الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقسام البغاة وما جاء في تأويلهم
قال ابن حزم رحمه الله في "المحلى"(12/ 497) تحت مسألة (2158) -بتصرف يسير-:
فكان قتال المسلمين فيما بينهم على وجهين: قتالِ البغاة وقتالِ المحاربين، فالبغاة قسمان لا ثالث لهما.
إمّا قِسْم خرجوا على تأويلِ في الدين، فأخطئوا فيه؛ كالخوارج وما جرى مجراهم مِن سائر الأهواء المخالِفة للحقّ.
وإمّا قِسْم أرادوا لأنفسهم دنياً، فخرجوا على إمام حقّ، أو على مَن هو في السيرة مثلهم، فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق، أو إلى أخْذ مال مَن لقوا أو سفْك الدماء هملاً؛ انتقل حُكمهم إلى حكم المحاربين، وهم ما لم يفعلوا ذلك في حُكم البغاة.
فالقِسم الأول مِن أهل البغي يُبيََّن حُكمهم [ثمّ ساق بإسناده إلى أمّ سَلَمة رضي الله عنها]: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمار "تقتلك الفئة الباغية"(2) قال أبو
(1) الحجرات: 9.
(2)
أخرجه البخاري: (447)، (2812)، بلفظ:"ويح عمّار تقتله الفئة الباغية"، ومسلم (2916):"تقتلك الفئة الباغية".
محمّد رحمه الله: وإنما قَتَل عمّاراً رضي الله عنه أصحابُ معاوية رضي الله عنه وكانوا متأولين تأويلهم فيه، وإنْ أخطئوا الحقَّ مأجورون أجراً واحداً لقصْدِهم الخير.
ويكون مِن المتأولين قومٌ لا يُعذَرون ولا أجر لهم؛ كما روينا من طريق البخاري [ثم ساق بإسناده إلى عليّ رضي الله عنه أنّه قال]: سمعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرُج قومٌ في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام (1) يقولون من قول خير البرية (2)، لا يُجاوزُ إيمانُهم حناجرَهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة (3)، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قَتَلهم يوم القيامة"(4) وروينا من طريق مسلم [ثم ساق بإسناده إلى] أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكَر قوماً يكونون في أمّته يخرجون في فِرقةٍ من النّاس سيماهم (5) التحالق هم شرّ الخلق -أو من شرّ الخلق-، تَقْتُلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" (6). وذكَر الحديث.
قال أبو محمّد رحمه الله: "ففي هذا الحديث نصٌّ جليٌّ بما قلنا وهو أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر هؤلاء القوم؛ فذمّهم أشدَّ الذم وأنهم مِن شر الخلق، وأنهم يخرجون
(1) أحداث الأسنان سفهاء الأحلام: معناه صغار الأسنان، صغار العقول، "شرح النّووي".
(2)
معناه في ظاهر الأمر؛ بقولهم: لا حُكم إلَاّ لله، ونظائره من دعائهم إلى كتاب الله -تعالى- والله أعلم، "شرح النّووي".
(3)
الرَّمِيَّة: الصيد الذي ترميه؛ فتقصده، وينفُذُ فيه سهمك، "النّهاية".
(4)
أخرجه البخاري: 3611، ومسلم: 1066 وهذا لفظه.
(5)
السيما: العلامة.
(6)
أخرجه مسلم: 1065.
في فرقة مِن النّاس، فصحّ أنّ أولئك أيضاً مفترقون، وأنّ الطائفة المذمومة تقتلها أدنى الطائفتَين المفترِقَتَين إلى الحقّ، فجعَل عليه السلام في الافتراق تفاضلاً، وجعَل إحدى الطائفتين المفترقتين لها دنواً من الحقِّ -وإنْ كانت الأخرى أولى به- ولم يجعل للثالثة شيئاً من الدنو إلى الحقّ.
فصحّ أنّ التأويل يختلف، فأيّ طائفةٍ تأوَّلَت في بُغيتها طمساً لشيء من السّنة كمن قام برأي الخوارج ليُخرِجَ الأمر عن قريش، أو ليُردَّ النّاس إلى القول بإبطال الرجم، أو تكفيرِ أهل الذنوب، أو استقراضِ المسلمين، أو قتلِ الأطفال والنساء وإظهار القول بإبطال القدر، أو إبطال الرؤية، أو إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئاً إلاّ حتى يكون، أو إلى البراءة عن بعض الصحابة أو إبطال الشفاعة، أو إلى إبطال العمل بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا إلى الردّ إلى مَن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أَو إلى المنع مِن الزكاة، أو مِن أداء حقّ مِن مسلم أو حقٍّ لله -تعالى- فهؤلاء لا يُعذَرون بالتأويل الفاسد؛ لأنها جهالةٌ تامةٌ.
وأمّا مَن دعا إلى تأويل لا يُحِلّ به سُنّة، لكن مِثل تأويل معاوية في أن يقتص مِن قَتَلَة عثمان قبل البيعة لعليّ، فهذا يُعذَر؛ لأنه ليس فيه إحالة شيء مِن الدِّين، وإنّما هو خطأ خاصٌّ في قصّة بعينها لا تتعدّى.
ومَن قام لعرض دنيا فقط؛ كما فَعَل يزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان في القيام على ابن الزبير، وكما فعَل مروان بن محمّد في القيام على يزيد بن الوليد، وكمن قام أيضاً على مروان، فهؤلاء لا يُعذَرون لأنهم لا تأويل لهم أصلاً وهو بغي مجرد.
وأما مَن دعا إلى أمر بمعروف أو نهي عن منكر وإظهار القرآن والسنن
والحُكم بالعدل؛ فليس باغياً بل الباغي مَن خالفَه وبالله -تعالى- التوفيق".
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(35/ 75):
"وكلُّ مَن كان باغياً، أو ظالماً، أو معتدياً، أو مرتكباً ما هو ذنب؛ فهو قسمان: متأوِّل، وغير متأول.
فالمتأوّل المجتهد؛ كأهلِ العِلم والدّين؛ الذين اجتهدوا، واعتقد بعضُهم حِلَّ أمور، واعتقَد الآخر تحريمَها، كما استحلّ بعضُهم بعضَ أنواعِ الأشربة، وبعضُهم بعضَ المعاملات الربوية، وبعضُهم بعضَ عقودِ التحليل والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثالُه مِن خِيار السلف، فهؤلاء المتأوِّلون المجتهدون غايتهم أنَّهم مخُطئون، وقد قال الله -تعالى-:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1)، وقد ثبت في "الصحيح" أن الله استجابَ هذا الدعاء.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً (35/ 76):
"أمّا إذا كان الباغي مجتهداً متأولاً، ولم يتبين له أنّه باغ، بل اعتقَد أنّه على الحقّ وإنْ كان مخطئاً في اعتقاده: لم تكن تسميته باغياً موجبةً لإثمه -فضلاً عن أن توجب فِسْقه- والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين؛ يقولون مع الأمر بقتالهم: قتالنا لهم لدفع ضررِ بغيهم؛ لا عقوبةً لهم؛ بل للمنع مِن العدوان. ويقولون: إنهم باقون على العدالة؛ لا يَفْسُقون، ويقولون: هم كغير المكلَّف، كما يُمنَع الصبي والمجنون والناسي والمغمى عليه والنائم من العدوان؛ أن لا يَصْدُر منهم، بل تمُنْع البهائم من العدوان.
(1) البقرة: 286.
ويجب على مَن قتل مؤمنا خطأً الدية بنصّ القرآن؛ مع أنّه لا إثم عليه في ذلك، وهكذا مَن رُفع إلى الإمام مِن أهل الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحدّ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والباغي المتأول يُجلَد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة".
وجاء في "مجموع الفتاوى"(28/ 545): "وقد اتفقَ علماءُ المسلمين؛ على أنّ الطائفةَ الممتنعةَ إذا امتنعَت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة؛ فإنه يَجِب قتالها؛ إذا تكلَّموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة والزكاة، أو صيامِ شهر رمضان أو حجّ البيت العتيق، أو عن الحُكم بينهم بالكتاب والسنّة، أو عن تحريم الفواحش، أو الخمرِ، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن استحلالِ النفوس والأموال بغير حقّ، أو الربا، أو الميمسر، أو الجهاد للكُفّار، أو عن ضربِهم الجزيةَ على أهل الكتاب، ونحو ذلك من شرائع الإسلام، فإنهم يُقاتَلون عليها حتى يكون الدينُ كلُّه لله.
ثمّ ذكر قول أبي بكر رضي الله عنه: "والله لو منعوني عَناقاً" ثمّ قوله صلى الله عليه وسلم: "يحقر أحدكم صلاته
…
" ثمّ قال: "وقد اتفق السلف والأئمة على قتال هؤلاء".
وفيه أيضاً (ص 556): "وسُئل الشيخ: عن قومٍ ذوي شوكة مقيمين بأرض، وهم لا يُصلُّون الصلوات المكتوبات، وليس عندهم مسجد، ولا أذان، ولا إقامة، وإنْ صلّى أحدهم صلّى الصلاة غير المشروعة. ولا يؤدّون الزكاة مع كثرةِ أموالهم مِن المواشي والزروع. وهم يَقْتَتِلون فيَقْتُل بعضُهم بعضاً، ويَنْهَبون مالَ بعضِهم بعضاً، ويَقْتُلون الأطفال، وقد لا يمتنعون عن سَفْك الدماء وأخْذِ الأموال، لا في شهر رمضان ولا في الأشهر الحُرُم ولا غيرِها، وإذا أَسَرَ بعضهم
بعضاً باعوا أسراهم للإفرنج. ويبيعون رقيقهم مِن الذكور والإناث للإفرنج عَلانية، ويسوقونهم كسوق الدوابّ. ويتزوجون المرأة في عِدَّتها. ولا يُوَرّثون النساء. ولا ينقادون لحاكِم المسلمين. وإذا دُعِي أحدهم إلى الشرع قال: أنا الشرع. إلى غير ذلك. فهل يجوز قتالهُم والحالة هذه؟ وكيف الطريق إلى دخولهم في الإسلام مع ما ذُكِر؟
فأجاب:
نعم يجوز؛ بل يَجب بإجماع المسلمين قتالُ هؤلاء وأمثالهِم؛ من كلّ طائفة ممتنعَةٍ عن شريعةِ مِن شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة؛ مِثْل الطائفة الممتنعة عن الصلوات الخمس، أو عن أداء الزكاة المفروضة إلى الأصناف الثمانية التي سماها الله تعالى في كتابه، أو عن صيام شهر رمضان، أو الذين لا يمتنعون عن سَفْك دماءِ المسلمين وأخْذ أموالهم، أو لا يتحاكمون بينهم بالشرع الذي بَعَث الله به رسولَه صلى الله عليه وسلم، كما قال أبو بكر الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم في مانعي الزكاة، وكما قاتل عليُّ بن أبي طالب وأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم الخوارج، الذين قال فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرَهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قَتَلَهم يوم القيامة". وذلك بقوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (1). وبقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
(1) الأنفال: 39.