المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ومن متأخريهم: 170- القاضي أبو الفتح «1» محمد بن علي بن - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - جـ ٥

[ابن فضل الله العمري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌منهجنا في خدمة الكتاب وتحقيقه

- ‌الفصل الأول: وهو الخطابي

- ‌[مقدمة المصنف]

- ‌[مشرق الأرض ومغربها]

- ‌[تشبيه بعض الحكماء للأرض]

- ‌[تفضيل المشرق على المغرب]

- ‌[الأنبياء والرسل]

- ‌[الجهات الشريفة]

- ‌[الحواريون والصحابة]

- ‌[جماهير الكرماء والعظماء في الجاهلية والإسلام]

- ‌[الأئمة والفقهاء]

- ‌[السادات الأولياء أئمة التحقيق]

- ‌[الفلاسفة والحكماء والأطباء ورجال الفلك والعلوم]

- ‌[أصحاب الموسيقى]

- ‌[حكم الشرع في السماع وآلاته]

- ‌[قول ابن بسام في خطبة كتاب الذخيرة]

- ‌[أصحاب الصنائع العملية (الكتابة) والفلاحة والسيوف، والرماح، والديباج]

- ‌[في الشرق رست قواعد الخلافة]

- ‌[المقايسة بين سلاطين المشرق والمغرب والخلافة]

- ‌[مسعود بن محمود بن سبكتكين]

- ‌[السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان]

- ‌[السلطان علاء الدين خوارزم شاه]

- ‌[الملك العادل، وجلال الدين محمد]

- ‌[فتنة البساسيري]

- ‌[الحيوان والنبات والمعادن]

- ‌[الجواهر والأحجار]

- ‌[العقاقير]

- ‌[بعض ما في المغرب مما سبق]

- ‌الفصل الثانى فى الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق

- ‌[خطا الأطوال والعروض…الشرق والغرب أمر نسبي]

- ‌[المشرق أطول من المغرب]

- ‌[للمشرق الفخر]

- ‌[قول ابن سعيد.. المحاسن مقسمة.. الأغلب على البلاد المشرقية]

- ‌[رد ابن فضل الله العمري على ابن سعيد]

- ‌[ما فعله يوسف بن تاشفين مع بني عباد ملوك الأندلس]

- ‌[الموازنة بين المشرق والمغرب]

- ‌[الحيوان والنبات]

- ‌[المغرب والمشرق واللغة وبعض الشعراء]

- ‌[العلوم العقلية]

- ‌[المتنزهات.. والقلاع والمدن والأنهار]

- ‌[شعر في مدح المشرق والمغرب وغلمانهما]

- ‌[الإسكندر وبلاد فارس وأرسطو وصاحب الصين]

- ‌[تشبيه ابن سعيد الأرض بطائر]

- ‌[من أحكام المناظرة بين المشارقة والمغاربة]

- ‌[نشأة الخلافة]

- ‌[المناظرة بين الأشخاص: الخلفاء ونحوهم]

- ‌[من عظماء الأدارسة…الناصر علي بن حمود]

- ‌[بنو عبد المؤمن]

- ‌[الشبه بين المأمون بن المنصور الموحدي والمأمون العباسي]

- ‌[خراسان سلطنة عريضة]

- ‌[سجستان ودولة بني الصفار]

- ‌[كرمان وديلمان]

- ‌[مازندران (طبرستان) ]

- ‌[عراق العجم]

- ‌[فارس]

- ‌[خوزستان (الأهواز) ]

- ‌[العراق السلطنة العظمى]

- ‌[شهرزور]

- ‌[الجزيرة]

- ‌[الشام سلطنة جليلة]

- ‌[جزيرة العرب]

- ‌[وهجر سلطنة واليمامة]

- ‌[أذربيجان]

- ‌[أرمينية.. وبلاد الروم]

- ‌[سلطنات المغرب الديار المصرية]

- ‌[برقة وإفريقية]

- ‌[سلطنة المغرب الأقصى]

- ‌[بلاد السودان]

- ‌[أرض النوبة والكانم]

- ‌[جزيرة الأندلس ومن تولى عليها]

- ‌[سلطنات رومية والقسطنطينية]

- ‌[الجندية في المشرق والمغرب رجالها عتادها وما يتبع ذلك وعطاؤهم]

- ‌[الوزارة]

- ‌[الكتاب بالمشرق]

- ‌[جاء في المتأخرين من لم يرض طرق المتقدمين]

- ‌مشاهير قراء المشرق

- ‌[مقدمة]

- ‌1- أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك ابن النجار أبو المنذر الأنصاري

- ‌2- ومن أعلام القراء أبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة

- ‌3- مجاهد بن جبر الإمام

- ‌4- عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة

- ‌5- عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله بن زاذان أبو معبد الكناني الداري المكي

- ‌6- يزيد بن القعقاع أبو فرج القاري أحد العشرة

- ‌7- عاصم بن أبي النجود بهدلة الأسدي

- ‌8- حمزة بن حبيب الزيات

- ‌9- أبو عمرو بن العلاء المازني المقرئ النحوي البصري

- ‌10- نافع بن عبد الرحمن الليثي أبو رويم المقرئ

- ‌11- إسماعيل بن عبد الله المخزومي قارئ أهل مكة

- ‌12- حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي

- ‌13- سليم بن عيسى بن سليم بن عامر

- ‌14- علي بن حمزة الكسائي

- ‌15- أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي

- ‌16- يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي

- ‌17- يعقوب بن إسحاق بن يزيد بن عبد الله

- ‌18- يحيى بن آدم بن سليمان أبو زكريا القرشي

- ‌19- حسين بن علي الجعفي مولاهم الكوفي

- ‌20- قالون أبو موسى

- ‌21- أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبي بزة

- ‌22- خلاد بن خالد

- ‌23- خلف بن هشام بن تغلب أبو محمد البغدادي المقرئ البزار

- ‌24- الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي المقرئ

- ‌25- عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان

- ‌26- هشام بن عمار بن نصير

- ‌27- أبو عمر الدوري

- ‌28- أبو شعيب السوسي

- ‌29- قنبل مقرئ أهل مكة

- ‌30- أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد شيخ العصر أبو بكر البغدادي

- ‌32- محمد بن النضر بن مرّ بن الحر الربعي الإمام أبو الحسن ابن الأخرم الدمشقي

- ‌34- محمد بن الحسن بن محمد بن زياد أبو بكر النقاش الموصلي ثم البغدادي

- ‌[قراء الجانب الغربي]

- ‌[قراء مصر]

- ‌64- محمد بن علي بن أحمد

- ‌66- محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن علي بن سالم بن مكي (الشروطي)

- ‌[المحدّثون من أهل المشرق]

- ‌67- أبو هريرة الدوسي اليماني

- ‌69- قتادة بن دعامة بن قتادة الحافظ

- ‌70- شعبة بن الحجاج بن الورد

- ‌71- عبد الرحمن بن مهدي

- ‌72- أبو داود الطيالسي

- ‌76- عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي

- ‌77- عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل

- ‌78- الإمام العلم أبو عبد الله البخاري

- ‌79- محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس

- ‌86- أبو عيسى الترمذي

- ‌93- أحمد بن محمد بن سعيد أبو العباس الكوفي

- ‌98- محمد بن إسحاق بن محمد بن أبي زكريا يحيى بن منده

- ‌99- أبو عبد الله الحاكم

- ‌101- أبو ذر الهروي

- ‌103- الخطيب أبو بكر بن أحمد بن علي بن ثايت بن أحمد البغدادي، خطيب بغداد

- ‌104- أبو نصر بن ماكولا

- ‌105- أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي

- ‌108- أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر

- ‌112- محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي، المعروف بابن النجار

- ‌113- القاسم محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد بن أبي يدّاش البرزاليّ

- ‌114- يوسف بن الزّكي عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك القضاعي

- ‌115- محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز ابن الذهبي أبو عبد الله شمس الدين

- ‌فأما الحفاظ بالجانب الغربي

- ‌116- يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس

- ‌117- بقيّ بن مخلد

- ‌118- محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد الأزدي الحميدي الأندلسي الميورقي

- ‌119- خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال أبو القاسم الأنصاري الأندلسي

- ‌120- عبد الحق بن عبد الرحمن بن الحسين بن سعيد الحافظ أبو محمد الأزدي الإشبيلي

- ‌121- محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيّد الناس اليعمري الأندلسي الإشبيلي

- ‌122- يزيد بن أبي حبيب الإمام الكبير أبو رجاء الأزدي

- ‌123- عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد بن بشر بن مروان، الحافظ النّسابة أبو محمد الأزدي المصري

- ‌124- أبو طاهر الأصبهاني واسمه أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سلفة الأصبهاني

- ‌125- عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن التوني الدمياطي الشافعي شرف الدين أبو محمد

- ‌[فقهاء المحدثين: الجانب الشرقى]

- ‌126- علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك

- ‌127- القاضي شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي

- ‌128- سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم القرشي المدني

- ‌129- عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى القرشي الأسدي

- ‌130- أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي

- ‌131- سعيد بن جبير الوائلي مولاهم الكوفي

- ‌132- إبراهيم بن يزيد بن الأسود الفقيه الكوفي النخعي

- ‌133- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي

- ‌134- خارجة بن زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان أبو زيد الأنصاري

- ‌135- عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار الشعبي الكوفي

- ‌136- طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني اليماني أبو عبد الرحمن

- ‌137- سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي

- ‌138- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي

- ‌139- سليمان بن يسار

- ‌140- الحسن بن أبي الحسن يسار البصري أبو سعيد

- ‌141- مكحول بن عبد الله الشامي

- ‌142- عطاء بن أبي رباح

- ‌143- أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني القرشي

- ‌144- ربيعة بن أبي عبد الرحمن فرّوخ مولى آل المنكدر

- ‌145- يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو الحافظ

- ‌146- سليمان بن مهران

- ‌147- محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عبد الرحمن

- ‌148- عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج الرومي

- ‌149- عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي

- ‌150- سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة أبو عبد الله الثوري الكوفي الفقيه الإمام

- ‌151- حماد بن سلمة بن دينار

- ‌152- عبد الله بن المبارك

- ‌153- سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي

- ‌154- إسحاق بن أبي الحسن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه أبو يعقوب

- ‌155- إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي الفقيه البغدادي أبو ثور

- ‌156- محمد بن نصر الإمام أبو عبد الله المروزي

- ‌157- محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابوري

- ‌158- أبو سليمان الخطابي حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب القرشي العدوي البستي من ولد زيد بن الخطاب ابن نفيل

- ‌159- الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علي أبو الفضائل القرشي العدوي العمري عرف بالصغّاني الحنفي

- ‌160- أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر الكردي الشهرزوري، عرف بابن الصلاح

- ‌161- يحيى بن شرف بن مزي بن الحسن بن الحسين الحزامي النووي

- ‌162- أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية)

- ‌فأما من نذكر من مشاهير الجانب الغربي فمنهم:

- ‌163- أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي

- ‌164- أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري

- ‌165- القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي

- ‌166- أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف ب (ابن العربي) المعافري

- ‌ومن متقدميهم بالديار المصرية:

- ‌ومن متأخريهم:

- ‌171- علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام

- ‌فهرس المصادر والمراجع

- ‌فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌ومن متأخريهم: 170- القاضي أبو الفتح «1» محمد بن علي بن

‌ومن متأخريهم:

170-

القاضي أبو الفتح «1» محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري

«2» المنفلوطي «3» الصعيدي «4» المالكي «5» ، والشافعي تقي الدين، عرف بابن

ص: 730

دقيق العيد «1» . صاحب التصانيف، آخر المجتهدين، وفاخر درر المقلدين، حجة العلماء، والأعلام، ومحجة القصد والسلام، رافع منار الشرع المطهر، ومعلي قدر فرقده «2» ، ومعلن اسم سؤدده، ومعلم البروق اللامعة بأنها لا طاقة لها بتوقده، ومعلق طيبه بمفرق الدهر مسك ليلته، وكافور غده، قام بالحق والكل قاعد، وهب، وكل على جفنه النوم عاقد، وتخلق بخلائق السلف الذي عليه مضوا، وبه جاءوا، وعليه قضوا، من علم تلافى الفساد، وأوفى بقدر السلف وزاد، وورعا ما دنّس ثوبه، ولا كدر صوبه «3» ، إلا أنه كان مغرى بالنكاح، مغرما منه بالمباح، يغالي في شراء الجواري، واستسراء قيم السواري، ولم تكن له جدة للإنفاق، فكان يشتريهن بالثمن الربيح إلى أجل يستدينه، فإذا حل يغدو وهو رهينه، فيتسامع به أهل اليسار ممن ربطه عليه حب علمه، وحسن ظنه في دينه، لا خاب في زعمه، فيتكفل بوفاء ذلك الدين (ص 318) وغسل ذمته، وتنقيته من ذلك الشين، حتى إذا صار بريئا من الطلبات، خالصا من المطالبات، عنّ له أن يشتري جارية، أو يزيد نفقة جارية، فلا يلبث شهرا، حتى يعود أثقل ما كان ظهرا، ويدوم على هذا في الزمان دهرا، فيقدر له آخر فيوفي عنه ما اشتغلت به

ص: 731

ذمته، واشتعلت بسبب همه لمته «1» ، واستجيزت بسببه عند أهل الورع مذمته، هكذا كان دأبه، ودأب ما يحمل نفسه، من أثقال التكاليف وإنفاق جمل المصاريف، كأنه يحتقر الذهب، أو أن وفاء دينه على أهل الدنى وجب، وكان على فور علمه ودينه، وشواغله بالتصنيف «2» في كل حينه، يكمن تارة في زناده، ويحبس أواره «3» في فؤاده، ويلبس الرجال على بغضها، ويسلب كل الأعمال لبعضها، وربما قدر فعفر «4» ، وواخذ فما غفر، إلا أن التقوى كانت تمنعه من أليم المجازاة، وترده عن بلوغ الغاية من التشفي «5» ، وفي النفس

ص: 732

حزازات «1» .

ولد في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة بقرب ينبع «2» من أرض الحجاز، وسمع الحديث، وخرّج لنفسه أربعين تساعية «3» ، وكان من أذكياء زمانه، واسع العلم كثير الكتب مديما للسهر، مكبا على الاشتغال، ساكنا وقورا، ورعا، قل أن ترى العيون مثله «4» ، وله اليد الطولى في الأصول والمعقول، وخبرة بعلل المنقول، ولي قضاء الديار المصرية سنوات إلى أن مات، وكان في أمر الطهارة والمياه في نهاية الوسوسة «5» .

قال الحافظ قطب الدين الحلبي «6» : كان إمام أهل زمانه، وممن فاق بالعلم

ص: 733

والزهد على أقرانه، عارفا بالمذهبين، إماما في الأصلين «1» ، حافظا متقنا في الحديث وعلومه، يضرب به المثل في ذلك، وكان آية في الحفظ، والإتقان والتحري، شديد الخوف، دائم الذكر، لا ينام الليل (ص 319) إلا قليلا، ويقطعه فيما بين مطالعة، وتلاوة، وذكر، وتهجد حتى صار السهر له عادة، وأوقاته كلها معمورة، ولم ير في عصره مثله- وعدّ مصنفاته- ثم قال: عزل نفسه من القضاء غير مرة، ثم يسأل، ويعاد وقال: وبلغني أن السلطان حسام الدين «2» لما طلع الشيخ إليه، قام للقيه، وخرج عن مرتبته «3» ، وكان كثير الشفقة على المشتغلين، كثير البر لهم.

توفي في صفر «4» سنة اثنتين وسبعمائة.

ومن نظمه «5» : [البسيط]

الحمد لله كم أسعى «6» بعزمي في

نيل العلى، وقضاء الله ينكسه

ص: 734

كأنني النجم يبغي «1» الشرق، والفلك ال

أعلى يعارض مسراه فيعكسه

ومنه قوله: [الطويل]

لعمري لقد قاسيت بالفقر شدة

وقعت بها في حيرة وشتات

فإن بحت بالشكوى هتكت «2» مروءتي

وإن لن أبح بالصبر خفت مماتي

فأعظم به من نازل بملمة

يزيل حيائي، أو يزيل حياتي

ومنه قوله: [السريع]

تهيم نفسي طربا عندما «3»

استلمع البرق الحجازيا

ويستخف الوجد عقلي وقد

أصبح لي حسن الحجى «4» زيّا «5»

يا هل أقضّي حاجتي من منى

وأنحر البزل «6» المهاريا «7»

وأرتوي من زمزم فهي لي

ألذ من ريق المها «8» ريّا (ص 220)

ص: 735

ومنه قوله: [البسيط]

أهل المراتب «1» في الدنيا، ورفعتها

أهل الفضائل مرذولون بينهم

فما لهم في توقي ضرنا نظر

ولا لهم في ترقي قدرنا همم

قد أنزلونا لأنا غير جنسهم

منازل الوحش في الإهمال عندهم «2»

فليتنا لو قدرنا أن نعرّفهم

مقدارهم عندنا أو لو دروه هم

لهم مريحان من جهل «3» وفضل غنى

وعندنا المتعبان العلم والعدم

فناقضه في ذلك الفتح البققي- المقتول على الزندقة-، فقال:[البسيط]

أين المراتب، والدنيا ورفعتها

عند الذي حاز علما ليس عندهم

لا شك أن لنا قدرا رأوه، وما

لقدرهم عندنا قدر ولا لهم «4»

هم الوحوش ونحن الأنس حكمتنا

نقودهم حيثما شئنا، وهم نعم

وليس شيء سوى الإهمال يقطعنا

عنهم لأنهم وجدانهم عدم

لنا المريحان من علم ومن عدم

وفيهم المتعبان الجهل والحشم

عدنا إلى ذكر قاضي القضاة أبي الفتح رحمه الله ومن شعره قوله: [الكامل]

نفرت سليمى نضرة لما رأت

وضح المشيب بعارضيّ ومفرقي

قد أبصرت منه عدوا أبيضا

أربى أذاه على العدو الأزرق

وقوله: [السريع]

كم ليلة فيك وصلنا السرى «5»

لا نعرف النوم ولا نستريح

ص: 736

وكادت الأنفس مما بها

تزهق والأبدان منها تطيح

واختلف الأصحاب ماذا الذي

يرد من شكواهم أو يريح

فقيل تعريسهم «1» ساعة

وقلت: بل ذكراك، وهو الصحيح

قلت هكذا فليكن- وإلا فلا- أدب الفقهاء، وفي مثل هذا يذهب أهل الحزم أضعاف ذهب السفهاء، هذا الذي لا يقدر عليه من قدّر عليه رزقه، واتسم بسمة أهل الفضل وهو لا يستحقه.

ومنه قوله: [الطويل]

أتيتك والآمال تسري إلى مدى

بعيد أراه باصطناعك يقرب

وقد شنع الأعداء أن مطالبي

ترد على أعقابها وهي خيّب

وما تركوا من حجة أو أتوا بها

على أنني مالي ببحرك مشرب

وو الله لا صدّقت أنك مربحي؟

لدفع ملمّ حادث فتخيب

وقوله: [الخفيف]

أنكرتني لما ادعيت هواها

وأصرت على العناد جحودا

قلت إن الدموع تشهد لي قا

لت صحيح، لكن قذفت الشهودا (321)

ومنه قوله: [الوافر]

أودّعكم وأودعكم حياتي

وأنثر دمعتي نثر الجمان

وقلبي لا يريد لكم فراقا

ولكن هكذا حكم الزمان

ص: 737

ومن نثر القاضي أبي الفتح ما كتبه إلى نوابه بالحكم في الوجه القبلي البحري عند ما فوّض إليه قضاء القضاة بالديار المصرية، بعد البسملة:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ

«1»

صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي وفقه الله لقبول النصيحة، وآتاه لما يقربه قصدا صالحا ونية صحيحة، أصدرناها إليه بعد حمد الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور «2» ، ويمهل حتى يلتمس الإمهال على المغرور، تذكرة بأيام الله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ

«3» ، ويحذره صفقة من باع آخرته بدنياه فما أحد سواه مغبون «4» ، عسى الله أن يرشده بهذا التذكار وينفعه، وتأخذ هذه النصائح بمحجزته «5» عن النار فإني أخاف أن يتردى فيخرّ من ولّاه والعياذ بالله معه، والموجب لإصدارها ما تلمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم عن القيام بما يجب للرب على المربوب، ومن أنسهم بهذا الدار وهم يزعجون «6» عنها، وعلمهم بما بين أيديهم من عقبة كؤود «7» ، وهم لا يتخففون منها، ولا سيما القضاة الذي تحملوا أعباء الأمانة

ص: 738

على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار، وهمم نحيفة، وو الله إن الأمر لعظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا أرى أن مع ذلك أمنا ولا قرارا ولا راحة، اللهم إلا رجلا نبذ الآخرة وراه واتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ

«1» ، وقصر همه وهمته على حظ نفسه ودنياه فغاية مطلبه/ (ص 322) حب الجاه، والرغبة في قلوب الناس، وتحسين الزي والملبس والمركب والمجلس، غير مستشعر خسة «2» حاله، ولا ركاكة مقصده، وهذا لا كلام معه، فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى

«3» وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ

«4» فاتق الله الذي يراك حين تقوم «5» ، واقصر أملك عليه، فالمحروم من فضله غير مرحوم، وما أنا وأنتم أيها النفر إلا كما قال الحبيب العجمي «6» رضي الله عنه وقد قال له قائل: ليتنا لم نخلق- فقال: قد وقعتم فاحتالوا. وإن خفي عليك بعض هذا الخطر، وشغلتك الدنيا أن تقضي من معرفته الوطر «7» ، فتأمل قوله «8» :"

ص: 739

القضاة ثلاثة" «1» ، وقوله مشفقا:" لا تأمرن على اثنين ولا تلينّ مال يتيم" «2» ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [المتقارب]

وما أنا والسير في متلف

نبرّح «3» بالذكر الظابط

هيهات، جف القلم، ونفذ أمر الله فلا راد لما حكم، إيه، ومن هنالك شم الناس من فم الصديق رائحة الكبد المشوي، وقال الفاروق: ليت أم عمر لم تلده، واستسلم عثمان وقال: من أغمد سيفه فهو حر. وقال علي والخزائن بين يديه مملوّة: من يشتري مني سيفي هذا، ولو وجدت ما اشتري به ما بعته. وقطع الخوف نياط قلب عمر بن عبد العزيز فمات من خشية العرض. وعلق بعض السلف في بيته سوطا يؤدب به نفسه إذا فتر. أفترى ذلك سدا؟ أم وضح أنا نحن المقربون، وهم البعدا، وهذه أحوال لا تؤخذ من كتاب السلم والإجارة والجنايات، نعم إنما تنال بالخضوع والخشوع، وبأن تظمأ وتجوع، وتحمي عينيك الهجوع، ومما يعينك على الأمر الذي/ (ص 323) دعوت إليه، ويزودك في مسيرك إلى العرض عليه، أن تجعل لك وقتا تعمره بالتفكر والتدبر، فإنها تجعلها معدة لجلاء قلبك، فإنه إن استحكم صداه «4» صعب

ص: 740