الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم
113- القاسم محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد بن أبي يدّاش البرزاليّ
«1»
الإشبيلي الأصل الدمشقي الشافعي أبو محمد الحافظ، عمدة الحفاظ مؤرخ الشام، ممن ولدته دمشق والفحل فحل معرق «2» ، وأوجدته الأيام فسطع ضوؤها المشرق، وتمخضت منه الليالي عن واحدها وأحد أهل/ (ص 222) المشرق، ومشى فيها على طريق واحد ما تغيّر عن سلوكها، ولا تقهقر في سلوكها، يصحب الخصمين وهما من هما «3» ، والنظيرين والضرغامة الأسد منهما، وكل منهما راض بصحبته واثق به لا يعدّه إلا من أحبته.
كان عند شيخي الإسلام آخر المجتهدين ابن تيمية «4» وابن الزملكاني «5» .
وما منهما إلا من هو عليه مرتبط، وبه مغتبط، يذيع إليه سرّه في صاحبه، ويتبسّط لديه في معاتبه. وهو ساكت لا ينطق بحرف، ولا يشارك حتى ولا بإيماء طرف، وعرف بهذا واشتهر حتى صار عندهما موضع الثقة، ومكان المقة «1» . ومحل الصداقة المحققة، ثم كان يسعى في صلاح ذات بينهما فيعجز، ويعده كل منهما به ولا ينجز، فأغمد لسانه، وترك كلّ امرئ منهما وشأنه، وكان ممن ينفع الطلبة، ويستلذ في راحتهم تعبه، ويحرص على إسماعهم، ويقيّد مجالس سماعهم، لا يشغله عنهم ما كان معدّا له من حضور مجالس الحكام، والتسجيل عنهم بالأحكام، وحضور الوظائف، ومجالسة أكثر الطوايف، ثم بلغني أنه توجه إلى الحج فمات بخليص «2» وقد استقبل مكة ميمما، وكفّن في ثياب إحرامه ليبعث يوم القيامة ملبيا محرما «3» .
ولد في عاشر جمادى الأولى سنة خمس وستين وستمائة، واعتنى بالرواية من صغره، فقرأ بنفسه الكتب الكبار، ورحل إلى الديار المصرية، والثغر «4» والبلاد الشمالية، وسمع مما ينيف على ألفي شيخ، وأجاز له ألف آخر، فاشتمل معجمه على نيف وثلاثة آلاف شيخ، وكتب من الأثبات «5»
والتعاليق «1» والأجزاء والتاريخ «2» والتخاريج «3» ما لا يحصى كثرة، وحرّر مسموعاته، وصار مقتدى به مرجوعا إليه في هذا الشأن مع الحفظ والإتقان والصدق والتحري، وكتب الشروط «4» / (ص 223) فأحكمها، والسجلات «5» فأتقنها، وله فيهما مصنفات وكان محسنا إلى الطلبة متلطفا بهم، صبورا على التعليم، سهل العارية لكتبه وأجزائه، يقضّي أوقاته في السماع والتسميع، وكتابة الطباق «6» ، وقضاء حوائج الناس، والمواظبة على وظائفه من غير انقطاع إلا لعذر مانع شرعا. وولي المشيخات «7» ، وصحب الأكابر من أهل العلم، وولد له عدة أولاد توفوا كلهم في حياته، فصبر واحتسب، منهم المحصّل بهاء الدين أبو الفضل محمد اعتنى به واجتهد إلى أن حفظ المحافيظ، وقرأ القرآن للسبع، وشهد على الحكّام ولم ينبت، وحج به، وتوفي وهو شاب «8» ، ومنهم فاطمة، اجتهد عليها وعلمها الخط، وكتبت ربعة «9» شريفة، وشرعت في صحيح البخاري، فكتبت منه مقدار النصف، ثم حصل لها نفاس، وأعقبها مرضا، أشرفت فيه على الموت مرات، حتى إن كثيرا من الأعيان كانوا يبطلون مهماتهم ويتهيؤون لتشييع
جنازتها، ثم نقهت من ذلك، فأكملت الصحيح كتابة في ثلاثة عشر مجلدا بخط واضح، فلما فرغت، شرعت في تحصيل الورق وغيره لكتابة صحيح مسلم، فتوفيت قبل شروعها في الكتابة، وذلك بعد فراغها من صحيح البخاري بنحو شهر. وحكى والدها: أنها كانت في أثناء مرضها المذكور، كانت تتأسف على عدم تكميل البخاري، وتودّ لو عاشت إلى أن تكمله ثم تموت، فكان كذلك، وصبر والدها واحتسبها عند الله، وقابل النسخة المذكورة مرتين، واعتنى بها، وصارت عمدة في الصحة، وحج أبو محمد البرزالي خمس حجج سمع وأسمع فيها بدرب الحجاز والحرمين والأماكن المعظمة ثم قصد الحج مرة سادسة عقب مرض فعاوده بدرب الحجاز، ودخل المدينة النبوية محمولا لمرضه، ثم أحرم فتوفى بخليص بكرة الأحد رابع ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وسبع مائة، فعزم على نقله ودفنه بمكة، فحصل خلاف بين الفقهاء الحجاج في هذه السنة، وكانوا جماعة من شيوخ المذاهب في جواز النقل «1» ، وخيف عليه من الحر، فصلّي عليه بمخيم الحاج ودفن إلى جانب البرج بخليص، ووصل خبره إلى الديار المصرية ثم إلى دمشق في خامس المحرم سنة أربعين، وصلّي عليه صلاة الغائب بالبلاد، ووقف كتبه وأجزاءه، وتصدق بثلث ماله، (ص 224) وقلت أرثيه لما بلغني وفاته، وكنت إذ ذاك بالقاهرة المعزّية:[البسيط]
تراهم بالذي ألقاه قد علموا
…
شطّ «1» المزار وبان البان «2» والعلم
لهفي عليهم وقد شدّوا ركائبهم
…
عن الديار ولا يثني بهم ندم
قد كان يدنيهم طيف يلمّ بنا
…
فالآن لا الطيف يدنيهم ولا الحلم
الله أكبر كم أجرى فراقهم
…
دمعا وعاد بمن لا عاد وهو دم
أمّوا الحجاز فما سارت مطيّهم
…
حتى استقلت نعوشا قدّمت لهم
وأحرموا لطواف البيت لا حرموا
…
من لذة العيش طول الدهر ما حزموا
زاروا النبيّ وساروا نحو موقفهم
…
حتى إذا قاربوا مطلوبهم جثموا
يا سائرين إلى أرض الحجاز لقد
…
خلّفتم في حشاي النار تضطرم
هل منشد فيكم أو ناشد طلبا
…
أضللته وادلهمّت بعده الظلم
قد كان في قاسم من غيره عوض
…
فاليوم لا قاسم فينا ولا قسم «3»
من لو أتى مكة مالت أباطحها
…
به سرورا وجادت أفقها الديم «4»
أقسمت منذ زمان ما رأى أحد
…
لقاسم شبها في الأرض لو قسموا
هذا الذي يشكر المختار هجرته
…
والبيت يعرفه والحل والحرم
ما كان ينكره ركن الحطيم به
…
لو أخّر العمر حتى جاء يستلم
له إليه وفادات تقرّ بها
…
جبال مكة والبطحاء والأكم
محدّث الشام صدقا بل مؤرخه
…
جرى بهذا وذا فيما مضى القلم
يا طالب العلم في الفنّين مجتهدا
…
في ذا وهذا «5» ينادى المفرد العلم
تروى حديث العوالي عن يراعته
…
وماله طاعن فيها ومتّهم
(ص 225) قد كان يدأب في نفع الأنام ولا
…
يزلّه ضجر منه ولا سأم
وحقّق النقد حتى بان بهرجه «1»
…
وصحّح النقل حتى ما به سقم
وعرّف الناس كيف الطرق أجمعها
…
إلى النبي فما جاروا «2» ولا وهموا
وبعض ما جهلوا أضعاف ما علموا
…
وعلّم الخلق في التاريخ ما جهلوا
يريك تاريخه مهما أردت به
…
كأنّ تاريخه الآفاق والأمم
ما فاته فيه ذو ذكر أخلّ به
…
ولو يروم لعادت عاد «3» أو إرم
إذا نشرت له جزأ لتقرأه
…
تظل تنشر أقواما وهم رمم
يا أيها الموت مهلا في تفرّقنا
…
شتّت شمل المعالي وهو منتظم
تجدّ فينا وتسعى في تطلّبنا
…
اصبر سنأتيك لا تسعى بنا قدم
ها قد ظفرت بفرد لا مثيل له
…
وإن أردت له مثلا فأين هم
يا ذاهبا مالنا ألّا تذكّره
…
آها عليك وآه كلها ألم
جادت عليك من الغفران بارقة
…
غراء يضحك فيها البارد الشّبم «4»
تروي ثراك وتسقى من جوانبه
…
إلى جوانب حزوى «5» البان والسّلم «6»
وحل أرض خليص كلّ ريح صبا
…
بنشرها تبعث الأرداف «7» واللمم