الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن متأخريهم:
170-
القاضي أبو الفتح «1» محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري
«2» المنفلوطي «3» الصعيدي «4» المالكي «5» ، والشافعي تقي الدين، عرف بابن
دقيق العيد «1» . صاحب التصانيف، آخر المجتهدين، وفاخر درر المقلدين، حجة العلماء، والأعلام، ومحجة القصد والسلام، رافع منار الشرع المطهر، ومعلي قدر فرقده «2» ، ومعلن اسم سؤدده، ومعلم البروق اللامعة بأنها لا طاقة لها بتوقده، ومعلق طيبه بمفرق الدهر مسك ليلته، وكافور غده، قام بالحق والكل قاعد، وهب، وكل على جفنه النوم عاقد، وتخلق بخلائق السلف الذي عليه مضوا، وبه جاءوا، وعليه قضوا، من علم تلافى الفساد، وأوفى بقدر السلف وزاد، وورعا ما دنّس ثوبه، ولا كدر صوبه «3» ، إلا أنه كان مغرى بالنكاح، مغرما منه بالمباح، يغالي في شراء الجواري، واستسراء قيم السواري، ولم تكن له جدة للإنفاق، فكان يشتريهن بالثمن الربيح إلى أجل يستدينه، فإذا حل يغدو وهو رهينه، فيتسامع به أهل اليسار ممن ربطه عليه حب علمه، وحسن ظنه في دينه، لا خاب في زعمه، فيتكفل بوفاء ذلك الدين (ص 318) وغسل ذمته، وتنقيته من ذلك الشين، حتى إذا صار بريئا من الطلبات، خالصا من المطالبات، عنّ له أن يشتري جارية، أو يزيد نفقة جارية، فلا يلبث شهرا، حتى يعود أثقل ما كان ظهرا، ويدوم على هذا في الزمان دهرا، فيقدر له آخر فيوفي عنه ما اشتغلت به
ذمته، واشتعلت بسبب همه لمته «1» ، واستجيزت بسببه عند أهل الورع مذمته، هكذا كان دأبه، ودأب ما يحمل نفسه، من أثقال التكاليف وإنفاق جمل المصاريف، كأنه يحتقر الذهب، أو أن وفاء دينه على أهل الدنى وجب، وكان على فور علمه ودينه، وشواغله بالتصنيف «2» في كل حينه، يكمن تارة في زناده، ويحبس أواره «3» في فؤاده، ويلبس الرجال على بغضها، ويسلب كل الأعمال لبعضها، وربما قدر فعفر «4» ، وواخذ فما غفر، إلا أن التقوى كانت تمنعه من أليم المجازاة، وترده عن بلوغ الغاية من التشفي «5» ، وفي النفس
حزازات «1» .
ولد في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة بقرب ينبع «2» من أرض الحجاز، وسمع الحديث، وخرّج لنفسه أربعين تساعية «3» ، وكان من أذكياء زمانه، واسع العلم كثير الكتب مديما للسهر، مكبا على الاشتغال، ساكنا وقورا، ورعا، قل أن ترى العيون مثله «4» ، وله اليد الطولى في الأصول والمعقول، وخبرة بعلل المنقول، ولي قضاء الديار المصرية سنوات إلى أن مات، وكان في أمر الطهارة والمياه في نهاية الوسوسة «5» .
قال الحافظ قطب الدين الحلبي «6» : كان إمام أهل زمانه، وممن فاق بالعلم
والزهد على أقرانه، عارفا بالمذهبين، إماما في الأصلين «1» ، حافظا متقنا في الحديث وعلومه، يضرب به المثل في ذلك، وكان آية في الحفظ، والإتقان والتحري، شديد الخوف، دائم الذكر، لا ينام الليل (ص 319) إلا قليلا، ويقطعه فيما بين مطالعة، وتلاوة، وذكر، وتهجد حتى صار السهر له عادة، وأوقاته كلها معمورة، ولم ير في عصره مثله- وعدّ مصنفاته- ثم قال: عزل نفسه من القضاء غير مرة، ثم يسأل، ويعاد وقال: وبلغني أن السلطان حسام الدين «2» لما طلع الشيخ إليه، قام للقيه، وخرج عن مرتبته «3» ، وكان كثير الشفقة على المشتغلين، كثير البر لهم.
توفي في صفر «4» سنة اثنتين وسبعمائة.
ومن نظمه «5» : [البسيط]
الحمد لله كم أسعى «6» بعزمي في
…
نيل العلى، وقضاء الله ينكسه
كأنني النجم يبغي «1» الشرق، والفلك ال
…
أعلى يعارض مسراه فيعكسه
ومنه قوله: [الطويل]
لعمري لقد قاسيت بالفقر شدة
…
وقعت بها في حيرة وشتات
فإن بحت بالشكوى هتكت «2» مروءتي
…
وإن لن أبح بالصبر خفت مماتي
فأعظم به من نازل بملمة
…
يزيل حيائي، أو يزيل حياتي
ومنه قوله: [السريع]
تهيم نفسي طربا عندما «3»
…
استلمع البرق الحجازيا
ويستخف الوجد عقلي وقد
…
أصبح لي حسن الحجى «4» زيّا «5»
يا هل أقضّي حاجتي من منى
…
وأنحر البزل «6» المهاريا «7»
وأرتوي من زمزم فهي لي
…
ألذ من ريق المها «8» ريّا (ص 220)
ومنه قوله: [البسيط]
أهل المراتب «1» في الدنيا، ورفعتها
…
أهل الفضائل مرذولون بينهم
فما لهم في توقي ضرنا نظر
…
ولا لهم في ترقي قدرنا همم
قد أنزلونا لأنا غير جنسهم
…
منازل الوحش في الإهمال عندهم «2»
فليتنا لو قدرنا أن نعرّفهم
…
مقدارهم عندنا أو لو دروه هم
لهم مريحان من جهل «3» وفضل غنى
…
وعندنا المتعبان العلم والعدم
فناقضه في ذلك الفتح البققي- المقتول على الزندقة-، فقال:[البسيط]
أين المراتب، والدنيا ورفعتها
…
عند الذي حاز علما ليس عندهم
لا شك أن لنا قدرا رأوه، وما
…
لقدرهم عندنا قدر ولا لهم «4»
هم الوحوش ونحن الأنس حكمتنا
…
نقودهم حيثما شئنا، وهم نعم
وليس شيء سوى الإهمال يقطعنا
…
عنهم لأنهم وجدانهم عدم
لنا المريحان من علم ومن عدم
…
وفيهم المتعبان الجهل والحشم
عدنا إلى ذكر قاضي القضاة أبي الفتح رحمه الله ومن شعره قوله: [الكامل]
نفرت سليمى نضرة لما رأت
…
وضح المشيب بعارضيّ ومفرقي
قد أبصرت منه عدوا أبيضا
…
أربى أذاه على العدو الأزرق
وقوله: [السريع]
كم ليلة فيك وصلنا السرى «5»
…
لا نعرف النوم ولا نستريح
وكادت الأنفس مما بها
…
تزهق والأبدان منها تطيح
واختلف الأصحاب ماذا الذي
…
يرد من شكواهم أو يريح
فقيل تعريسهم «1» ساعة
…
وقلت: بل ذكراك، وهو الصحيح
قلت هكذا فليكن- وإلا فلا- أدب الفقهاء، وفي مثل هذا يذهب أهل الحزم أضعاف ذهب السفهاء، هذا الذي لا يقدر عليه من قدّر عليه رزقه، واتسم بسمة أهل الفضل وهو لا يستحقه.
ومنه قوله: [الطويل]
أتيتك والآمال تسري إلى مدى
…
بعيد أراه باصطناعك يقرب
وقد شنع الأعداء أن مطالبي
…
ترد على أعقابها وهي خيّب
وما تركوا من حجة أو أتوا بها
…
على أنني مالي ببحرك مشرب
وو الله لا صدّقت أنك مربحي؟
…
لدفع ملمّ حادث فتخيب
وقوله: [الخفيف]
أنكرتني لما ادعيت هواها
…
وأصرت على العناد جحودا
قلت إن الدموع تشهد لي قا
…
لت صحيح، لكن قذفت الشهودا (321)
ومنه قوله: [الوافر]
أودّعكم وأودعكم حياتي
…
وأنثر دمعتي نثر الجمان
وقلبي لا يريد لكم فراقا
…
ولكن هكذا حكم الزمان
ومن نثر القاضي أبي الفتح ما كتبه إلى نوابه بالحكم في الوجه القبلي البحري عند ما فوّض إليه قضاء القضاة بالديار المصرية، بعد البسملة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ
«1»
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي وفقه الله لقبول النصيحة، وآتاه لما يقربه قصدا صالحا ونية صحيحة، أصدرناها إليه بعد حمد الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور «2» ، ويمهل حتى يلتمس الإمهال على المغرور، تذكرة بأيام الله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
«3» ، ويحذره صفقة من باع آخرته بدنياه فما أحد سواه مغبون «4» ، عسى الله أن يرشده بهذا التذكار وينفعه، وتأخذ هذه النصائح بمحجزته «5» عن النار فإني أخاف أن يتردى فيخرّ من ولّاه والعياذ بالله معه، والموجب لإصدارها ما تلمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم عن القيام بما يجب للرب على المربوب، ومن أنسهم بهذا الدار وهم يزعجون «6» عنها، وعلمهم بما بين أيديهم من عقبة كؤود «7» ، وهم لا يتخففون منها، ولا سيما القضاة الذي تحملوا أعباء الأمانة
على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار، وهمم نحيفة، وو الله إن الأمر لعظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا أرى أن مع ذلك أمنا ولا قرارا ولا راحة، اللهم إلا رجلا نبذ الآخرة وراه واتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ
«1» ، وقصر همه وهمته على حظ نفسه ودنياه فغاية مطلبه/ (ص 322) حب الجاه، والرغبة في قلوب الناس، وتحسين الزي والملبس والمركب والمجلس، غير مستشعر خسة «2» حاله، ولا ركاكة مقصده، وهذا لا كلام معه، فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى
«3» وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ
«4» فاتق الله الذي يراك حين تقوم «5» ، واقصر أملك عليه، فالمحروم من فضله غير مرحوم، وما أنا وأنتم أيها النفر إلا كما قال الحبيب العجمي «6» رضي الله عنه وقد قال له قائل: ليتنا لم نخلق- فقال: قد وقعتم فاحتالوا. وإن خفي عليك بعض هذا الخطر، وشغلتك الدنيا أن تقضي من معرفته الوطر «7» ، فتأمل قوله «8» :"
القضاة ثلاثة" «1» ، وقوله مشفقا:" لا تأمرن على اثنين ولا تلينّ مال يتيم" «2» ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [المتقارب]
وما أنا والسير في متلف
…
نبرّح «3» بالذكر الظابط
هيهات، جف القلم، ونفذ أمر الله فلا راد لما حكم، إيه، ومن هنالك شم الناس من فم الصديق رائحة الكبد المشوي، وقال الفاروق: ليت أم عمر لم تلده، واستسلم عثمان وقال: من أغمد سيفه فهو حر. وقال علي والخزائن بين يديه مملوّة: من يشتري مني سيفي هذا، ولو وجدت ما اشتري به ما بعته. وقطع الخوف نياط قلب عمر بن عبد العزيز فمات من خشية العرض. وعلق بعض السلف في بيته سوطا يؤدب به نفسه إذا فتر. أفترى ذلك سدا؟ أم وضح أنا نحن المقربون، وهم البعدا، وهذه أحوال لا تؤخذ من كتاب السلم والإجارة والجنايات، نعم إنما تنال بالخضوع والخشوع، وبأن تظمأ وتجوع، وتحمي عينيك الهجوع، ومما يعينك على الأمر الذي/ (ص 323) دعوت إليه، ويزودك في مسيرك إلى العرض عليه، أن تجعل لك وقتا تعمره بالتفكر والتدبر، فإنها تجعلها معدة لجلاء قلبك، فإنه إن استحكم صداه «4» صعب