الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رفيقنا شيخ مغشيا عليه، فجئنا نحركه وهو لا يعقل، فتركناه ومشينا فرسخا، فسقطت مغشيا علي، ومضى صاحبي، فرأى على بعد سفينة، فنزلوا الساحل، فلوّح بثوبه فجاءوه، فسقوه، فقال: أدركوا رفيقين لي، فما شعرت إلا برجل يرش على وجهي، ثم سقاني، ثم أتوا بالشيخ، فبقينا حتى رجعت إلينا أنفسنا.
توفي أبو حاتم في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين، وله ثنتان وثمانون سنة.
ومنهم:
86- أبو عيسى الترمذي
«1» محمد بن عيسى بن سورة بن موسى ابن الضحاك السّلمي «2» الحافظ «3» المشهور.
أحد الأئمة المقتدى بهم في علم الحديث، والمقتفي وفد الرياح إليه في السير الحثيث، أخذ عن البخاري وما نهنه «4» عن طلبه، ولا ضحضح «5» في قلبه حين
استقى من سحبه، وارتوى بأعذبه، حام حيث حلق، وطار معه أو به تعلق، وأتقن التصنيف، وقال وحقق، فاز قدح ترمذ منه بأحد الأئمة المشاهير، وعاشت به ما عاشت، وما علمت أن ابنها من قريش في الجماهير، كيف لا يكون منهم وقد ذكر من حديث سيدهم، بل سيد البشر ما كأنه حضر به معهم في أنديتهم، وعلم من أخبارهم ما كأنه كان به في جلابيب «1» أرديتهم وتبرحت «2» سليم فخرا به، وسرورا بنسبه، لقد أعقبت ابن مرداسها العباس «3» بجده الضحاك «4» ، وقاست به من مضى ثم قالت: أين- لولا سابق الصحبة- هذا من ذاك، ثم نقعت «5» قبيلته غلل «6» صداها «7» (ص 178) بكوثره.
وجلت «1» حايل «2» قذاها «3» منه بما لا يعزوه الكمال إلى سليم من نفع أصغره «4» .
صنف كتاب الجامع «5» والعلل «6» تصنيف رجل متقن، وكان يضرب به المثل في الحفظ وهو تلميذ أبي عبد الله البخاري، ومع هذا فشاركه في بعض شيوخه «7» .
«8» ................ .............
توفي ليلة الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين.
ومنهم:
87-
أبو عبد «1» الرحمن النسائي
«2» . أحمد بن علي بن شعيب «3» بن علي بن سنان بن بحر الحافظ.
أنسى كثيرا ممن تقدم، وأرسى ثبيرا «4» أو يلملم «5» ،
وأشرى «1» للطلب والريح قد ونت «2» ، والنجم قد هوّم «3» ، وكان بجديه لا يجبن له جبان، ولا يخطا نحره، ولا ترد له حمله وهو يطعن بسنان، ويكاثر ببحر، رفعت به متلعة «4» جيدها نسا، وطلعت في سطور تصانيفه الشموس مسا، وقام في أهل دمشق ليقوم مناد نصبهم «5» ، ويقشع «6» عنهم مدهام «7» غضب ربهم، وأراد أن يكرمهم بما لعلي- كرم الله وجهه- من علو قدر، وسابقة إن أنكرتها الطلقاء «8» ، فسل عنها سيفه يوم بدر، فعجلت الحمية لهم نار الغضب، وكوت حنق صدورهم ببعض ما أعد لهم في المنقلب، ووثبوا بالرجل، ولكن الطود لا يزعزعه من وثب، وكان إمام عصره في الحديث (ص 179) سكن مصر، وانتشرت بها تصانيفه وأخذ عنه الناس.
قال محمد بن إسحاق الأصبهاني «1» : سمعت مشايخنا بمصر يقولون: إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل.
وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا" لا أشبع الله بطنك «2» " وكان يتشيع، فما زالوا يدفعون في خصييه حتى أخرجوه من المسجد، ثم حمل إلى الرملة فمات بها.
وقال الدارقطني: لما امتحن النسائي بدمشق، قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها، فتوفي بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة.
وكانت وفاته في شعبان سنة ثلاث وثلاثمائة.
وقال أبو نعيم: كان قد صنف كتاب الخصائص في فضائل علي بن أبي طالب وأهل البيت، وأكثر روايته فيه عن أحمد بن حنبل، فقيل له: ألا تصنف كتابا في فضل الصحابة؟.
فقال: دخلت دمشق والمنحرف عن علي كثير، فأردت أن يهديهم الله بهذا الكتاب، وكان يصوم يوما، ويفطر يوما، وكان مليح الوجه ظاهر الدم مع كبر
السن، يؤثر لباس البرود النوبية «1» والخضر «2» ، ويكثر الاستماع «3» ، ويكثر أكل الديوك الكبار، تشترى له وتخصى وتسمن، وكان موصوفا بكثرة الجماع.
قال ابن عساكر: كان له أربع زوجات يقسم لهن وسراري.
وقال ابن يونس في تاريخ مصر: قدم أبو عبد الرحمن النسائي مصر قديما، فكان إماما في الحديث ثقة ثبتا حافظا، وخرج من مصر في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثمائة، ثم حكى وفاته كما قدمناه «4» .
قال ابن خلكان «5» : ورأيت في مسوداتي أن مولده بنسا سنة خمس عشرة ومائتين.
ومنهم:
88-
أبو جعفر «1» الطبري
«2» محمد بن جرير بن يزيد (ص 180) بن كثير «3» الإمام العلم الفرد صاحب التصانيف، فلا لمخر «4» البيداء، ولحر يهب ظلم الليلة السوداء، بل ركب جنح غمامها المربدّ «5» ، وقبل ثغر برقها المبيض، عارضه المسود، وقذف في فائض بحره سفنه، ومدّ مع عارض فجره سنه «6» ، وألقى حبل حوزائه «7» على
غاربه «1» ، وحدا «2» ظعن «3» ظلماته إلى مغاربه، وأقبل يشق الأرض شقا، ويمشق «4» حروف المطي في سطر المهمه «5» الممتد مشقا، لا يدع سهلا حتى يطوي ذيل نمرقه «6» ، ولا جبلا حتى يغصه فوق مفرقه، ولا بحرا إلا قطعه، ولا ألا إلا قطّعه، إلى أن لقي بغيته وأحرزها، ومطلبه وحصل جواهره وكنزها، لكنها علوم نافعة، وغيوم ناقعة «7» ، وحديث نبوي جمع أطرافه، وضم أطرافه، حتى صنف التفسير الذي صدقت فيه الأحلام وسبقت لتلقيه الأقلام، أنقذ به من الضلالات، وأخرج إلى نور المعرفة من ظلم الجهالات، وأقام به الحق بأوضح الدلالات بفرط اجتهاد شق به الصديعين «8» ، وشد رحلة الشتاء والصيف والربيعين، ولم ير هلال شهر ثم عرف متى انمحق «9» ، ولا كيف اتصل بالعدم والتحق، لشواغله بالطلب الذي لا ينتهي والأرب الذي بغيره لا يلتهي، والفضل
المكتسب الذي لو قال له: ما مناك في الدنيا؟ لقال: أنت هي. ولا كان تخاط جفنة «1» بغرار «2» ولا يحاط قلبه بقرار، ولا يزال يهمه رجل يلقاه، وعلم لا يضره أنه يحصله، ويموت إذا أبقاه.
قال أبو بكر الخطيب: كان ابن جرير أحد الأئمة «3» يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وجمع العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله «4» بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن (ص 181) عالما بالسنن وطرقها، سقيمها وصحيحها، ناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين «5» ، بصيرا بأيام الناس وأخبارهم، له الكتاب المشهور الكبير في تاريخ الأمم «6» ، وله كتاب التفسير الذي لم يصنف مثله، وله كتاب تهذيب الآثار لم أر مثله في معناه «7» ولم يتمه، وله في الأصول والفروع كتب كثيرة «8» ، وله اختيار من أقاويل الفقهاء، وقد تفرد بمسائل حفظت عنه، قيل: إن المكتفي «9» أراد أن يقف وقفا يجتمع عليه أقاويل العلماء، قال: فأحضر له ابن
جرير، فأملى عليهم كتابا لذلك، فأخرجت له جائزة، فلم يقبلها، فقيل له: فلا بد من قضاء حاجة، قال: أسأل أمير المؤمنين أن يأمر بجمع السائلين من الفقراء يوم الجمعة- يعني في المساجد- ففعل ذلك.
وكذا التمس منه الوزير أن يعمل له كتابا في الفقه، فلما ألّفه، وجه إليه ألف دينار، فردها.
وقيل: مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة.
وقال تلميذه أبو محمد الفرغاني «1» : حسب تلامذة أبي جعفر منذ احتلم إلى أن مات، فقسموا على المدة مصنفاته، فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة.
وقال أبو حامد الإسفراييني «2» : لو سافر رجل إلى الصين في تفسير ابن جرير لم يكن كثيرا.
وقال أبو بكر بن خزيمة «3» : ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير.
وقال الفرغاني: كان ابن جرير لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظم ما يؤذى، فأما أهل الدين، والعلم فغير منكرين عمله، وزهده، ورفضه للدنيا، وقناعته بما يجيئه من حصة خلفها له أبوه بطبرستان.
وقال عبيد الله بن أحمد السمسار: قال ابن جرير- يوما- لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم. قالوا: كم يجيء؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة (ص 182) قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فقال: إنا لله، ماتت الهمم، فأملاه في نحو ثلاثة آلاف ورقة.
ولما أراد أن يملي التفسير، قال لهم كذلك، ثم أملاه على نحو من التاريخ.
وقال الفرغاني: بث ابن جرير مذهب الشافعي ببغداد سنين، واقتدى به، ثم اتسع علمه، وأداه اجتهاده إلى ما اختار في كتبه، وعرض عليه القضاء، فأبى.
وقال ابن جرير: من قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى يقتل.
توفي «1» عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة، ودفن بداره برحبة يعقوب. [وشيعه إلى المسجد، ثم إلى القبر خلق لا يحصرون، وصلى على قبره عدة شهور، ورثاه أهل الأدب والدين»
] ، وكان السواد فيه كثيرا، ولم يغير شيبه، وكان أسمر إلى الأدمة، أعين «3» ، نحيف الجسم فصيحا.
ومنهم:
89-
محمد بن إسحاق بن خزيمة «1» أبو بكر السّلمي النيسابوري
«2» إمام الأئمة، شيخ الإسلام، ومن شهد له خزيمة فحسبه «3» ، ومن جحد فضله فجحوده حصبه «4» ، فاحت خزامى «5» تصانيفه مما قصم دونه القيصوم «6» ، وتحدر عن لمم الشيح «7» لؤلؤ الطل المنظوم، وغدا بها أبو بكر من كل تصنيف وأخو كل عذراء، من كل معنى لطيف، وهيّج بها كل وجد، وجاء يقص بها الأخبار عمن حل بنجد، فما انتظر بها جفن صب خيالا من أميمة، ولا أنكر
شنشنة «1» قال: أعرف هذه من أخزم ولا شيمة «2» ، قال: وهذه أعرفها من ابن خزيمة.
ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وعني بهذا الشأن في الحداثة، وسمع فأكثر، وجوّد، وصنّف، واشتهر اسمه وانتهت إليه الإمامة والحفظ بخراسان، وحدّث عنه الشيخان في غير الصحيحين، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم «3» أحد شيوخه، وخلق لا يحصون.
قال ابن خزيمة: كنت إذا أردت (ص 183) أن أصنف الشيء دخلت في الصلاة مستخيرا حتى يفتح لي فيها، ثم أبتدئ ثمّ.
قال أبو عثمان الزاهد: إن الله ليدفع البلاء عن أهل نيسابور بابن خزيمة.
وسئل ابن خزيمة: من أين أتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له «4» » وإني لما شربت ماء زمزم سألت الله علما نافعا.
وقيل له: لو حلقت شعرك في الحمّام، فقال: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حماما، ولا حلق شعره- يعني في غير حج أو عمرة- إنما يأخذ شعري جارية لي بالمقراض.
وقال حفيده محمد بن الفضل بن أبي بكر «1» : كان جدي لا يدّخر شيئا جهده، بل ينفقه على أهل العلم ولا يعرف الشّحّ، ولا يميز بين العشرة والعشرين.
وقال أبو أحمد حسينك «2» : سمعت أبا بكر بن خزيمة يحكي عن علي بن
خشرم «1» عن ابن راهويه «2» أنه قال: أحفظ سبعين ألف حديث، فقلت لأبي بكر: فكم يحفظ الشيخ، فضربني على رأسي، وقال: ما أكثر فضولك، ثم قال:
يا بني ما كتبت سوادا في بياض إلا وأنا أعرفه.
وقال أبو علي النيسابوري: كان ابن خزيمة يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ القارئ السورة.
وقال أبو حاتم محمد بن حبان: ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح، وزياداتها حتى كأن السنن كلها بين يديه إلا ابن خزيمة فقط.
وحكى أبو بشر القطان: أن جارا- من أهل العلم- لابن خزيمة رأى كأن لوحا عليه صورة نبينا صلى الله عليه وسلم وابن خزيمة يصقله، فقال المعبر: هذا رجل يحيي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن سريج «3» :- وذكر له ابن خزيمة- فقال: يستخرج النكت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنقاش (ص 184) .
وقال الحاكم- في علوم الحديث «4» -: فضائل ابن خزيمة مجموعة عندي في
أوراق كبيرة، ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتابا سوى المسائل المصنفة، وهي أكثر من مائة جزء، وله في فقه حديث بريرة «1» في ثلاثة أجزاء.
وسئل ابن أبي حاتم [عنه]«2» ، فقال: ويحكم، هو يسأل عنا، ولا نسأل عنه، وهو إمام يقتدى به.
توفي في ذي القعدة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وهو في تسع وثمانين سنة.
ومنهم:
90-
أبو عوانة «1» الإسفراييني
«2» يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد النيسابوري «3» الحافظ صاحب المسند الصحيح «4» المخرج على كتاب مسلم بن الحجاج «5» ، المسلم إليه في الاحتجاج، الإسفراييني الذي ما حط له رحل من سفر، ولا حل له عقد منى إلا عن ظفر، ولا تجنّب ناحية من الأرض إلا وهو نحو أخرى يريدها، ولا أقل مدة مقام في بلد إلا لمدة في سواها يستزيدها، رميت الفجاج منه بحليم، يوقر بوخد «6» مطيه
سفهها، وعليم يجلي بصدق يقينه مشتبهها، طاف البلاد حتى ملت من سراه، وواصل الأيام حتى يئست الليالي من كراه، «1» وانتهت السباسب «2» وخدا، وأفنى الحقائب «3» شدا، وطلب الحديث فحصله حتى صار سواء عليه ما أعاد، وما أبدى.
طاف الشام، ومصر، والبصرة، والكوفة، وواسط، والجزيرة، وأصبهان، وفارس، والري، والحجاز، واليمن، وحج خمس مرات.
قال الحاكم: أبو عوانة من علماء الحديث، وأثباتهم، ومن الرحالة في أقطار الأرض لطلب الحديث.
توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة «4» ، وقبره بإسفرايين مزار العالم، ومتبرك الخلق.
ومنهم:
91-
عبد الله بن أبي داود «1» - سليمان بن الأشعث- الأزدي السجستاني
«2» (ص 185) أبو بكر العلامة قدوة المحدثين صاحب التصانيف والمقتدر على حسن التصريف، رحل رحلة بعدت أطرافا، وعقدت على مشرق الشمس ومغربها طرافا وعمدت إلى الأرض من جانبيها تحاول عليها إشرافا، وتقاول على طرفيها إسرافا، ثم قال «3» في بلد دار الخلافة، وقال: ولا مخافة، وأملى وما أمل، وقال ما لا قلّ، وجلب طريف الحديث إلى تلك السوق، وطفق يحث الركاب مسحا بالأعناق والسوق «4» ، وحل ببغداد، وأشامها «5» ، وقال: لا مسك الأين والتعب بعدها يا نوق.
ولد بإقليم سجستان، سنة ثلاثين ومائتين وسمع سنة أربعين باعتناء أبيه ولذكائه بخراسان والعراق، والحرمين ومصر والشام، وغير ذلك، وبرع وساد
الأقران، وحدث عنه خلق كثير.
قال الخطيب: رحل به أبوه من سجستان فطوف به شرقا وغربا يسمع ويكتب، واستوطن بغداد وصنف المسند والسنن والتفسير والقراءات، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك، وكان فقيها عالما حافظا.
قال عبد الله بن أبي داود: دخلت الكوفة ومعي درهم واحد فاشتريت به ثلاثين مد «1» باقلا «2» ، فكنت آكل منه وأكتب عن الأشج «3» ، فما فرغ الباقلا حتى كتبت عنه ثلاثة آلاف حديث ما بين مقطوع «4» ومرسل «5» .
قال أبو بكر بن شاذان: قدم ابن أبي داود أصبهان- وفي نسخة سجستان- فسألوه أن يحدثهم، فقال: ما معي أصل، فقالوا: ابن أبي داود، وأصل؟! قال:
فأثاروني، فأمليت عليهم من حفظي ثلاثين ألف حديث، فلما قدمت بغداد، قال البغداديون: مضى إلى سجستان ولعب بهم، ثم فيجوا فيجا «6» اكتروه بستة
دنانير إلى سجستان ليكتب لهم النسخة، فكتبت وجيء بها وعرضت (ص 186) على الحفاظ، فخطئوني في ستة أحاديث ثلاثة منها حدثت بها كما حدثت، وثلاثة أخطأت فيها «1» .
وقال الحاكم: سمعت أبا علي الحافظ «2» يقول: ألزموني فحدثت من حفظي بأصفهان بستة وثلاثين ألفا، الوهم منها في سبعة أحاديث، فلما انصرفت وجدت في كتابي خمسة منها على ما كنت حدثتهم به.
وقال الحافظ أبو بكر الخلال «3» : كان ابن أبي داود أحفظ من أبيه.
وقال صالح بن أحمد الهمذاني «4» الحافظ: كان ابن أبي داود إمام أهل العراق ونصب له السلطان المنبر، وكان في وقته في العراق مشايخ أسند منه، ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغ هو.
وقال ابن شاهين «5» : أملى علينا ابن أبي داود، وما رأيت بيده كتابا إنما كان
يملي حفظا، وكان يعقد على المنبر بعد ما عمي، ويقعد دونه بدرجة ابنه بيده كتاب، فيقول له: حديث كذا فيسرده من حفظه، حتى يأتي على المجلس. قرأ علينا يوما حديث القنوت من حفظه، فقام أبو تمام الزينبي، وقال: لله درك ما رأيت مثلك إلا أن يكون إبراهيم الحربي «1» ، فقال: كل ما كان يحفظ إبراهيم الحربي، فأنا أحفظه، وأنا أحفظ النجوم وما كان يعرفها.
وكان أبو بكر مع سعة علمه قوي النفس مدلا «2» .
حكى أبو حفص بن شاهين أن علي بن عيسى الوزير «3» أراد أن يصلح بين ابن أبي صالح «4» وبين ابن أبي داود، فجمعهما، وحضر أبو عمر
القاضي «1» ، فقال الوزير: يا أبا بكر، أبو محمد أكبر منك، فلو قمت إليه، قال: لا أفعل، فقال الوزير: أنت شيخ زيف «2» ، قال: الشيخ الزيف الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الوزير: من الكذاب على رسول الله؟ قال: هذا، ثم قام، وقال: تتوهم أني أذل لك لأجل رزقي، وأنه يصل على يدك؟ والله لا أخذت من يدك (ص 187) شيئا.
قال: وكان المقتدر «3» يزن رزقه بيده، ويبعث به في طبق على يد الخادم، وكان قد روى شيئا من قول النواصب، فأخطأ بنقله، فشنع عليه أنه نال من علي رضي الله عنه فسعي في قتله، فخلصه من القتل عبد الله بن حفص الذكواني «4» ، ونقله ابن الفرات «5» من بغداد إلى واسط، ثم رده علي بن
عيسى، فحدث، وأظهر فضائل علي، ثم تحنبل، فصار شيخا فيهم.
قال محمد بن عبيد الله بن الشخير: كان ابن أبي داود زاهدا ناسكا، صلى عليه يوم مات نحو من ثلاثمائة ألف إنسان، وأكثر، ومات في ذي الحجة سنة ست عشرة، وثلاثمائة، وله سبع وثمانون سنة، وصلي عليه ثمانون مرة «1» .
ومنهم:
92-
عبد الرحمن بن أبي حاتم «2» محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي أبو محمد
شيخ الإسلام، سنىّ لتميم طريق الفخار، وسنّ لها عدم الفرار، وزاد كرم أسرتها المفضلة، وأعذب مشارعها «3» ، فحلى مر، ولم يعد الحلاوة حنظلة،
ولدت منه تميميا لا ينبو منه سيغها «1» ، ولا يجفو حلم الزابن «2» طيفها، كفاك به، وحبك رجلا، ملأ قلوبا، وجلا، طاف البلاد، وجاء بالحديث عجلا وطاب مجناه «3» كأنما قطف نواره «4» بكرا، وقاله مرتجلا.
ولد سنة أربعين ومائتين، وارتحل به أبوه، فأدرك الأسانيد العالية، وسمع بالأقاليم خلائق لكنه لم يرحل إلى خراسان.
قال أبو يعلى الخليلي «5» : أخذ علم أبيه، وأبي زرعة، وكان بحرا في العلوم، ومعرفة الرجال، صنف في الفقه، واختلاف الصحابة والتابعين، وكان زاهدا يعد من الأبدال «6» ، «7» وكتابه في الجرح والتعديل يقضي له بالرتبة المنيفة في الحفظ (ص 188) ، وكتابه في التفسير عدة مجلدات، وله مصنف
كبير في الرد على الجهمية «1» يدل على إمامته «2» .
قال علي بن أحمد الفرضي: ما رأيت أحدا ممن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط. ويروى أن أباه كان يعجب من تعبد عبد الرحمن، ويقول: من يقوى على عبادة عبد الرحمن لا أعرف له ذنبا.
وقال علي بن إبراهيم الرازي الخطيب: كان عبد الرحمن قد كساه الله بهاء ونورا يسرّ به من نظر إليه.
سمعته يقول: رحل بي أبي سنة خمس وخمسين، وما احتلمت بعد، فلما بلغنا ذا الحليفة «3» احتلمت، فسر أبي «4» حيث أدركت حجة الإسلام.
وقال ابن أبي حاتم: كنا بمصر سبعة أشهر، لم نشرب فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ، ونقابل، فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: هو
عليل، فرأينا سمكة أعجبتنا، فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت تتغير، فأكلناها نية، ولم نتفرغ نشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
وقال ابن أبي حاتم: وقع عندنا الغلاء، فأنفذ بعض أصدقاء لي حبوبا من أصبهان، فبعته بعشرين ألفا، وقال: اشتر لي بها دارا، فأنفقتها على الفقراء، وكتبت إليه: اشتريت لك بها قصرا في الجنة، فقال: رضيت إن ضمنت.
فكتبت على نفسي صكا بالضمان، فأريت في المنام: قد قبلنا ضمانك، ولا تعد لمثل هذا «1» .
وقال محمد بن مهرويه «2» : سمعت ابن الجنيد «3» يقول: سمعت يحيى بن معين: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من مائتي سنة «4» .
قال محمد بن مهرويه: فدخلت على ابن أبي حاتم، وهو يحدث بكتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذا، فبكى، وارتعدت (ص 189) يداه، وسقط الكتاب، وجعل يبكي، ويستعيدني الحكاية «5» .
توفي في المحرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.