الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَانَ اجْتِهَادُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ مَرَدُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقِرُّهُ أَوْ يُنْكِرُهُ. . وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ الْوَحْيُ مَصْدَرَ التَّشْرِيعِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ.
ثُمَّ تَتَابَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَطْوَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي ف 13 وَمَا بَعْدَهَا مِنْ مُقَدِّمَةِ الْجُزْءِ الأَْوَّل مِنَ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ.
الاِخْتِلَافُ فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ وَأَسْبَابُهُ:
8 -
كَانَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي فِيمَا يُرْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ وَقَائِعَ وَكَانَ يُقِرُّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ أَوْ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ كُل مَا قَضَى بِهِ أَوْ أَقَرَّهُ أَوْ أَنْكَرَهُ مَكْتُوبًا أَوْ بِمَشْهَدٍ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، فَرَأَى كُل صَحَابِيٍّ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَحَفِظَ وَعَرَفَ وَجْهَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْبِلَادِ، وَصَارَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُدْوَةً لَهُ أَتْبَاعٌ، وَكَثُرَتِ الْوَقَائِعُ وَالْمَسَائِل فَاسْتُفْتُوا فِيهَا، فَأَجَابَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَسَبَ مَا حَفِظَهُ أَوِ اسْتَنْبَطَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِيمَا حَفِظَهُ أَوِ اسْتَنْبَطَهُ مَا يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ (1) اسْتِنَادًا إِلَى حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه حِينَ بَعَثَهُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ، وَقَال لَهُ: كَيْفَ
(1) الإنصاف في بيان الخلاف لولي الله الدهلوي ص16 وما بعدها.
تَقْضِي؟ فَقَال: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال: فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: أَجْتَهِدُ رَأْيِي. قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُول رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. (1)
وَهَذَا مَنْشَأُ الاِخْتِلَافِ فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَيَقَعُ الاِخْتِلَافُ فِي هَذَا عَلَى ضُرُوبٍ:
9 -
الأَْوَّل: أَنَّ صَحَابِيًّا سَمِعَ حُكْمًا فِي قَضِيَّةٍ أَوْ فَتْوَى وَلَمْ يَسْمَعْهُ الآْخَرُ، فَاجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقَعَ اجْتِهَادُهُ مُوَافِقًا لِلْحَدِيثِ، مِثَالُهُ مَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَال: إِنَّهُ أَتَاهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: إِنَّ رَجُلاً مِنَّا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَجْمَعْهَا إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ، فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: مَا سُئِلْتُ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ هَذِهِ، فَأْتُوا غَيْرِي، فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ فِيهَا شَهْرًا، ثُمَّ قَالُوا لَهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ: مَنْ نَسْأَل إِنْ لَمْ نَسْأَلْكَ وَأَنْتَ مِنْ جُلَّةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْبَلَدِ، وَلَا نَجِدُ غَيْرَكَ؟ قَال: سَأَقُول
(1) حديث معاذ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن. أخرجه الترمذي (3 / 607) وقال: ليس إسناده عندي بمتصل.
فِيهَا بِجَهْدِ رَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بُرَآءٌ، أَرَى أَنْ أَجْعَل لَهَا صَدَاقَ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرًا، قَال: وَذَلِكَ بِمَسْمَعِ أُنَاسٍ مِنْ أَشْجَعَ، فَقَامُوا فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَضَيْتَ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَةٍ مِنَّا، يُقَال لَهَا: بِرْوَعَ بِنْتُ وَاشِقٍ، قَال: فَمَا رُئِيَ عَبْدُ اللَّهِ فَرِحَ فَرْحَةً يَوْمَئِذٍ إِلَاّ بِإِسْلَامِهِ (1) .
ثَانِيهَا: أَنْ يُفْتِيَ الصَّحَابِيُّ وَيَظْهَرَ الْحَدِيثُ عَلَى خِلَافِ مَا أَفْتَى بِهِ، فَيَرْجِعَ عَنِ اجْتِهَادِهِ إِلَى الْحَدِيثِ، وَمِنْ هَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَانَ يُفْتِي أَنَّهُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ، حَتَّى بَلَغَهُ حَدِيثُ عَائِشَة وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا لَا عَنِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَغْتَسِل وَيَصُومُ فَرَجَعَ عَنِ اجْتِهَادِهِ (2) .
ثَالِثُهَا: أَنْ يَبْلُغَهُ الْحَدِيثُ لَكِنْ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ غَالِبُ الظَّنِّ، وَمِنْ هَذَا مَا وَرَدَ
(1) المغني لابن قدامة 6 / 712، والإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ص 16 وما بعدها، ونهاية المحتاج 1 / 350. وحديث ابن مسعود " أنه أتاه قوم. . . ". أخرجه النسائي 6 / 122، 123.
(2)
سبل السلام 2 / 165، وبيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي ص23.، وحديث: " أن أبا هريرة أنه كان يفتي أنه من أصبح جنبًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 143) ومسلم (2 / 779 - 780) .
أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ رضي الله عنها شَهِدَتْ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا فَلَمْ يَجْعَل لَهَا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَقَةً، وَلَا سُكْنَى، فَرَدَّ عُمَرُ شَهَادَتَهَا، وَقَال: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم لِقَوْل امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ: لَهَا النَّفَقَةُ، وَالسُّكْنَى (1) .
رَابِعُهَا: أَنْ لَا يَصِل الْحَدِيثُ إِلَيْهِ أَصْلاً، مِنْ هَذَا مَا وَرَدَ أَنَّ عَائِشَة رضي الله عنها بَلَغَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، فَقَالَتْ: يَا عَجَبًا لاِبْنِ عَمْرٍو هَذَا، يَأْمُرُ النِّسَاءَ إِذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُءُوسَهُنَّ، أَفَلَا يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُءُوسَهُنَّ، لَقَدْ كُنْت أَغْتَسِل أَنَا وَرَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَلَا أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إِفْرَاغَاتٍ (2) .
10 -
الثَّانِي: مِنْ أَسْبَابِ الاِخْتِلَافِ: أَنْ يَرَى النَّاسُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَل فِعْلاً، فَحَمَلَهُ الْبَعْضُ عَلَى الْقُرْبَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الإِْبَاحَةِ.
(1) الإنصاف في بيان سبب الاختلاف ص6.، وحديث فاطمة بنت قيس " أنها شهدت عند عمر ابن الخطاب. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1118 - 1119) .
(2)
الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ص7. وحديث عائشة " أنها بلغها أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء. . . ". أخرجه مسلم (1 / 260) .
مِثَالُهُ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ الأُْصُول فِي قِصَّةِ التَّحْصِيبِ - أَيِ النُّزُول بِالأَْبْطُحِ عِنْدَ النَّفْرِ - نَزَل رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِ (1) : ذَهَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم إِلَى أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَجَعَلَاهُ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ، وَذَهَبَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ الاِتِّفَاقِ، وَلَيْسَ مِنَ السُّنَنِ.
11 -
الثَّالِثُ: السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ: كَأَنْ يَنْقُل صَحَابِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْرًا فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالسَّهْوِ، مِنْ هَذَا مَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يَقُول: اعْتَمَرَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَجَبٍ، (2) فَسَمِعَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَقَضَتْ عَلَيْهِ بِالسَّهْوِ.
12 -
الرَّابِعُ: اخْتِلَافُ الضَّبْطِ، وَمِنْ هَذَا قَوْل ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ (3) ، فَقَضَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ بِالْوَهْمِ.
13 -
الْخَامِسُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَمِنْ هَذَا: الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: لِتَعْظِيمِ الْمَلَائِكَةِ، فَيَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَقَال
(1) حديث نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأبطح عند النفر. أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 391) .
(2)
قول ابن عمر " أن رسول الله اعتمر في رجب ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 599) ومسلم (2 / 917) .
(3)
حديث ابن عمر: " أن الميت يعذب ببكاء أهله ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 151 - 152) ومسلم (2 / 642) .
قَائِل: لِهَوْل الْمَوْتِ، فَيَعُمُّهُمَا، وَقَال قَائِلٌ: مَرَّتْ جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ عَلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ لَهَا، (1) كَرَاهِيَةَ أَنْ تَعْلُوَ فَوْقَ رَأْسِهِ، فَيَخُصُّ الْكَافِرَ.
14 -
السَّادِسُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَمِنْهُ: نَهْيُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، (2) فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى عُمُومِ هَذَا الْحُكْمِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ، وَرَآهُ جَابِرٌ رضي الله عنه " يَبُول قَبْل أَنْ يُتَوَفَّى بِعَامٍ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ "، (3) فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ نَسْخٌ لِلنَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، وَرَآهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما " قَضَى حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِل الشَّامِ "، (4) فَرَدَّ بِهِ قَوْلَهُمْ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالصَّحْرَاءِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمَرَاحِيضِ فَلَا بَأْسَ بِالاِسْتِقْبَال وَالاِسْتِدْبَارِ. (5)
(1) حديث: " مرت جنازة يهودي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه مسلم (2 / 661) .
(2)
حديث: " النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 245) ، ومسلم (1 / 224) من حديث أبي أيوب.
(3)
حديث ابن عمر: " أن الميت يعذب بكاء أهله ". يتوفى بعام. . . " أخرجه الترمذي (1 / 15) وقال: حديث حسن غريب.
(4)
حديث ابن عمر أنه " رأى النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته مستدبر القبلة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 247) ، ومسلم (1 / 225) .
(5)
الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ص15 وما بعدها.