المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌162- أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية) - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - جـ ٥

[ابن فضل الله العمري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌منهجنا في خدمة الكتاب وتحقيقه

- ‌الفصل الأول: وهو الخطابي

- ‌[مقدمة المصنف]

- ‌[مشرق الأرض ومغربها]

- ‌[تشبيه بعض الحكماء للأرض]

- ‌[تفضيل المشرق على المغرب]

- ‌[الأنبياء والرسل]

- ‌[الجهات الشريفة]

- ‌[الحواريون والصحابة]

- ‌[جماهير الكرماء والعظماء في الجاهلية والإسلام]

- ‌[الأئمة والفقهاء]

- ‌[السادات الأولياء أئمة التحقيق]

- ‌[الفلاسفة والحكماء والأطباء ورجال الفلك والعلوم]

- ‌[أصحاب الموسيقى]

- ‌[حكم الشرع في السماع وآلاته]

- ‌[قول ابن بسام في خطبة كتاب الذخيرة]

- ‌[أصحاب الصنائع العملية (الكتابة) والفلاحة والسيوف، والرماح، والديباج]

- ‌[في الشرق رست قواعد الخلافة]

- ‌[المقايسة بين سلاطين المشرق والمغرب والخلافة]

- ‌[مسعود بن محمود بن سبكتكين]

- ‌[السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان]

- ‌[السلطان علاء الدين خوارزم شاه]

- ‌[الملك العادل، وجلال الدين محمد]

- ‌[فتنة البساسيري]

- ‌[الحيوان والنبات والمعادن]

- ‌[الجواهر والأحجار]

- ‌[العقاقير]

- ‌[بعض ما في المغرب مما سبق]

- ‌الفصل الثانى فى الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق

- ‌[خطا الأطوال والعروض…الشرق والغرب أمر نسبي]

- ‌[المشرق أطول من المغرب]

- ‌[للمشرق الفخر]

- ‌[قول ابن سعيد.. المحاسن مقسمة.. الأغلب على البلاد المشرقية]

- ‌[رد ابن فضل الله العمري على ابن سعيد]

- ‌[ما فعله يوسف بن تاشفين مع بني عباد ملوك الأندلس]

- ‌[الموازنة بين المشرق والمغرب]

- ‌[الحيوان والنبات]

- ‌[المغرب والمشرق واللغة وبعض الشعراء]

- ‌[العلوم العقلية]

- ‌[المتنزهات.. والقلاع والمدن والأنهار]

- ‌[شعر في مدح المشرق والمغرب وغلمانهما]

- ‌[الإسكندر وبلاد فارس وأرسطو وصاحب الصين]

- ‌[تشبيه ابن سعيد الأرض بطائر]

- ‌[من أحكام المناظرة بين المشارقة والمغاربة]

- ‌[نشأة الخلافة]

- ‌[المناظرة بين الأشخاص: الخلفاء ونحوهم]

- ‌[من عظماء الأدارسة…الناصر علي بن حمود]

- ‌[بنو عبد المؤمن]

- ‌[الشبه بين المأمون بن المنصور الموحدي والمأمون العباسي]

- ‌[خراسان سلطنة عريضة]

- ‌[سجستان ودولة بني الصفار]

- ‌[كرمان وديلمان]

- ‌[مازندران (طبرستان) ]

- ‌[عراق العجم]

- ‌[فارس]

- ‌[خوزستان (الأهواز) ]

- ‌[العراق السلطنة العظمى]

- ‌[شهرزور]

- ‌[الجزيرة]

- ‌[الشام سلطنة جليلة]

- ‌[جزيرة العرب]

- ‌[وهجر سلطنة واليمامة]

- ‌[أذربيجان]

- ‌[أرمينية.. وبلاد الروم]

- ‌[سلطنات المغرب الديار المصرية]

- ‌[برقة وإفريقية]

- ‌[سلطنة المغرب الأقصى]

- ‌[بلاد السودان]

- ‌[أرض النوبة والكانم]

- ‌[جزيرة الأندلس ومن تولى عليها]

- ‌[سلطنات رومية والقسطنطينية]

- ‌[الجندية في المشرق والمغرب رجالها عتادها وما يتبع ذلك وعطاؤهم]

- ‌[الوزارة]

- ‌[الكتاب بالمشرق]

- ‌[جاء في المتأخرين من لم يرض طرق المتقدمين]

- ‌مشاهير قراء المشرق

- ‌[مقدمة]

- ‌1- أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك ابن النجار أبو المنذر الأنصاري

- ‌2- ومن أعلام القراء أبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة

- ‌3- مجاهد بن جبر الإمام

- ‌4- عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة

- ‌5- عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله بن زاذان أبو معبد الكناني الداري المكي

- ‌6- يزيد بن القعقاع أبو فرج القاري أحد العشرة

- ‌7- عاصم بن أبي النجود بهدلة الأسدي

- ‌8- حمزة بن حبيب الزيات

- ‌9- أبو عمرو بن العلاء المازني المقرئ النحوي البصري

- ‌10- نافع بن عبد الرحمن الليثي أبو رويم المقرئ

- ‌11- إسماعيل بن عبد الله المخزومي قارئ أهل مكة

- ‌12- حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي

- ‌13- سليم بن عيسى بن سليم بن عامر

- ‌14- علي بن حمزة الكسائي

- ‌15- أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي

- ‌16- يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي

- ‌17- يعقوب بن إسحاق بن يزيد بن عبد الله

- ‌18- يحيى بن آدم بن سليمان أبو زكريا القرشي

- ‌19- حسين بن علي الجعفي مولاهم الكوفي

- ‌20- قالون أبو موسى

- ‌21- أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبي بزة

- ‌22- خلاد بن خالد

- ‌23- خلف بن هشام بن تغلب أبو محمد البغدادي المقرئ البزار

- ‌24- الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي المقرئ

- ‌25- عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان

- ‌26- هشام بن عمار بن نصير

- ‌27- أبو عمر الدوري

- ‌28- أبو شعيب السوسي

- ‌29- قنبل مقرئ أهل مكة

- ‌30- أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد شيخ العصر أبو بكر البغدادي

- ‌32- محمد بن النضر بن مرّ بن الحر الربعي الإمام أبو الحسن ابن الأخرم الدمشقي

- ‌34- محمد بن الحسن بن محمد بن زياد أبو بكر النقاش الموصلي ثم البغدادي

- ‌[قراء الجانب الغربي]

- ‌[قراء مصر]

- ‌64- محمد بن علي بن أحمد

- ‌66- محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن علي بن سالم بن مكي (الشروطي)

- ‌[المحدّثون من أهل المشرق]

- ‌67- أبو هريرة الدوسي اليماني

- ‌69- قتادة بن دعامة بن قتادة الحافظ

- ‌70- شعبة بن الحجاج بن الورد

- ‌71- عبد الرحمن بن مهدي

- ‌72- أبو داود الطيالسي

- ‌76- عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي

- ‌77- عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل

- ‌78- الإمام العلم أبو عبد الله البخاري

- ‌79- محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس

- ‌86- أبو عيسى الترمذي

- ‌93- أحمد بن محمد بن سعيد أبو العباس الكوفي

- ‌98- محمد بن إسحاق بن محمد بن أبي زكريا يحيى بن منده

- ‌99- أبو عبد الله الحاكم

- ‌101- أبو ذر الهروي

- ‌103- الخطيب أبو بكر بن أحمد بن علي بن ثايت بن أحمد البغدادي، خطيب بغداد

- ‌104- أبو نصر بن ماكولا

- ‌105- أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي

- ‌108- أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر

- ‌112- محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي، المعروف بابن النجار

- ‌113- القاسم محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد بن أبي يدّاش البرزاليّ

- ‌114- يوسف بن الزّكي عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك القضاعي

- ‌115- محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز ابن الذهبي أبو عبد الله شمس الدين

- ‌فأما الحفاظ بالجانب الغربي

- ‌116- يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس

- ‌117- بقيّ بن مخلد

- ‌118- محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد الأزدي الحميدي الأندلسي الميورقي

- ‌119- خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال أبو القاسم الأنصاري الأندلسي

- ‌120- عبد الحق بن عبد الرحمن بن الحسين بن سعيد الحافظ أبو محمد الأزدي الإشبيلي

- ‌121- محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيّد الناس اليعمري الأندلسي الإشبيلي

- ‌122- يزيد بن أبي حبيب الإمام الكبير أبو رجاء الأزدي

- ‌123- عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد بن بشر بن مروان، الحافظ النّسابة أبو محمد الأزدي المصري

- ‌124- أبو طاهر الأصبهاني واسمه أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سلفة الأصبهاني

- ‌125- عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن التوني الدمياطي الشافعي شرف الدين أبو محمد

- ‌[فقهاء المحدثين: الجانب الشرقى]

- ‌126- علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك

- ‌127- القاضي شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي

- ‌128- سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم القرشي المدني

- ‌129- عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى القرشي الأسدي

- ‌130- أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي

- ‌131- سعيد بن جبير الوائلي مولاهم الكوفي

- ‌132- إبراهيم بن يزيد بن الأسود الفقيه الكوفي النخعي

- ‌133- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي

- ‌134- خارجة بن زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان أبو زيد الأنصاري

- ‌135- عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار الشعبي الكوفي

- ‌136- طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني اليماني أبو عبد الرحمن

- ‌137- سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي

- ‌138- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي

- ‌139- سليمان بن يسار

- ‌140- الحسن بن أبي الحسن يسار البصري أبو سعيد

- ‌141- مكحول بن عبد الله الشامي

- ‌142- عطاء بن أبي رباح

- ‌143- أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني القرشي

- ‌144- ربيعة بن أبي عبد الرحمن فرّوخ مولى آل المنكدر

- ‌145- يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو الحافظ

- ‌146- سليمان بن مهران

- ‌147- محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عبد الرحمن

- ‌148- عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج الرومي

- ‌149- عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي

- ‌150- سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة أبو عبد الله الثوري الكوفي الفقيه الإمام

- ‌151- حماد بن سلمة بن دينار

- ‌152- عبد الله بن المبارك

- ‌153- سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي

- ‌154- إسحاق بن أبي الحسن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه أبو يعقوب

- ‌155- إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي الفقيه البغدادي أبو ثور

- ‌156- محمد بن نصر الإمام أبو عبد الله المروزي

- ‌157- محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابوري

- ‌158- أبو سليمان الخطابي حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب القرشي العدوي البستي من ولد زيد بن الخطاب ابن نفيل

- ‌159- الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علي أبو الفضائل القرشي العدوي العمري عرف بالصغّاني الحنفي

- ‌160- أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر الكردي الشهرزوري، عرف بابن الصلاح

- ‌161- يحيى بن شرف بن مزي بن الحسن بن الحسين الحزامي النووي

- ‌162- أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية)

- ‌فأما من نذكر من مشاهير الجانب الغربي فمنهم:

- ‌163- أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي

- ‌164- أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري

- ‌165- القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي

- ‌166- أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف ب (ابن العربي) المعافري

- ‌ومن متقدميهم بالديار المصرية:

- ‌ومن متأخريهم:

- ‌171- علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام

- ‌فهرس المصادر والمراجع

- ‌فهرس الكتاب

الفصل: ‌162- أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية)

ومنهم

‌162- أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية)

«1» (ص 294) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني العلامة الحافظ الحجة المجتهد المفسر شيخ الإسلام، نادرة العصر، علم الزهاد تقي الدين أبو العباس ابن تيمية، هو البحر من أي النواحي جئته، والبدر من أي الضواحي أتيته، جزت آباده لشأو «2» ما قنع به، ولا وقف عنده طليحا «3» مريحا من تعبه طلبا لا يرضى لغاية، ولا يقضى له بنهاية، رضع ثدي العلم منذ فطم، وطلع وجه الصباح ليحاكيه فلطم «4» ، وقطع الليل والنهار دائبين، واتخذ العلم والعمل صاحبين، إلى أن أنسى السلف بهداه، وأنأى الخلف عن بلوغ مداه:»

[الوافر]

ص: 687

وثقّف الله أمرا بات يكلؤه

يمضي حساماه فيه السيف والقلم

بهمة في الثريا أثر أخمصها

وعزمة ليس من عاداتها السأم

على أنه من بيت نشأت منه علماء في سالف الدهور، ونشأت منه عظماء على المشاهير الشهور، فأحيا معالم بيته القديم إذ درس، وجنى من فننه الطريب ما غرس، وأصبح في فضله آية، إلا أنه آية الحرس، عرضت له الكدى «1» فزحزحها، وعارضته البحار فضحضحها «2» ، ثم كان أمة وحده، وفردا حتى نزل لحده، أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل الفناء كل قديم، ولم يكن منهم إلا من يجفل عنه أجفال الظليم «3» ، ويتضاءل لديه العديم.

ما كان بعض الناس إلا مثلما

بعض الحصا الياقوتة الحمراء

جاء في عصر مأهول بالعلماء مشحون بنجوم السماء، تموج في جانبيه بحور خضارم، وتطير بين خافقيه نسور قشاعم «4» ، وتشرق في أنديته (ص 295) بدور دجنّة، وصدور أسنّة، وتثأر جنود زعبل «5» ، ويزأر أسود عيل «6» ، إلا أن

ص: 688

صباحه طمس تلك النجوم، وبحره طمّ على تلك الغيوم، ففاءت سمرته على تلك التلاع، وأطلت قسورته على تلك السباع، ثم عبيت له الكتائب فحطّم صفوفها وخطم أنوفها، وابتلع غديره المطمئن جداولها، واقتلع طوده «1» المرجحن جنادلها «2» ، وأخمدت أنفاسهم ريحه، وأكمدت شراراتهم مصابيحه. [الوافر]

تقدم راكبا فيهم إماما

ولو لاه لما ركبوا وراءه

فجمع أشتات المذاهب، وشتات المذاهب، ونقل عنه أئمة الإجماع فمن سواهم مذاهبهم المختلفة واستحضرها، ومثل صورهم الذاهبة وأحضرها، فلو شعر أبو حنيفة «3» بزمانه وملك أمره لأدنى عصره إليه مقتربا، أو مالك «4» لأجرى وراءه أشبهه ولو كبا، أو الشافعي «5» لقال: ليت هذا كان للأم «6» ولدا وليتني كنت له أبا، أو الشيباني ابن حنبل «7» لما لام عذاره «8» إذا غدا منه، لفرط

ص: 689

العجب أشيبا، لا بل داود الظاهري «1» وسنان الباطني «2» لظنا تحقيقه من منتحله، وابن حزم والشهرستاني لحشر كل منهما ذكره أمة في نحله «3» ، والحاكم النيسابوري والحافظ السّلفي لأضافه هذا إلى استدراكه وهذا إلى رحله «4» . ترد إليه الفتاوى ولا يردها، وتفد عليه فيجيب عليها بأجوبة كأنه كان قاعدا لها يعدها. [الكامل]

أبدا على طرف اللسان جوابه

فكأنما هي دفعة من صيّب

يغدو مساجله بغرّة صافح

ويروح معترفا بذلة مذنب

ولقد تضافرت عليه عصب الأعداء فأقحموا إذ هدر فحله، وأفحموا إذ زمزم (ص 296) ليجني الشهد نحله، ورفع إلى السلطان غير ما مرة ورمي بالكبائر، وتربصت به الدوائر، وسعي به ليؤخذ بالجرائر، وحسده من لم ينل سعيه وكثر فارتاب، ونم وما زاد على أنه اغتاب، وأزعج من وطنه تارة إلى مصر ثم إلى

ص: 690

الإسكندرية، وتارة إلى محبس القلعة بدمشق «1» ، وفي جميعها يودع أخبية السجون، ويلدغ بزباني المنون، وهو على علم يسطر صحفه، ويدخر تحفه، وما بينه وبين الشيء إلا أن يصنفه، ويقرظ به، ولو سمع امرئ واحد ويشنفه، حتى تستهدي أطراف البلاد طرفه، وتستطلع ثنايا الأقاليم شرفه، إلى أن خطفته آخر مرة من سجنه عقاب المنايا، وجذبتها إلى مهواتها قرارة الرزايا، وكان قبل موته قد منع الدواة والقلم، وطبع على قلبه منه طابع الألم، فكان مبدأ مرضه ومنشأ عرضه حتى نزل قفار المقابر، وترك فقار المنابر، وحل ساحة تربه وما يحاذر، وأخذ راحة قلبه من اللائم والعاذر، فمات لا بل حيي، وعرف قدره لأن مثله ما ربي، وكان يوم دفنه يوما مشهودا، ضاقت به البلد وظواهرها، وتذكّرت به أوائل الرزايا وأواخرها، ولم يكن أعظم منها منذ مئين سنين جنازة رفعت على الرقاب، ووطئت في زحامها الأعقاب، وسار مرفوعا على الرءوس متبوعا بالنفوس «2» ،

ص: 691

تحدوه العبرات وتتبعه الزفرات، وتقول له الأمم لا فقدت من غائب، ولأقلامه النافعة لا أبعد كن الله من شجرات، وكان في مدد ما يؤخذ عليه في مقاله، وينبذ في حفرة اعتقاله، لا تبرد له غلة بالجمع بينه وبين خصمائه بالمناظرة، والبحث حيث العيون ناظرة، بل يبدر حاكم فيحكم باعتقاله، أو يمنعه من الفتوى أو بأشياء من نوع هذه البلوى (ص 297) أبعد إقامة بيّنة ولا تعدم دعوى ولا ظهور حجة بالدليل ولا وضوح محجة للتأميل، وكان يجد لهذا ما لا يزاح فيه ضرر شكوى، ولا يطغى ضرم عدوى، وكل امرئ حاز المكارم محسود:[الكامل]

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسدا وبغضا إنه لدميم

كل هذا لتبريزه في الفضل حيث قصرت النظراء، وتجليته كالمصباح إذ أظلمت الآراء، وقيامه في دفع حجة التتار، واقتحامه وسيوفهم تتدفق لجة البدار، حتى جلس إلى السلطان محمود غازان «1» ، حيث تجم الأسد في

ص: 692

آجامها «1» ، وتسقط القلوب في دواخل أجسامها، وتجد النار فتورا في ضرمها، والسيوف فرقا في قرمها «2» ، خوفا من ذلك السبع المغتال، والنمروذ المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيله محتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرا في بحره، وطلب منه الدعاء فرفع يديه، ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه، وهو مقبل إليه، ثم كان على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة أعظم في صدر غازان، والمغل من كل من طلع معه إليهم، وهو سلف العلماء في ذلك الصدر، وأهل الاستحقاق لرفعة القدر، هذا مع ماله من

ص: 693

جهاد في سبيل الله، لم يفزعه فيه طلل الوشيح «1» ، ولم يجزعه فيه ارتفاع النسيح «2» ، مواقف حروب باشرها، وطوائف ضروب عاشرها، وبوارق صفاح كاشرها، ومضايق رماح حاشرها، وأصناف خصوم لد اقتحم معها الغمرات، وواكلها مختلف الثمرات، وقطع جدالها قوي لسانه، وجلادها «3» سبا سنانه، قام بها وصابرها، وبلي بأصاغرها، وقاسى أكابرها، (ص 298) وأهل بدع قام في دفاعها، وجهد في حط يفاعها، ومخالفة ملك بين لها خطأ التأويل، وسقم التعليل، وأسكت طنين الذباب في خياشم رؤوسهم بالأضاليل، حتى ناموا في مراقد الخضوع، وقاموا وأرجلهم تتساقط للوقوع بأدلة أقطع من السيوف، وأجمع من السجوف، وأجلى من فلق الصباح، وأجلب من فلق الرماح:[الطويل]

إذا وثبت في وجه خطب تمزقت

على كفتيه الدرع وانتثر السرد

إلا أن سابق المقدور أوقعه في خلل المسائل، وخطل خطأ لا يأمن فيه مع الإكثار قائل، وأظنه- والله يغفر له- عجّلت له في الدنيا المقاصّة، وأخذ نصيبه من بلواها عامة وله خاصّة، وذلك لحطّه على بعض سلف العلماء، وحلّه لقواعد كثيرة من نواميس القدماء، وقلّة توقيره للكبراء، وكثرة تكفيره للفقراء «4» ،

ص: 694

وتزييفه لغالب الآراء، وتقريبه لجهلة العوام وأهل المراء، وما أفتى به آخرا في مسألتي الزيارة والطلاق «1» ، وإذاعته لهما حتى تكلم فيهما من لا دين له ولا خلاق، فسلّط ذبال الأعداء على سليطه، وأطلق أيدي الاعتداء في تفريطه، ولقّم نارهم سعفه «2» ، وأرى أقساطهم «3» شرفه، فلم يزل إلى أن مات عرضه منهوبا، وعرضه موهوبا وصفاته تتصدع، ورفاته لا يتجمع، ولعل هذا الخير أريد به، وأربع «4» له لحسن منقلبه، وكان لتعمده للخلاف، وتقصده لغير طريق الأسلاف، وتقويته للمسائل الضعاف، وتقويضه عن رؤوس السعاف، تغير مكانته من خاطر السلطان، وتسبب له التغرّب عن الأوطان، وتنفذ إليه سهام الألسنة الرواشق، ورماح الطعن في يد كل ماشق، فلهذا/ (ص 299) لم يزل منغصا عليه طول مدّته، لا تكاد تنقدح عنه جوانب شدّته، هذا مع ما جمع من الورع، وإلى ما فيه من العلى، وما حازه بحذافير الوجود من الجود، كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث فيهبه بأجمعه، ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ منه شيئا إلا ليهبه، ولا يحفظه إلا ليذهبه، كله في سبيل البر، وطريق أهل التواضع «5» لا أهل الكبر، لم يحل به حب الشهوات، ولا حبب إليه من ثلاث الدنيا غير الصلاة، ولقد

ص: 695

نافست ملوك جنكيزخان عليه، ووجهت دسائس رسلها إليه، وبعثت تجدّ في طلبه فنوسيت «1» عليه الأمور أعظمها خوف توثبه، وما زال على هذا ومثله إلى أن صرعه أجله، وأتاه بشير الجنة يستعجله، فانتقل إلى الله، والظن به أنه لا يخجله.

ولد بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده وأهله دمشق وهو صغير «2» ، فسمع ابن عبد الدائم وطبقته «3» ، ثم طلب بنفسه قراءة وسماعا من خلق كثير، وقرأ بنفسه الكتب، وكتب الطباق والأثبات ولازم السماع مدّة سنين واشتغل بالعلوم، وكان من أذكى الناس، كثير الحفظ، قليل النسيان، قلّما حفظ شيئا فنسيه «4» ، وكان إماما في التفسير، وعلوم القرآن، عارفا بالفقه واختلاف الفقهاء، والأصلين والنحو وما يتعلق به، واللغة والمنطق، وعلم الهيئة والجبر والمقابلة وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابين وأهل البدع، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفنّ فنّه، وكان حفظة للحديث مميّزا بين صحيحه وسقيمه، عارفا برجاله متضلعا من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة «5» ، (ص 300) وفتاوى مشبعة في الفروع والأصول كمل منها جملة في الفقه والحديث وردّ البدع بالكتاب والسنة، مثل كتاب الصارم المسلول على منتقص الرسول، وكتاب تبطيل التحليل، وكتاب اقتضاء الصراط المستقيم، وكتاب

ص: 696

تأسيس التقديس في عشرين مجلدا وكتاب الرد على طوائف الشيعة أربع مجلدات، وكتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكتاب السياسة الشرعية، وكتاب التصوف، وكتاب الكلم الطيب، وكتاب المناسك في الحج «1» . وكان من أعرف الناس بالتاريخ، وكثير من مصنفاته مسوّدة ما بيّضت، وتوفي والده وهو شاب فولي مشيخة الحديث بدار الحديث السكرية «2» ، وحضر عنده جماعة من الأعيان، فشكروا علمه وأثنوا عليه، وعلى فضائله وعلومه، حتى قال الشيخ إبراهيم الرقي:

الشيخ تقي الدين يؤخذ عنه ويقلّد في العلوم، فإن طال عمره ملأ الأرض علما، وهو على الحق، ولا بدّ ما يعاوده الناس فإنه وارث علم النبوة، وقال ابن الزملكاني: لقد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين، وقد ألان الله له العلوم كما ألان لداود الحديد، ثم كتب على بعض تصانيف ابن تيمية من نظمه هذه الأبيات:[الكامل المرفل]

ماذا يقول الواصفون له

وصفاته جلت عن الحصر

هو حجة لله قاهرة

هو بيننا أعجوبة العصر «3»

هو آية في الخلق ظاهرة

أنوارها أربت على الفجر «4»

ثم نزغ الشيطان بينهما وغلبت على ابن الزملكاني أهويته، فمال عليه مع من مال، ولما سافر على البريد إلى القاهرة سنة سبعمائة نزل عند عميّ الصاحب شرف الدين تغمده الله «5» / (ص 301) برحمته، وحضّ على الجهاد في سبيل

ص: 697

الله، وأغلظ في القول «1» ، ورتّب له مرتب في كل يوم، وهو دينار وصحفة (طعام) وحاجته بقجة قماش، فلم يقبل من ذلك شيئا «2» ، وقال القاضي أبو الفتح ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا، كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، وحضر عنده شيخنا العلامة شيخ النحاة أبو حيّان وقال: ما رأت عيناي مثله ثم مدحه أبو حيان على البديّة في المجلس بقوله: [البسيط]

لما أتينا تقي الدين لاح لنا

داع إلى الله فرد ماله وزر

على محياه من سيما الألى صحبوا

خير البريّة نور دونه القمر

حبر تسربل منه دهره حبرا

بحر تقاذف من أمواجه الدرر

قام ابن تيمية في نصر شرعتنا

مقام سيد تيم إذ عصت مضر

فأظهر «3» الحق إذ آثاره درست «4»

وأخمد الشرّ إذ طارت له شرر «5»

كنا نحدث عن حبر يجئ بها «6»

أنت الإمام الذي قد «7» كان ينتظر

قلت: ثم دار بينهما كلام جرى فيه ذكر سيبويه فتسرّع ابن تيمية فيه بقول نافره عليه أبو حيان وقطعه بسببه، ثم عاد أكثر الناس ذما له، واتخذه له ذنبا لا يغفر «8» .

ص: 698

ولما قدم غازان «1» دمشق خرج إليه ابن تيمية في جماعة من صلحاء الدماشقة، منهم القدوة الشيخ محمد بن قوام فلما دخلوا على غازان كان مما قال ابن تيمية للترجمان: قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدّك هولاكو كانا كافرين وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت.

وجرت له مع غازان وقطلو شاه ومولاي أمورونون قام فيها كلها لله وقال الحق، ولم يخش إلا الله. أخبرنا قاضي القضاة أبو العباس ابن صصري «2» : أنهم لما حضروا مجلس غازان، قدم لهم طعام فأكلوا منه إلا ابن تيمية، فقيل له: لم لا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس. ثم إن غازان طلب منه الدعاء. فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجهادا في سبيلك فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر، فأن تفعل به وتصنع- يدعو عليه وغازان يؤمّن على دعائه- ونحن نجمع ثيابنا خوفا أن يقتل فتطرطش بدمه، ثم لما خرجنا قلنا له: كدت تهلكنا معك، ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: ولا أنا أصحبكم. فانطلقنا عصبة، وتأخرت خاصة من معه، فتسامعت الخواص والأمراء فأتوه من كل فج عميق، وصاروا ملاحقون به ليتبركوا برؤيته، فأما هو فما وصل إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وأما نحن فخرج علينا جماعة فشلحونا.

وكان لا يسمح لما ظهر في بلوغ مرادهم من ضرورة ويقول: مالي وله. وكان

ص: 699

قاضي القضاة أبو عبد الله الحريري «1» يقول: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو.

ثم بعد ذلك تمكن ابن تيمية في الشام حتى صار يحلق الرءوس ويضرب الحدود، ويأمر بالقطع والقتل «2» ، ثم ظهر الشيخ نصر المنبجي، واستولى على أرباب الدولة القاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تيمية إنه اتحادي وإنه ينصر مذهب ابن العربي (ص 302) وابن تشفين «3» فكتب إليه نحو ثلاثمائة سطر ينكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال هذا مبتدع، وأخاف على الناس من شره، فحسّن القضاة للأمراء طلبه إلى القاهرة وأن يعقد له مجلس، فعقد له مجلس بدمشق فلم يرض المنبجي «4» ، وقال لابن مخلوف «5» : قل للأمراء: إن هذا يخشى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت «6» في بلاد المغرب، فطلب من الأفرم نائب دمشق فعقد له مجلس ثان، وثالث بسبب العقيدة الحموية «7» ثم سكنت القضية إلى أيام الجاشنكير، فأوهمه الشيخ نصر

ص: 700

أن ابن تيمية يخرجهم من الملك ويقيم غيرهم، فطلب إلى الديار المصرية، فمانع نائب الشام وقال: قد عقد له مجلسان بحضرتي، وحضرة القضاة والفقهاء، وما ظهر عليه شيء، فقال الرسول لنائب دمشق: أنا ناصح لك وقد قيل: إنه يجمع الناس عليك، وعقد لهم بيعه فجزع من ذلك، وأرسله إلى القاهرة في رمضان سنة خمس وسبعمائة «1» ، وكتب معه كتابا إلى السلطان، وكتب معه محضر فيه خطوط جماعة من القضاة وكبار الصلحاء والعلماء بصورة ما جرى في المجلسين، وأنه لم يثبت عليه فيهما شيء، ولا منع من الإفتاء، فما التفت إلى شيء من ذلك، وسجن بالإسكندرية مدة ثم عاد إلى دمشق «2» [وحكي من شجاعته في مواقف الحرب فوق شقحب وبون كسروان «3» ما لم يسمع إلا عن صناديد الرجال وأبطال اللقاء وأحلاس الحرب «4» تارة يباشر القتال وتارة يحرض عليه، وركب البريد إلى مهنّا بن عيسى واستحضره إلى الجهاد «5» وركب بعدها إلى السلطان واستنفره وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره «6» ، ولما جاء السلطان إلى شقحب لاقاه إلى قرن الحرة، وجعل يشجعه ويثبته فلما رأى السلطان كثرة التتار قال: يا لخالد بن الوليد، فقال له: لا تقل هذا بل قل يا الله، واستغث بالله ربك ووحده وحده ينصر، وقل: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، وما زال ينفتل تارة على الخليفة وتارة على السلطان ويهدئهما،

ص: 701

ويربط جأشهما حتى جاء نصر الله والفتح.

وحكي أنه قال للسلطان: اثبت فأنت منصور، فقال له بعض الأمراء، قل إن شاء الله، فقال إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، فكان كما قال «1» .

وحكى أبو حفص عمر بن علي بن موسى البزاز البغدادي قال: [حدثني الشيخ المقري تقي الدين عبد الله بن سعيد قال: مرضت بدمشق مرضة شديدة، فجاءني ابن تيمية فجلس عند رأسي وأنا مثقل بالحمى والمرض، فدعا لي، ثم قال: قم جاءت العافية، فما كان إلا أن قام وفارقني وإذ بالعافية قد جاءت، وشفيت لوقتي «2» . قلت: وكان يجيئه من المال في كل سنة مالا يكاد يحصى، فينفقه جميعا آلافا ومئين، لا يلمس منه درهما بيده ولا ينفقه في حاجة له، وكان يعود المرضى، ويشيّع الجنائز ويقوم بحقوق الناس ويتألف القلوب «3» ، ولا ينسب إلى ناحب لديه مذهبا ولا يحفظ المتكلم عنده زلة، ولا يشتهي طعاما، ولا يمتنع من شيء منه بل هو مع ما حضر، لا يتجهم مرآه ولا يتكدر صفوه ولا يسؤم عفوه]«4»

وآخر أمره أنه تكلم في مسألتي الزيارة والطلاق، فأخذ وسجن بقلعة دمشق في قاعة، فتوفي بها في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وحضر جمع كبير إلى القلعة وأذن لبعضهم في الدخول، وغسّل وصلي عليه بالقلعة ثم حمل على أصابع الرجال إلى جامع دمشق ضحوة النهار، وصلي عليه

ص: 702

به، ودفن بمقبرة الصوفية، وما وصل إلى قبره إلى وقت العصر «1» ، وخرج الناس من جميع أبواب البلد، وكانوا خلقا لا يحصيهم إلا الله تعالى، وحرز الرجال بستين ألفا والنساء بخمسة آلاف امرأة، وقيل أكثر من ذلك «2» ، ورؤيت له منامات صالحة، ورثاه جماعات من الناس بالشام ومصر والحجاز والغرب من آل فضل الله عليه:

/ (ص 303) ورثيته بقصيد لي وهي «3» : [البسيط]

أهكذا بالدياجي يحجب القمر

ويحبس النور حتى يذهب المطر

أهكذا تمنع الشمس المنيرة عن

منافع الأرض أحيانا فتستتر

أهكذا الدهر ليلا كله أبدا

فليس يعرف في أوقاته سحر

أهكذا السيف لا تمضي مضاربه

والسيف في الفتك ما في عزمه خور

أهكذا القوس ترمي بالعراء وما

تصمي «4» الرمايا وما في باعها قصر

أهكذا يترك البحر الخضمّ ولا

يلوى عليه وفي أصدافه الدرر

أهكذا بتقي الدين قد عبثت

أيدي العدى وتعدّى نحوه الضرر

ألا ابن تيمية ترمى سهام أذى

من الأنام ويدمى الناب والظفر

بذّ السوابق ممتد العبادة لا

يناله ملل فيها ولا ضجر

ولم يكن مثله بعد الصحابة في

علم عظيم وزهد ماله خطر

ص: 703

طريقة كان يمشي قبل مشيته

بها أبو بكر الصديق أو عمر

فرد المذاهب في أقوال أربعة

جاؤوا على أثر السبّاق وابتدروا

لما بنوا قبله عليا مذاهبهم

بنى وعمّر منها مثل ما عمروا

مثل الأئمة قد أحيا زمانهم

كأنه كان فيهم وهو منتظر

إن يرفعوهم جميعا رفع مبتدأ

فحقه الرفع أيضا إنه خبر

أمثله بينكم يلقى بمضيعة

حتى يطيح له عمدا دم هدر

يكون وهو أمانيّ لغيركم

تنوبه منكم الأحداث والغير

والله لو أنه في غير أرضكم

لكان منكم على أبوابه زمر

مثل ابن تيمية ينسى بمحبسه

حتى يموت ولم يكحل به بصر

(ص 304) مثل ابن تيمية ترضى حواسده

بحبسه أو لكم في حبسه عذر

مثل ابن تيمية في السجن معتقل

والسجن كالغمد «1» وهو الصارم الذكر

مثل ابن تيمية يرمى بكل أذى

وليس يجلى قذى منه ولا نظر

مثل ابن تيمية تذوي خمائله

وليس يلقط من أفنانه الزهر

مثل ابن تيمية شمس تغيب سدى

وما ترق بها الآصال والبكر

مثل ابن تيمية يمضي وما عبقت

بمسكه العاطر الأردان والطرر «2»

مثل ابن تيمية يمضي وما نهلت

له سيوف ولا خطيّة سمر «3»

ص: 704

ولا تجارى له خيل مسوّمة

وجوه فرسانها الأوضاح والغرر

ولا تحف به الأبطال دائرة

كأنهم أنجم في وسطها قمر

ولا تعبّس حرب في مواقفه

يوما ويضحك في أرجائه الظفر

حتى يقوّم هذا الدين من ميل

ويستقيم على منهاجه البشر

بل هكذا السلف الأبرار ما برحوا

يبلى اصطبارهم جهدا وهم صبر

تأسى بالأنبياء الطهر كم بلغت

فيهم مضرّة أقوام وكم هجروا

في يوسف في دخول السجن منقبة

لمن يكابد ما يلقى ويصطبر

ما أهملوا أبدا بل أمهلوا لمدى

والله يعقب تأييدا وينتصر

أيذهب المنهل الصافي وما نقعت

به الظماء وتبقى الحمأة الكدر «1»

مضى حميدا ولم يعلق به وضر «2»

وكلهم وضر في الناس أو وذر «3»

طود من الحلم لا يرقى له قنن «4»

كأنما الطود من أحجاره حجر

بحر من العلم قد فاضت بقيّته

فغاضت الأبحر العظمى وما شعروا

يا ليت شعري هل في الحاسدين له

نظيره في جميع القوم إن ذكروا

(ص 305) هل فيهم لحديث المصطفى أحد

يميز النقد أو يروى له خبر «5»

هل فيهم من يضمّ البحث في نظر

أو مثله من يصمّ «6» البحث والنظر

هلا جمعتم له من قومكم ملأ

كفعل فرعون مع موسى لتعتبروا

ص: 705

قولوا لهم قال هذا فابحثوا معه

قدّامنا وانظروا الجهّال إن قدروا

تلقى الأباطيل أسحار لها دهش

فيلقف الحق ما قالوا وما سحروا

فليتهم مثل ذاك الرهط من ملأ

حتى تكون لكم في شأنهم عبر

وليتهم أذعنوا للحق مثلهم

فآمنوا كلهم من بعد ما كفروا

يا طالما نفروا عنه مجانبة

وليتهم نفعوا في الضيم «1» أو نفروا

هل فيهم صادع بالحق مقولة

أو خائض للوغى والحرب تستعر

رمى إلى نحر غازان «2» مواجهة

سهامه من دعاء عونه القدر

بتل راهط «3» والأعداء قد غلبوا

على الشآم وطال الشر والشرر

وشق في المرج والأسياف مصلتة

طوائفا كلّها أو بعضها التتر

هذا وأعداؤه في الدور أشجعهم

مثل النساء بظل الباب مستتر

وبعدها كسروان والجبال وقد

أقام أطوادها والطور منفطر «4»

واستحصد القوم بالأسياف جهدهم

وطالما بطلوا طغوى وما بطروا

قالوا قبرناه قلنا إنّ ذا عجب

حقا أللكوكب الدريّ قد قبروا

وليس يذهب معنى منه متقد

وإنما تذهب الأجسام والصور

لم يبكه ندما من لا يصب دما

يجري به ديما تهمي وتنهمر «5»

لهفي عليك أبا العباس كم كرم

لما قضيت قضى من عمره العمر

ص: 706

سقى ثراك من الوسمي «1» صيّبه «2»

وزار مغناك قطر كله قطر

(ص 306) ولا يزال له برق يغازله

حلو المراشف «3» في أجفانه حور «4»

لفقد مثلك يا من ماله مثل

تأسى المحاريب والآيات والسور «5»

يا وارثا من علوم الأنبياء نهى

أورثت قلبي نارا وقدها الفكر

يا واحدا لست أستثني به أحدا

من الأنام ولا أبقي ولا أذر

يا عالما بنقول الفقه أجمعها

أعنك تحفظ زلات كما ذكروا

يا قامع البدع اللاتي تجنّبها

أهل الزمان وهذا البدو والحضر

ومرشد الفرقة الضلّال نهجهم

من الطريق فما حاروا ولا سهروا

ألم يكن للنصارى واليهود معا

مجادلا وهم في البحث قد حصروا «6»

وكم فتى جاهل غرّ أنبت له

رشد المقال فزال الجهل والغرر»

ما أنكروا منك إلا أنهم جهلوا

عظيم قدرك لكن ساعد القدر

قالوا بأنك قد أخطأت مسألة

وقد يكون فهلّا منك تغتفر

غلطت في الدهر أو أخطأت واحدة

أما أجدت إصابات فتعتذر

ص: 707

ومن يكون على التحقيق مجتهدا

له الثواب على الحالين لا الوزر

ألم تكن بأحاديث النبي إذا

سئلت تعرف ما تأتي وما تذر «1»

حاشاك من شبه فيها ومن شبه

كلاهما منك لا يبقى له أثر

عليك في البحث أن تبدي غوامضه

وما عليك إذا لم تفهم البقر

قدّمت لله ما قدّمت من عمل

وما عليك بهم ذمّوك أو شكروا

هل كان مثلك من يخفى عليه هدى

ومن سمائك تبدو الأنجم الزّهر

وكيف تحذر من شيء تزل به

أنت التقي فماذا الخوف والحذر

ص: 708