] .
قال ابن فرح «2» : صار الشيخ محيي الدين إلى ثلاث مراتب كل مرتبة منها لو كانت لشخص لشدّت إليه الرحال: العلم والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حكى لي العلامة أبو اليسر «3» : أنه جرى في مجلس أبيه قاضي القضاة أبي عبد الله بن الصايغ «4» ذكر النووي وشيخه العالم الرباني أبا إبراهيم إسحاق
ابن أحمد بن عثمان المغربي «1» الشافعي رحمهما الله، فقال ابن الصايغ: لو أدرك القشيري «2» - صاحب الرسالة- النووي وشيخه لما قدّم عليهما أحدا من مشايخ الرسالة، لما جمع فيهما من العلم والعمل والزهد والورع والنطق بالحكم وغير ذلك.
[وحكى الشيخ القدوة المسلك أبو الحسن علي «3» المقيم بجامع بيت لهيا «4» بها قال: مرضت بالنقرس رجلي فعادني النووي فلما جلس إلي جعل يتكلم في الصبر، وجعل الألم الذي بي يذهب، فلما انتهى كلامه جميعه زال الألم جميعه، فعلمت أن ذلك ببركته. أو كما قال] . «5»
وقال شمس الدين بن «1» الفخر كان إماما بارعا حافظا متقنا، أتقن علوما شتىّ وصنّف التصانيف الجمّة، وكان شديد الورع والزهد، تاركا لجميع ملاذ الدنيا من المأكول إلا ما يأتيه به أبوه من تين وكعك، وكان يلبس الثياب المرقّعة الرثّة ولا يدخل الحمام، ولا يأكل الفواكه، ولم يتناول من الجهات درهما، وحكى أبو الحسن ابن العطار أنه عذل في عدم دخوله الحمام، وتضييق العيش في مأكله وملبسه وأحواله وخوّف/ (ص 293) من مرض يعطّله عن الاشتغال. فقال: إنّ فلانا صام وعبد الله حتى اخضر جلده، وكان يمتنع من أكل الفواكه والخيار، ويقول: أخاف أن ترطّب جسمي وتجلب النوم، وكان يأكل في اليوم والليلة أكلة، ويشرب مرة واحدة عند السحر. قال ابن العطار: كلمته في الفاكهة، فقال: دمشق كثيرة الأوقاف، وأملاك من تحت الحجر والتصرّف لهم لا يجوز إلا على وجه الغبطة لهم، ثم المعاملة لهم فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك. [وأيضا فغالب من يطعم إنما يأخذ الأقلام والعين غصبا أو سرقة، لأن أحدا ما يهون عليه بيع أقلام أشجاره وكشط لحائها، ولا جرت بذلك عادة ولا تجارة أحد من خلق الله تعالى، فيطلع الثمر في نفس ذلك المغصوب أو المسروق، فتكون الثمرة ملكا لصاحب القلم أو العين لا لصاحب الشجرة ويبقى بيعه وشراؤه حراما] . «2»
وكان لا يقبل من أحد شيئا إلا في النادر ممّن لا يستغل عليه، أهدى له فقير
إبريقا فقبله، وعزم عليه البرهان الإسكندري «1» للفطر عنده في رمضان، فقال أحضر الطعام إلى هنا ونفطر جملة فأكل من طعامه، وكان لونين، وربما جمع بعض الأوقات بين أدمين، وكان يواجه الملوك والظلمة بالإنكار ويكتب إليهم ويخوّفهم بالله، كتب مرة إلى سلعك الخزاندار «2» كافل الممالك:
من عبد الله يحيى النووي سلام الله ورحمته وبركاته على المولى المحسن ملك الأمراء بدر الدين أدام الله له الخيرات وبارك له في جميل أحواله آمين، ونهي إليّ العلوم الشريفة، أن أهل الشام في ضيق وضعف حال بسبب قلة الأمطار، وذكر فصلا طويلا، وفي طيّ ذلك ورقة إلى الملك الظاهر «3» ، وله غير رسالة إلى الملك الظاهر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووافقه مرة بدار العدل، فحكى أن الظاهر قال: أنا أفرغ منه، وحدث له معه فصول، ثم إن الشيخ سافر فزار القدس ثم عاد إلى نوى، فمرض عند والده وحضرته المنية، فانتقل إلى الله عز وجل في الرابع والعشرين من شهر رجب الفرد سنة ست وسبعين وستمائة، وقبره ظاهر مقصود بالزيارة رحمه الله تعالى. [وحكى لنا أخوه الشيخ عبد الرحمن عنه أنه لما مرض مرض موته اشتهى التفاح فأتي به فلم يأكله، فلما مات رآه بعض أهله فقال له: ما فعل الله بك فقال: أكرم نزلي وتقبل عملي، وأوّل قرى جاءني التفاح، وحكى لنا أنه لما دفن حيث هو إلى أن أراد أهله أن يبنوا على ضريحه قبّة فرأته عمته وهو يقول لها: قولي لأخي والجماعة لا يفعلوا هذا الذي عزموا عليه من البنيان عليه، فإنهم كلما بنوا شيئا يهدم عليهم] . «13»