الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لكن مذهب الشافعي، وبعض أصحاب أحمد؛ أنّه ليس للأغنياء الذين لا منفعةَ للمسلمين بهم فيه حقٌّ إذا فضُل المال واتسع عن حاجات المسلمين كما فعَل عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه لمّا كَثُر المال أعطى منهم عامّة المسلمين؛ فكان لجميع أصناف المسلمين فرضٌ في ديوان عمر بن الخطاب؛ غنيّهِم وفقيرِهم.
لكن كان أهلُ الديوان نوعين: مقاتلة -وهم البالغون- وذرية -وهم الصغار والنساء الذين ليسوا من أهل القتال-؛ ومع هذا فالواجب تقديمُ الفقراءِ على الأغنياء الذين لا منفعةَ فيهم فلا يُعطَى غنيٌّ شيئاً حتى يَفضُل عن الفقراء.
هذا مذهب الجمهور؛ كمالك وأحمد في الصحيح من الروايتين عنه. ومذهب الشافعي -كما تقدم- تخصيص الفقراء بالفاضل"* (1).
عقد الأمان
إذا طلَب الأمانَ أيُّ فردٍ مِن الأعداء المحاربين، قُبِل منه، وصار بذلك آمناً؛ لا يجوز الاعتداء عليه؛ بأيّ وجهٍ مِن الوجوه، يقول الله- سبحانه وتعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (2). (3).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى لنبيِّه -صلوات الله وسلامه عليه-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمَرْتُكَ بقتالهم، وأحلَلْتُ لك استباحة
(1) ما بين نجمتين من "مجموع الفتاوى"(28/ 564).
(2)
التوبة: 6.
(3)
انظر "فقه السُّنَّة"(3/ 48).
نفوسهم وأموالهم، {اسْتَجَارَكَ} أي: استأمَنك، فأجِبْه إلى طِلْبته {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} أي: القرآن تقرؤه عليه وتذكُر له شيئاً من أمر الدين تُقيم عليه به حُجَّة الله، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي: وهو آمِنٌ مُستمرّ الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنِه، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} أي: إنما شَرَعْنا أمانَ مِثْلِ هؤلاء ليعلموا دين الله، وتنتشر دعوة الله في عباده.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في تفسير هذه الآية، قال:"إنسانٌ يأتيك ليسمع ما تقول، وما أُنزِل عليك، فهو آمِنٌ حتى يأتيَك فيسمعَ كلام الله، وحتى يبلغَ مأمنَه حيث جاء".
ومِن هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطي الأمان لمن جاءه، مُسترشداً أو في رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعةٌ مِن الرسُل مِن قريش، منهم: عروة بن مسعود، ومِكْرَز بن حفص، وسهيل بن عمرو، وغيرهم؛ واحداً بعد واحد، يتردّدون في القضية بينه وبين المشركين، فرأَوا مِن إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بَهَرهم وما لم يشاهدوه عند مَلِكٍ ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم فأخبَروهم بذلك، وكان ذلك وأمثالُه مِن أكبر أسباب هداية أكثرِهم (1).
(1) قلت: يُشير الحافظ ابن كثير رحمه الله إلى قصة الحديبية وفيها"
…
ثمّ إنّ عروةَ جَعَل يرمُق أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال فوالله ما تنخَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نُخامةً إلَاّ وقعَت في كفِّ رجلٍ منهم، فدَلَكَ بها وجهَه وجِلده وإذا أمَرَهم ابتدروا أمْرَه وإذا توضَّأ كادوا يَقْتتِلون على وَضوئه، وإذا تكلَّم خَفضوا أصواتَهم عنده، وما يُحدّون إليه النَّظَر تعظيماً له، فرجَع عروة إلى أصحابه، فقال: أيْ قومِ، والله لقد وَفَدْت على الملوك، ووفدْتُ على قيصر وكسرى والنجاشيّ، والله إنْ رأيت مَلِكاً قطُّ يُعظِّمه أصحابه ما يُعظِّم أصحابُ محمّد =
ولهذا أيضاً لمّا قَدِم رسولُ مسيلمةَ الكذّاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له:"أتشهدُ أنَّ مسيلمة رسول الله؟ قال: نعم، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: لولا أن الرسلَ لا تُقتَل لضَربْتُ عُنُقَك"(1). وقد قيّض الله له ضَرْب العُنُق في إمارة ابن مسعود على الكوفة، وكان يقال له: ابن النواحة، ظَهَر عنه في زمانِ ابن مسعودٍ أنّه يشهد لمسيلمةَ بالرسالة، فأرسَل إليه ابن مسعودٍ فقال له: إنك الآن لستَ في رسالة، وأمَرَ به فضُرِبت عنقُه، لا رحمه الله ولَعَنه (2).
والغرض أنّ مَن قَدِمَ من دار الحرب إلى دار الإسلام، في أداء رسالة أو تجارة، أو طَلَبِ صُلحٍ أو مهادنة أو حَمْلِ جِزية، أو نحو ذلك من الأسباب، فطلَب من الإمام أو نائبه أمانًا -أُعطي أماناً ما دام مُتردّدًا في دار الإسلام، وحتى يرجع
= صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إنْ يتنخم نخامة إلَاّ وقَعَت في كفِّ رجلٍ منهم؛ فدلَك بها وجهه وجِلْده وإذا أمَرهم ابتدروا أمْرَه وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلَّم خَفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحدّون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عَرَض عليكم خُطَةَ رُشْدِ فاقبلوها" أخرجه أحمد، والبخاري (2731، 2732).
يرمُق: اْي يَلحظ، قال الحافظ رحمه الله: وذكَر الثلاثة [قيصر، وكسرى، والنّجاشي] لكونهم أعظمَ ذلك الزَّمان.
(1)
أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود"(2399) وغيرهما.
(2)
عن حارثةَ بنِ مُضرب أنّه أتى عبد الله فقال: "ما بيني وبين أحدٍ من العرب حِنَةٌ وإني مرَرْتُ بمسجدٍ لبني حنيفة، فإذا هم يؤمنون بمسيلمة، فأرسل إليهم عبد الله، فجيء بهم فاستتابَهم، غير ابن النواحة قال له: سمعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لولا أنك رسولٌ لضربتُ عنقَك. فأنت اليوم لست برسول، فأمَر قَرظَة بن كعب، فضَرَب عُنُقَه في السوق، ثمّ قال: مَن أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلاً بالسوق". أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(2400) وغيره.