الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْحُكْمِ بِالْفِرَاسَةِ؛ لأَِنَّهُ حُكْمٌ بِالظَّنِّ وَالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ، وَوُصِفَ الْحَاكِمُ الَّذِي يَعْتَمِدُ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِهِ بِالْفِسْقِ وَالْجَوْرِ، لأَِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلأَِنَّ مَدَارِكَ الأَْحْكَامِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا مُدْرَكَةٌ قَطْعًا، وَلَيْسَتِ الْفِرَاسَةُ مِنْهَا.
وَذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّامِيُّ الْمَالِكِيُّ بِبَغْدَادَ إِلَى الأَْخْذِ بِالْفِرَاسَةِ وَالْحُكْمِ بِهَا، جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي قَضَائِهِ، وَذَهَبَ إِلَى هَذَا ابْنُ الْقَيِّمِ وَقَال: وَلَمْ يَزَل حُذَّاقُ الْحُكَّامِ وَالْوُلَاةِ يَسْتَخْرِجُونَ الْحُقُوقَ بِالْفِرَاسَةِ وَالأَْمَارَاتِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ لَمْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا شَهَادَةً تُخَالِفُهَا وَلَا إِقْرَارًا (1) .
مَقَايِيسُ الْفِرَاسَةِ:
6 -
الْفِرَاسَةُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ تَحْصُل لِلإِْنْسَانِ دُونَ سَبَبٍ، فَهِيَ ضَرْبٌ مِنَ الْحَدْسِ، وَنَوْعٌ يَكُونُ نَتِيجَةَ التَّعَلُّمِ وَالتَّجْرِبَةِ.
أَمَّا الأَْوَّل فَلَيْسَتْ لَهُ مَقَايِيسُ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُتَفَرِّسُ، وَإِنَّمَا تَتِمُّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ السَّابِقِ، وَمِنْ
(1) معين الحكام ص206، تبصرة الحكام 2 / 103. وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1119 تفسير القرطبي 10 / 44 - 45، والطرق الحكمية ص24 - 34.
شُرُوطِهَا الاِسْتِقَامَةُ وَغَضُّ النَّظَرِ عَنِ الْمَحَارِمِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ إِذَا أَطْلَقَ نَظَرَهُ تَنَفَّسَتْ نَفْسُهُ الصُّعَدَاءَ فِي مِرْآةِ قَلْبِهِ فَطَمَسَتْ نُورَهَا {وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (1) . وَالْحَقُّ سبحانه وتعالى يُجَازِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ مِنْ جِنْسِهِ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ عَوَّضَهُ إِطْلَاقَ نُورِ بَصِيرَتِهِ، قَال الْبَعْضُ: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ، وَتَعَوَّدَ أَكْل الْحَلَال، لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ، فَكُلَّمَا زَادَتْ تَقْوَى الْمُؤْمِنِ أَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّبَصُّرَ بِالأُْمُورِ وَسُرْعَةَ الْفَهْمِ، فَكَانَتْ فِرَاسَتُهُ أَثْبَتَ مِمَّنْ كَانَ أَقَل تَقْوَى مِنْهُ؛ لأَِنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا يَعْتَمِدُ فِيهِ الْمُتَفَرِّسُ عَلَى عَلَامَاتٍ مَحْسُوسَةٍ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي، وَهُوَ الْفِرَاسَةُ الْمُكْتَسَبَةُ، فَإِنَّهَا تَنْطَلِقُ مِنْ مُلَاحَظَةِ الصِّفَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي أَبْدَانِ النَّاسِ، وَتَتَبُّعِ حَرَكَاتِهِمْ لِلتَّعَرُّفِ مِنْ خِلَالِهَا عَلَى أَحْوَالِهِمُ الْبَاطِنَةِ، وَهِيَ وَإِنِ اشْتَرَكَتْ مَعَ النَّوْعِ الأَْوَّل فِي بَعْضِ هَذَا فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ عَنْهَا بِمَا وَضَعَهُ لَهَا الْقَائِلُونَ بِهَا مِنْ مَقَايِيسَ وَعَلَامَاتٍ. (2)
عَلَى أَنَّ الأَْحْكَامَ الْمُتَوَصَّل إِلَيْهَا بِالْفِرَاسَةِ ظَنِّيَّةٌ يُمْكِنُ أَنْ يُصَدِّقَهَا الْوَاقِعُ، وَيُمْكِنُ أَنْ
(1) سورة النور / 40.
(2)
فيض القدير للمناوي 1 / 143.