الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم
162- أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية)
«1» (ص 294) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني العلامة الحافظ الحجة المجتهد المفسر شيخ الإسلام، نادرة العصر، علم الزهاد تقي الدين أبو العباس ابن تيمية، هو البحر من أي النواحي جئته، والبدر من أي الضواحي أتيته، جزت آباده لشأو «2» ما قنع به، ولا وقف عنده طليحا «3» مريحا من تعبه طلبا لا يرضى لغاية، ولا يقضى له بنهاية، رضع ثدي العلم منذ فطم، وطلع وجه الصباح ليحاكيه فلطم «4» ، وقطع الليل والنهار دائبين، واتخذ العلم والعمل صاحبين، إلى أن أنسى السلف بهداه، وأنأى الخلف عن بلوغ مداه:»
[الوافر]
وثقّف الله أمرا بات يكلؤه
…
يمضي حساماه فيه السيف والقلم
بهمة في الثريا أثر أخمصها
…
وعزمة ليس من عاداتها السأم
على أنه من بيت نشأت منه علماء في سالف الدهور، ونشأت منه عظماء على المشاهير الشهور، فأحيا معالم بيته القديم إذ درس، وجنى من فننه الطريب ما غرس، وأصبح في فضله آية، إلا أنه آية الحرس، عرضت له الكدى «1» فزحزحها، وعارضته البحار فضحضحها «2» ، ثم كان أمة وحده، وفردا حتى نزل لحده، أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل الفناء كل قديم، ولم يكن منهم إلا من يجفل عنه أجفال الظليم «3» ، ويتضاءل لديه العديم.
ما كان بعض الناس إلا مثلما
…
بعض الحصا الياقوتة الحمراء
جاء في عصر مأهول بالعلماء مشحون بنجوم السماء، تموج في جانبيه بحور خضارم، وتطير بين خافقيه نسور قشاعم «4» ، وتشرق في أنديته (ص 295) بدور دجنّة، وصدور أسنّة، وتثأر جنود زعبل «5» ، ويزأر أسود عيل «6» ، إلا أن
صباحه طمس تلك النجوم، وبحره طمّ على تلك الغيوم، ففاءت سمرته على تلك التلاع، وأطلت قسورته على تلك السباع، ثم عبيت له الكتائب فحطّم صفوفها وخطم أنوفها، وابتلع غديره المطمئن جداولها، واقتلع طوده «1» المرجحن جنادلها «2» ، وأخمدت أنفاسهم ريحه، وأكمدت شراراتهم مصابيحه. [الوافر]
تقدم راكبا فيهم إماما
…
ولو لاه لما ركبوا وراءه
فجمع أشتات المذاهب، وشتات المذاهب، ونقل عنه أئمة الإجماع فمن سواهم مذاهبهم المختلفة واستحضرها، ومثل صورهم الذاهبة وأحضرها، فلو شعر أبو حنيفة «3» بزمانه وملك أمره لأدنى عصره إليه مقتربا، أو مالك «4» لأجرى وراءه أشبهه ولو كبا، أو الشافعي «5» لقال: ليت هذا كان للأم «6» ولدا وليتني كنت له أبا، أو الشيباني ابن حنبل «7» لما لام عذاره «8» إذا غدا منه، لفرط
العجب أشيبا، لا بل داود الظاهري «1» وسنان الباطني «2» لظنا تحقيقه من منتحله، وابن حزم والشهرستاني لحشر كل منهما ذكره أمة في نحله «3» ، والحاكم النيسابوري والحافظ السّلفي لأضافه هذا إلى استدراكه وهذا إلى رحله «4» . ترد إليه الفتاوى ولا يردها، وتفد عليه فيجيب عليها بأجوبة كأنه كان قاعدا لها يعدها. [الكامل]
أبدا على طرف اللسان جوابه
…
فكأنما هي دفعة من صيّب
يغدو مساجله بغرّة صافح
…
ويروح معترفا بذلة مذنب
ولقد تضافرت عليه عصب الأعداء فأقحموا إذ هدر فحله، وأفحموا إذ زمزم (ص 296) ليجني الشهد نحله، ورفع إلى السلطان غير ما مرة ورمي بالكبائر، وتربصت به الدوائر، وسعي به ليؤخذ بالجرائر، وحسده من لم ينل سعيه وكثر فارتاب، ونم وما زاد على أنه اغتاب، وأزعج من وطنه تارة إلى مصر ثم إلى
الإسكندرية، وتارة إلى محبس القلعة بدمشق «1» ، وفي جميعها يودع أخبية السجون، ويلدغ بزباني المنون، وهو على علم يسطر صحفه، ويدخر تحفه، وما بينه وبين الشيء إلا أن يصنفه، ويقرظ به، ولو سمع امرئ واحد ويشنفه، حتى تستهدي أطراف البلاد طرفه، وتستطلع ثنايا الأقاليم شرفه، إلى أن خطفته آخر مرة من سجنه عقاب المنايا، وجذبتها إلى مهواتها قرارة الرزايا، وكان قبل موته قد منع الدواة والقلم، وطبع على قلبه منه طابع الألم، فكان مبدأ مرضه ومنشأ عرضه حتى نزل قفار المقابر، وترك فقار المنابر، وحل ساحة تربه وما يحاذر، وأخذ راحة قلبه من اللائم والعاذر، فمات لا بل حيي، وعرف قدره لأن مثله ما ربي، وكان يوم دفنه يوما مشهودا، ضاقت به البلد وظواهرها، وتذكّرت به أوائل الرزايا وأواخرها، ولم يكن أعظم منها منذ مئين سنين جنازة رفعت على الرقاب، ووطئت في زحامها الأعقاب، وسار مرفوعا على الرءوس متبوعا بالنفوس «2» ،
تحدوه العبرات وتتبعه الزفرات، وتقول له الأمم لا فقدت من غائب، ولأقلامه النافعة لا أبعد كن الله من شجرات، وكان في مدد ما يؤخذ عليه في مقاله، وينبذ في حفرة اعتقاله، لا تبرد له غلة بالجمع بينه وبين خصمائه بالمناظرة، والبحث حيث العيون ناظرة، بل يبدر حاكم فيحكم باعتقاله، أو يمنعه من الفتوى أو بأشياء من نوع هذه البلوى (ص 297) أبعد إقامة بيّنة ولا تعدم دعوى ولا ظهور حجة بالدليل ولا وضوح محجة للتأميل، وكان يجد لهذا ما لا يزاح فيه ضرر شكوى، ولا يطغى ضرم عدوى، وكل امرئ حاز المكارم محسود:[الكامل]
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
…
حسدا وبغضا إنه لدميم
كل هذا لتبريزه في الفضل حيث قصرت النظراء، وتجليته كالمصباح إذ أظلمت الآراء، وقيامه في دفع حجة التتار، واقتحامه وسيوفهم تتدفق لجة البدار، حتى جلس إلى السلطان محمود غازان «1» ، حيث تجم الأسد في
آجامها «1» ، وتسقط القلوب في دواخل أجسامها، وتجد النار فتورا في ضرمها، والسيوف فرقا في قرمها «2» ، خوفا من ذلك السبع المغتال، والنمروذ المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيله محتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرا في بحره، وطلب منه الدعاء فرفع يديه، ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه، وهو مقبل إليه، ثم كان على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة أعظم في صدر غازان، والمغل من كل من طلع معه إليهم، وهو سلف العلماء في ذلك الصدر، وأهل الاستحقاق لرفعة القدر، هذا مع ماله من
جهاد في سبيل الله، لم يفزعه فيه طلل الوشيح «1» ، ولم يجزعه فيه ارتفاع النسيح «2» ، مواقف حروب باشرها، وطوائف ضروب عاشرها، وبوارق صفاح كاشرها، ومضايق رماح حاشرها، وأصناف خصوم لد اقتحم معها الغمرات، وواكلها مختلف الثمرات، وقطع جدالها قوي لسانه، وجلادها «3» سبا سنانه، قام بها وصابرها، وبلي بأصاغرها، وقاسى أكابرها، (ص 298) وأهل بدع قام في دفاعها، وجهد في حط يفاعها، ومخالفة ملك بين لها خطأ التأويل، وسقم التعليل، وأسكت طنين الذباب في خياشم رؤوسهم بالأضاليل، حتى ناموا في مراقد الخضوع، وقاموا وأرجلهم تتساقط للوقوع بأدلة أقطع من السيوف، وأجمع من السجوف، وأجلى من فلق الصباح، وأجلب من فلق الرماح:[الطويل]
إذا وثبت في وجه خطب تمزقت
…
على كفتيه الدرع وانتثر السرد
إلا أن سابق المقدور أوقعه في خلل المسائل، وخطل خطأ لا يأمن فيه مع الإكثار قائل، وأظنه- والله يغفر له- عجّلت له في الدنيا المقاصّة، وأخذ نصيبه من بلواها عامة وله خاصّة، وذلك لحطّه على بعض سلف العلماء، وحلّه لقواعد كثيرة من نواميس القدماء، وقلّة توقيره للكبراء، وكثرة تكفيره للفقراء «4» ،
وتزييفه لغالب الآراء، وتقريبه لجهلة العوام وأهل المراء، وما أفتى به آخرا في مسألتي الزيارة والطلاق «1» ، وإذاعته لهما حتى تكلم فيهما من لا دين له ولا خلاق، فسلّط ذبال الأعداء على سليطه، وأطلق أيدي الاعتداء في تفريطه، ولقّم نارهم سعفه «2» ، وأرى أقساطهم «3» شرفه، فلم يزل إلى أن مات عرضه منهوبا، وعرضه موهوبا وصفاته تتصدع، ورفاته لا يتجمع، ولعل هذا الخير أريد به، وأربع «4» له لحسن منقلبه، وكان لتعمده للخلاف، وتقصده لغير طريق الأسلاف، وتقويته للمسائل الضعاف، وتقويضه عن رؤوس السعاف، تغير مكانته من خاطر السلطان، وتسبب له التغرّب عن الأوطان، وتنفذ إليه سهام الألسنة الرواشق، ورماح الطعن في يد كل ماشق، فلهذا/ (ص 299) لم يزل منغصا عليه طول مدّته، لا تكاد تنقدح عنه جوانب شدّته، هذا مع ما جمع من الورع، وإلى ما فيه من العلى، وما حازه بحذافير الوجود من الجود، كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث فيهبه بأجمعه، ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ منه شيئا إلا ليهبه، ولا يحفظه إلا ليذهبه، كله في سبيل البر، وطريق أهل التواضع «5» لا أهل الكبر، لم يحل به حب الشهوات، ولا حبب إليه من ثلاث الدنيا غير الصلاة، ولقد
نافست ملوك جنكيزخان عليه، ووجهت دسائس رسلها إليه، وبعثت تجدّ في طلبه فنوسيت «1» عليه الأمور أعظمها خوف توثبه، وما زال على هذا ومثله إلى أن صرعه أجله، وأتاه بشير الجنة يستعجله، فانتقل إلى الله، والظن به أنه لا يخجله.
ولد بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده وأهله دمشق وهو صغير «2» ، فسمع ابن عبد الدائم وطبقته «3» ، ثم طلب بنفسه قراءة وسماعا من خلق كثير، وقرأ بنفسه الكتب، وكتب الطباق والأثبات ولازم السماع مدّة سنين واشتغل بالعلوم، وكان من أذكى الناس، كثير الحفظ، قليل النسيان، قلّما حفظ شيئا فنسيه «4» ، وكان إماما في التفسير، وعلوم القرآن، عارفا بالفقه واختلاف الفقهاء، والأصلين والنحو وما يتعلق به، واللغة والمنطق، وعلم الهيئة والجبر والمقابلة وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابين وأهل البدع، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفنّ فنّه، وكان حفظة للحديث مميّزا بين صحيحه وسقيمه، عارفا برجاله متضلعا من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة «5» ، (ص 300) وفتاوى مشبعة في الفروع والأصول كمل منها جملة في الفقه والحديث وردّ البدع بالكتاب والسنة، مثل كتاب الصارم المسلول على منتقص الرسول، وكتاب تبطيل التحليل، وكتاب اقتضاء الصراط المستقيم، وكتاب
تأسيس التقديس في عشرين مجلدا وكتاب الرد على طوائف الشيعة أربع مجلدات، وكتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكتاب السياسة الشرعية، وكتاب التصوف، وكتاب الكلم الطيب، وكتاب المناسك في الحج «1» . وكان من أعرف الناس بالتاريخ، وكثير من مصنفاته مسوّدة ما بيّضت، وتوفي والده وهو شاب فولي مشيخة الحديث بدار الحديث السكرية «2» ، وحضر عنده جماعة من الأعيان، فشكروا علمه وأثنوا عليه، وعلى فضائله وعلومه، حتى قال الشيخ إبراهيم الرقي:
الشيخ تقي الدين يؤخذ عنه ويقلّد في العلوم، فإن طال عمره ملأ الأرض علما، وهو على الحق، ولا بدّ ما يعاوده الناس فإنه وارث علم النبوة، وقال ابن الزملكاني: لقد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين، وقد ألان الله له العلوم كما ألان لداود الحديد، ثم كتب على بعض تصانيف ابن تيمية من نظمه هذه الأبيات:[الكامل المرفل]
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة
…
هو بيننا أعجوبة العصر «3»
هو آية في الخلق ظاهرة
…
أنوارها أربت على الفجر «4»
ثم نزغ الشيطان بينهما وغلبت على ابن الزملكاني أهويته، فمال عليه مع من مال، ولما سافر على البريد إلى القاهرة سنة سبعمائة نزل عند عميّ الصاحب شرف الدين تغمده الله «5» / (ص 301) برحمته، وحضّ على الجهاد في سبيل
الله، وأغلظ في القول «1» ، ورتّب له مرتب في كل يوم، وهو دينار وصحفة (طعام) وحاجته بقجة قماش، فلم يقبل من ذلك شيئا «2» ، وقال القاضي أبو الفتح ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا، كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، وحضر عنده شيخنا العلامة شيخ النحاة أبو حيّان وقال: ما رأت عيناي مثله ثم مدحه أبو حيان على البديّة في المجلس بقوله: [البسيط]
لما أتينا تقي الدين لاح لنا
…
داع إلى الله فرد ماله وزر
على محياه من سيما الألى صحبوا
…
خير البريّة نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حبرا
…
بحر تقاذف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
…
مقام سيد تيم إذ عصت مضر
فأظهر «3» الحق إذ آثاره درست «4»
…
وأخمد الشرّ إذ طارت له شرر «5»
كنا نحدث عن حبر يجئ بها «6»
…
أنت الإمام الذي قد «7» كان ينتظر
قلت: ثم دار بينهما كلام جرى فيه ذكر سيبويه فتسرّع ابن تيمية فيه بقول نافره عليه أبو حيان وقطعه بسببه، ثم عاد أكثر الناس ذما له، واتخذه له ذنبا لا يغفر «8» .
ولما قدم غازان «1» دمشق خرج إليه ابن تيمية في جماعة من صلحاء الدماشقة، منهم القدوة الشيخ محمد بن قوام فلما دخلوا على غازان كان مما قال ابن تيمية للترجمان: قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدّك هولاكو كانا كافرين وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت.
وجرت له مع غازان وقطلو شاه ومولاي أمورونون قام فيها كلها لله وقال الحق، ولم يخش إلا الله. أخبرنا قاضي القضاة أبو العباس ابن صصري «2» : أنهم لما حضروا مجلس غازان، قدم لهم طعام فأكلوا منه إلا ابن تيمية، فقيل له: لم لا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس. ثم إن غازان طلب منه الدعاء. فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجهادا في سبيلك فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر، فأن تفعل به وتصنع- يدعو عليه وغازان يؤمّن على دعائه- ونحن نجمع ثيابنا خوفا أن يقتل فتطرطش بدمه، ثم لما خرجنا قلنا له: كدت تهلكنا معك، ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: ولا أنا أصحبكم. فانطلقنا عصبة، وتأخرت خاصة من معه، فتسامعت الخواص والأمراء فأتوه من كل فج عميق، وصاروا ملاحقون به ليتبركوا برؤيته، فأما هو فما وصل إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وأما نحن فخرج علينا جماعة فشلحونا.
وكان لا يسمح لما ظهر في بلوغ مرادهم من ضرورة ويقول: مالي وله. وكان
قاضي القضاة أبو عبد الله الحريري «1» يقول: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو.
ثم بعد ذلك تمكن ابن تيمية في الشام حتى صار يحلق الرءوس ويضرب الحدود، ويأمر بالقطع والقتل «2» ، ثم ظهر الشيخ نصر المنبجي، واستولى على أرباب الدولة القاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تيمية إنه اتحادي وإنه ينصر مذهب ابن العربي (ص 302) وابن تشفين «3» فكتب إليه نحو ثلاثمائة سطر ينكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال هذا مبتدع، وأخاف على الناس من شره، فحسّن القضاة للأمراء طلبه إلى القاهرة وأن يعقد له مجلس، فعقد له مجلس بدمشق فلم يرض المنبجي «4» ، وقال لابن مخلوف «5» : قل للأمراء: إن هذا يخشى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت «6» في بلاد المغرب، فطلب من الأفرم نائب دمشق فعقد له مجلس ثان، وثالث بسبب العقيدة الحموية «7» ثم سكنت القضية إلى أيام الجاشنكير، فأوهمه الشيخ نصر
أن ابن تيمية يخرجهم من الملك ويقيم غيرهم، فطلب إلى الديار المصرية، فمانع نائب الشام وقال: قد عقد له مجلسان بحضرتي، وحضرة القضاة والفقهاء، وما ظهر عليه شيء، فقال الرسول لنائب دمشق: أنا ناصح لك وقد قيل: إنه يجمع الناس عليك، وعقد لهم بيعه فجزع من ذلك، وأرسله إلى القاهرة في رمضان سنة خمس وسبعمائة «1» ، وكتب معه كتابا إلى السلطان، وكتب معه محضر فيه خطوط جماعة من القضاة وكبار الصلحاء والعلماء بصورة ما جرى في المجلسين، وأنه لم يثبت عليه فيهما شيء، ولا منع من الإفتاء، فما التفت إلى شيء من ذلك، وسجن بالإسكندرية مدة ثم عاد إلى دمشق «2» [وحكي من شجاعته في مواقف الحرب فوق شقحب وبون كسروان «3» ما لم يسمع إلا عن صناديد الرجال وأبطال اللقاء وأحلاس الحرب «4» تارة يباشر القتال وتارة يحرض عليه، وركب البريد إلى مهنّا بن عيسى واستحضره إلى الجهاد «5» وركب بعدها إلى السلطان واستنفره وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره «6» ، ولما جاء السلطان إلى شقحب لاقاه إلى قرن الحرة، وجعل يشجعه ويثبته فلما رأى السلطان كثرة التتار قال: يا لخالد بن الوليد، فقال له: لا تقل هذا بل قل يا الله، واستغث بالله ربك ووحده وحده ينصر، وقل: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، وما زال ينفتل تارة على الخليفة وتارة على السلطان ويهدئهما،
ويربط جأشهما حتى جاء نصر الله والفتح.
وحكي أنه قال للسلطان: اثبت فأنت منصور، فقال له بعض الأمراء، قل إن شاء الله، فقال إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، فكان كما قال «1» .
وحكى أبو حفص عمر بن علي بن موسى البزاز البغدادي قال: [حدثني الشيخ المقري تقي الدين عبد الله بن سعيد قال: مرضت بدمشق مرضة شديدة، فجاءني ابن تيمية فجلس عند رأسي وأنا مثقل بالحمى والمرض، فدعا لي، ثم قال: قم جاءت العافية، فما كان إلا أن قام وفارقني وإذ بالعافية قد جاءت، وشفيت لوقتي «2» . قلت: وكان يجيئه من المال في كل سنة مالا يكاد يحصى، فينفقه جميعا آلافا ومئين، لا يلمس منه درهما بيده ولا ينفقه في حاجة له، وكان يعود المرضى، ويشيّع الجنائز ويقوم بحقوق الناس ويتألف القلوب «3» ، ولا ينسب إلى ناحب لديه مذهبا ولا يحفظ المتكلم عنده زلة، ولا يشتهي طعاما، ولا يمتنع من شيء منه بل هو مع ما حضر، لا يتجهم مرآه ولا يتكدر صفوه ولا يسؤم عفوه]«4»
وآخر أمره أنه تكلم في مسألتي الزيارة والطلاق، فأخذ وسجن بقلعة دمشق في قاعة، فتوفي بها في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وحضر جمع كبير إلى القلعة وأذن لبعضهم في الدخول، وغسّل وصلي عليه بالقلعة ثم حمل على أصابع الرجال إلى جامع دمشق ضحوة النهار، وصلي عليه
به، ودفن بمقبرة الصوفية، وما وصل إلى قبره إلى وقت العصر «1» ، وخرج الناس من جميع أبواب البلد، وكانوا خلقا لا يحصيهم إلا الله تعالى، وحرز الرجال بستين ألفا والنساء بخمسة آلاف امرأة، وقيل أكثر من ذلك «2» ، ورؤيت له منامات صالحة، ورثاه جماعات من الناس بالشام ومصر والحجاز والغرب من آل فضل الله عليه:
/ (ص 303) ورثيته بقصيد لي وهي «3» : [البسيط]
أهكذا بالدياجي يحجب القمر
…
ويحبس النور حتى يذهب المطر
أهكذا تمنع الشمس المنيرة عن
…
منافع الأرض أحيانا فتستتر
أهكذا الدهر ليلا كله أبدا
…
فليس يعرف في أوقاته سحر
أهكذا السيف لا تمضي مضاربه
…
والسيف في الفتك ما في عزمه خور
أهكذا القوس ترمي بالعراء وما
…
تصمي «4» الرمايا وما في باعها قصر
أهكذا يترك البحر الخضمّ ولا
…
يلوى عليه وفي أصدافه الدرر
أهكذا بتقي الدين قد عبثت
…
أيدي العدى وتعدّى نحوه الضرر
ألا ابن تيمية ترمى سهام أذى
…
من الأنام ويدمى الناب والظفر
بذّ السوابق ممتد العبادة لا
…
يناله ملل فيها ولا ضجر
ولم يكن مثله بعد الصحابة في
…
علم عظيم وزهد ماله خطر
طريقة كان يمشي قبل مشيته
…
بها أبو بكر الصديق أو عمر
فرد المذاهب في أقوال أربعة
…
جاؤوا على أثر السبّاق وابتدروا
لما بنوا قبله عليا مذاهبهم
…
بنى وعمّر منها مثل ما عمروا
مثل الأئمة قد أحيا زمانهم
…
كأنه كان فيهم وهو منتظر
إن يرفعوهم جميعا رفع مبتدأ
…
فحقه الرفع أيضا إنه خبر
أمثله بينكم يلقى بمضيعة
…
حتى يطيح له عمدا دم هدر
يكون وهو أمانيّ لغيركم
…
تنوبه منكم الأحداث والغير
والله لو أنه في غير أرضكم
…
لكان منكم على أبوابه زمر
مثل ابن تيمية ينسى بمحبسه
…
حتى يموت ولم يكحل به بصر
(ص 304) مثل ابن تيمية ترضى حواسده
…
بحبسه أو لكم في حبسه عذر
مثل ابن تيمية في السجن معتقل
…
والسجن كالغمد «1» وهو الصارم الذكر
مثل ابن تيمية يرمى بكل أذى
…
وليس يجلى قذى منه ولا نظر
مثل ابن تيمية تذوي خمائله
…
وليس يلقط من أفنانه الزهر
مثل ابن تيمية شمس تغيب سدى
…
وما ترق بها الآصال والبكر
مثل ابن تيمية يمضي وما عبقت
…
بمسكه العاطر الأردان والطرر «2»
مثل ابن تيمية يمضي وما نهلت
…
له سيوف ولا خطيّة سمر «3»
ولا تجارى له خيل مسوّمة
…
وجوه فرسانها الأوضاح والغرر
ولا تحف به الأبطال دائرة
…
كأنهم أنجم في وسطها قمر
ولا تعبّس حرب في مواقفه
…
يوما ويضحك في أرجائه الظفر
حتى يقوّم هذا الدين من ميل
…
ويستقيم على منهاجه البشر
بل هكذا السلف الأبرار ما برحوا
…
يبلى اصطبارهم جهدا وهم صبر
تأسى بالأنبياء الطهر كم بلغت
…
فيهم مضرّة أقوام وكم هجروا
في يوسف في دخول السجن منقبة
…
لمن يكابد ما يلقى ويصطبر
ما أهملوا أبدا بل أمهلوا لمدى
…
والله يعقب تأييدا وينتصر
أيذهب المنهل الصافي وما نقعت
…
به الظماء وتبقى الحمأة الكدر «1»
مضى حميدا ولم يعلق به وضر «2»
…
وكلهم وضر في الناس أو وذر «3»
طود من الحلم لا يرقى له قنن «4»
…
كأنما الطود من أحجاره حجر
بحر من العلم قد فاضت بقيّته
…
فغاضت الأبحر العظمى وما شعروا
يا ليت شعري هل في الحاسدين له
…
نظيره في جميع القوم إن ذكروا
(ص 305) هل فيهم لحديث المصطفى أحد
…
يميز النقد أو يروى له خبر «5»
هل فيهم من يضمّ البحث في نظر
…
أو مثله من يصمّ «6» البحث والنظر
هلا جمعتم له من قومكم ملأ
…
كفعل فرعون مع موسى لتعتبروا
قولوا لهم قال هذا فابحثوا معه
…
قدّامنا وانظروا الجهّال إن قدروا
تلقى الأباطيل أسحار لها دهش
…
فيلقف الحق ما قالوا وما سحروا
فليتهم مثل ذاك الرهط من ملأ
…
حتى تكون لكم في شأنهم عبر
وليتهم أذعنوا للحق مثلهم
…
فآمنوا كلهم من بعد ما كفروا
يا طالما نفروا عنه مجانبة
…
وليتهم نفعوا في الضيم «1» أو نفروا
هل فيهم صادع بالحق مقولة
…
أو خائض للوغى والحرب تستعر
رمى إلى نحر غازان «2» مواجهة
…
سهامه من دعاء عونه القدر
بتل راهط «3» والأعداء قد غلبوا
…
على الشآم وطال الشر والشرر
وشق في المرج والأسياف مصلتة
…
طوائفا كلّها أو بعضها التتر
هذا وأعداؤه في الدور أشجعهم
…
مثل النساء بظل الباب مستتر
وبعدها كسروان والجبال وقد
…
أقام أطوادها والطور منفطر «4»
واستحصد القوم بالأسياف جهدهم
…
وطالما بطلوا طغوى وما بطروا
قالوا قبرناه قلنا إنّ ذا عجب
…
حقا أللكوكب الدريّ قد قبروا
وليس يذهب معنى منه متقد
…
وإنما تذهب الأجسام والصور
لم يبكه ندما من لا يصب دما
…
يجري به ديما تهمي وتنهمر «5»
لهفي عليك أبا العباس كم كرم
…
لما قضيت قضى من عمره العمر
سقى ثراك من الوسمي «1» صيّبه «2»
…
وزار مغناك قطر كله قطر
(ص 306) ولا يزال له برق يغازله
…
حلو المراشف «3» في أجفانه حور «4»
لفقد مثلك يا من ماله مثل
…
تأسى المحاريب والآيات والسور «5»
يا وارثا من علوم الأنبياء نهى
…
أورثت قلبي نارا وقدها الفكر
يا واحدا لست أستثني به أحدا
…
من الأنام ولا أبقي ولا أذر
يا عالما بنقول الفقه أجمعها
…
أعنك تحفظ زلات كما ذكروا
يا قامع البدع اللاتي تجنّبها
…
أهل الزمان وهذا البدو والحضر
ومرشد الفرقة الضلّال نهجهم
…
من الطريق فما حاروا ولا سهروا
ألم يكن للنصارى واليهود معا
…
مجادلا وهم في البحث قد حصروا «6»
وكم فتى جاهل غرّ أنبت له
…
رشد المقال فزال الجهل والغرر»
ما أنكروا منك إلا أنهم جهلوا
…
عظيم قدرك لكن ساعد القدر
قالوا بأنك قد أخطأت مسألة
…
وقد يكون فهلّا منك تغتفر
غلطت في الدهر أو أخطأت واحدة
…
أما أجدت إصابات فتعتذر
ومن يكون على التحقيق مجتهدا
…
له الثواب على الحالين لا الوزر
ألم تكن بأحاديث النبي إذا
…
سئلت تعرف ما تأتي وما تذر «1»
حاشاك من شبه فيها ومن شبه
…
كلاهما منك لا يبقى له أثر
عليك في البحث أن تبدي غوامضه
…
وما عليك إذا لم تفهم البقر
قدّمت لله ما قدّمت من عمل
…
وما عليك بهم ذمّوك أو شكروا
هل كان مثلك من يخفى عليه هدى
…
ومن سمائك تبدو الأنجم الزّهر
وكيف تحذر من شيء تزل به
…
أنت التقي فماذا الخوف والحذر