الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أشباههم نجوم الظلام، ما منهم إلا من إذا كتب كبت «1» الصفايح، وكبت «2» وراءه القرائح، يحيد متسرعا، ويجيء بالدر، ولا تلقاه عما للناس إلا متورعا، يخرج زهره من أكمامه «3» ، وتخلف زهره النهار إذا وازاه جنح ظلامه، أو جناح غمامه.
[جاء في المتأخرين من لم يرض طرق المتقدمين]
وقد جاء في المتأخرين منهم من لم يرض طرق المتقدمين، ولم يرض جامح فكره حتى يلين، بل جاء بما هو أرق من النسيم نفسا، وأعذب مما ذاب في كؤوس الثغور لعسا «4» ، وتفنن «5» في الأساليب، وحكى ملحمة حرب ولا يظن سامعه إلا أنه فصل غزل أو نسيب «6» ، مع إحكام المعاني، وإتعاب من لها يعاني، واستيفاء شرط المعركة، وحظ شواجز «7» الرماح المشتبكة، لكن يكسوها من حلل ألفاظه ما يوهم السامع أن الحماسة غزل، وأن الأجفان «8» الأجنان «9» ، والسيوف
المقل «1» ، فيفيدها حلاوة من نطف «2» ألفاظه العذاب، ولطف بدائعه التي تبدو في فيه كأنها الأري المذاب «3» ، واخترعوا أنواعا من البديع زادت كلامهم رونقا، ونشرت منه روضا مؤنقا، وجرت من ينابيع خواطرهم سلسلا متدفقا، وسيلا سبق ارتداد الطرف وكأنه جاء مترفّقا، وأتوا في هذا بما لا قدرت عليه الأوائل، وربّما أتي لهم وما أتوا فيه بباطل، وإن كان أصل ما جاء للمتأخرين مما غبر، فإن السيوف تجز الرقاب، وتعجز عما تنال الإبر، وكذلك إذا نظرت بعين المنصف، واطرحت هوى النفس لا تجد للمغرب لدى المشرق يدا في (ص 70) فضل ولا باعا في علياء، وإن كنت قد ذكرت هذا مجملا فأفصله، أو مبهما فسأبينه، ولله عليّ أن لا أعدل عن سراط «4» الحق السوي، ولا أنكب «5» عن قصد الإنصاف الأمم «6» ، ولا أدعي ذلك في الأفراد بل في الجملة، ولا في الجزء بل في الكل، وبالله أسترشد، ومنه أسأل الإعانة، ثم إني لا أقصر ما وجدت طلقا ممتدا، إلا إذا خشيت أن أملّ، ولا أطيل ما رأيت إيجازا مغنيا إلا إن خفت أن أخل، وها أنا أقول: إن الذي يعرف به التفاضل منحصر في الحيوان، والنبات والمعدن، وأشرف الحيوان الإنسان، وهو طبقات متفاوتة، أعلاها ذروة الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام، ثم من بعدهم أصحابهم، ثم الناس أشباه، وإن تفاوتت درجاتهم، وتباينت أقدارهم، لا يفضل فيهم إلا العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، والنفع بهم أعم من الأولياء.
فأما الأنبياء صلوات الله عليهم فقد تقدّم ما فيه كفاية من تقرير شرف المشرق بهم، وشرّف المغرب بسببهم، إذا كان بالمشرق مواضعهم ميلادا، ومباعثهم أحياء، ومدافنهم أمواتا، إلا من كان بمصر أو دخل إليها ممن ليس من أهلها، ثم خرج منها على ما بين فيما تقدم ببعض تفصيل فيه غنى «1» ، وكذا الشأن في الصحابة الفائزين بفضل السابقة، وقد مضت في هذا لمع أو مضت أشعتها «2» ، ومضت وبقيت في الآذان سمعتها، ولو عدلوا بنظير في المغرب لذكرناهم، فإذ لم يكن فلنضرب عن ذكرهم صفحا، ولنكن لهم دون منبلج «3» الليل صبحا، اللهم إلا من لزم ذكره مع طائفة لم يكن من ذكره معهم بدّ، ولا لسيل هذا التصنيف عنه مردّ، فإن انتصر منتصر للغرب فقال: لا يلزم من عدم الاطلاع على أن من الغرب أنبياء أنه لم يكن به أنبياء لقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ
«4» ومن المحقق أن الغرب لم يزل فيه أمة بعد أمة. فالجواب:
إنه ليس في الآية ما يدل على ذلك، لأنه تعالى قال:(خلا فيها نذير) ولم يقل منها التي هي للتبعيض، ليكون النذير من أمة الغرب، كما هو في قوله تعالى:
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
«5» بمن التي هي للتبعيض، وقد قرأ بعض
القراء من أنفسكم، بفتح الفاء «1» ، فأفاد أن منهم من أشرفهم، فاحتمل أن يكون النذير فيها، وليس منها، ويبقى أن يكون النذير الذي فيها منها موقوفا على النقل، ولم نعلمه، فهذا أمر الأنبياء بالجانب الغربي، وأما من بعدهم فأعلاهم كعبا «2» القراء، ثم أهل الحديث (ص 71) الشريف، ثم الفقهاء ثم أهل اللغة، ثم أهل النحو، ثم الفقراء، أصحاب القلوب «3» ، ثم الحكماء وهم أصحاب العلوم الثلاثة، والوزراء والكتاب، والخطباء والشعراء، والأذكياء وعقلاء المجانين، والحمقى والمغفلين، وها أنا ذاكر لهم في كل من قسمي المشرق والمغرب، على هذا الترتيب، وأسوقهم زمرا للدخول في هذا التبويب، وآتي بمشاهيرهم، جاهلية وإسلاما، وأمواتا وأحياء إلى عصرنا التي بدأت شمسه تجنح، وآن لبحر الليل على نهر نهاره أن يطفح، وحان للثور الحامل للدنيا أن يلقى قرنه «4» ،
ولإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور أن يلقم قرنه، وللجديدين «1» أن يخلق ثوباهما، وللخافقين أن يلتقي جانباهما «2» ، وللأفق أن ينزع سواره من معصمه، وللشفق أن ينضح بماء الصباح ما تلطخ به ثوبه من دمه، ولقد كان لي بانتظار الأجل القريب «3» شغل عن زخرف القول الذي فيه تعليل لباطله، وتشقيق الكلام الذي فيه تعليق اللسان بحبائله، بل اللهم فيما أثبته ذكرى لمصارع الأموات، وبمواقع الصائد المجدّ في مصائد المنون، وقد ظنّ أنه قد سبق به الفوات، وإذ قد عرّضت عرضي بهذا التأليف هدفا لسهام الألسنة الراشقة «4» ، ودريئة «5» لرماح الطعن الماشقة «6» ، وسمحت به طرفة لكل خاطف، وثمرة لكل قاطف، ينهبه كل ناهب، ويذهب به كل ذاهب، وأقدمت على هذا البناء العظيم، ورعيت في هذا الكلام الوخيم، وهجمت على هذا الملأ، الذي لا أكاد أثبت معرفة واحد من أمه، ولا أميز صفه ذا غرة «7» من دهمه «8» ، واقتحمت هذا البحر وأنا أعرف خطره، ودخلت هذا البر وأنا أجهل خبره، قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون، فها قد رهنت بما قلت كلامي، وحاللت بما قالوا لوامي، وركبت الغمرة وأنا لا أعرف أسبح، وسريت الليل وأنا لا (ص 72) أدري فجره أين
أصبح، على أنني أرغب إلى من أعازه أدنى تأمل، أن يكشف ليتبين أتيت صوابا أم خطأ، وأصالة أم خطلا، فو الله ما قصرت جهد المقدرة، ولا فعلت إلا فوق الطاقة إن قبل مني المعذرة، وقد دخل في ذيل الحكماء أرباب الكلام وأصحاب الموسيقا، واشتمل ثوب الأدباء على أعيان الوزراء. وعيون الكتاب والخطباء والشعراء، وقدمت الكتاب على الخطباء، لأن الكاتب لو شاء جرّد من نفائس تقاليده ومناشيره «1» وتواقيعه «2» دواوين خطب، وأفانين «3» تهز بجذع منبره بها من خطب، والخطيب قد لا يقدر على إنشاء رسالة واحدة، وكذلك أرباب المقامات «4» التي لو حقق ما وضعت له لم يكن فيه كبير فائدة. ثم أذكر بعد نوع الإنسان سائر الحيوان، ثم النبات، ثم المعدن، ناقلا له من كتب الأطباء والعشابين مصورا لما قدرت على تصويره منه، محررا له بغاية الإمكان، بعد أخذ