الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد ذِكر الحديث المتعلِّق به: "وهذا الحديث عَلَمٌ مِن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد استمرّت الخلافة في قريش عدّة قرون، ثمّ دالت دولتهم، بعصيانهم لربهم، واتباعهم لأهوائهم، فسلّط الله عليهم مِن الأعاجم مَن أخذ الحُكم من أيديهم وذلَّ المسلمون مِن بعدهم، إلَاّ ما شاء الله، ولذلك فعلى المسلمين إذا كانوا صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية، أن يتوبوا إلى ربهم، ويرجعوا إلى دينهم، ويتّبعوا أحكام شريعتهم، ومِن ذلك أنّ الخلافة في قريش بالشروط المعروفة في كُتُب الحديث والفقه، ولا يحكِّموا آراءهم وأهواءهم، وما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم، وإلاّ فسيظلون محكومين مِن غيرهم، وصدَق الله إذ قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} والعاقبة للمتقين"(1).
7 - ترك التحايل
(2)
ويتفرّع من تزكية النفس والائتمار بأمر الله -تعالى- واجتناب نواهيه ترْك التحايل.
أقول: ودراسة الحديث المُشار إليه "إذا تبايَعْتُم بالعِيْنَة (3) وأخذتم أذناب
(1) انظر "الصحيحة" تحت الحديث (1552).
(2)
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(29/ 29): "ودلائل تحريم الحِيَل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة؛ ذكَرنا منها نحوا من ثلاثين دليلاً؛ فيما كتبناه في ذلك".
(3)
العِينة: هو أن يبيعَ رجل سلعة؛ بِثَمنٍ مَعْلوم إلى أجَلٍ مُسَمّىً، ثمّ يَشْتَرِيها منه بأقلَّ من الثَّمن الذي باعَها به، وسُمِّيت عِينَةً لحصُول النَّقْد لصاحب العِينَة لأنَّ العَيْن؛ هو المَال الحاضِرُ من النَّقْد، والمُشْتَرِي إنما يَشْتريها ليَبِيعَها بعَيْن حاضِرَة؛ تَصِل إليه مُعَجَّلَة. "النّهاية".
البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه عنكم؛ حتى ترجعوا إلى دينكم" (1)، مِن أهم النصوص في مبحثنا هذا؛ لاستجلاب النصر ورفع الذلّة والهوان، وكان شيخنا رحمه الله يُكثر مِن افتتاحه بهذا الحديث العظيم؛ ليبيّن كيف تسعد الأمّة في الدارين.
كيف تَنْتصر أمّة؛ وفيها مَن يتحايل في بيعها وشرائها؟!
كيف تَنتصر أمّة؛ وفيها مَن همُّه الاستكثار من المال، مِن غير مبالاةٍ أمِن حرامٍ هو أمْ مِنْ حلال؟!
لا بُدَّ مِن التجرُّد مِن أهواء النفوس وحظوظها.
لقد قال صلى الله عليه وسلم كلمة بيّنةً واضحة: "سلّط الله عليكم ذُلاً؛ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (2) ".
فمن قال: هذه فروع وقشور؛ فإنه مخُالِفٌ هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنّ الذّل لا يُنزع إلاّ بأمور؛ منها تَرْك التحايل.
وليس ببعيدٍ عنّا ما جرى لليهود مِن ضروبٍ مِن التحايل ورَد ذكرها في الكتاب والسُنّة؛ كانت سبباً في عذابهم وإذلالهم.
ومن ذلك قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
(1) أخرجه أحمد وأبو داود، وانظر تفصيل تخريجه في "الصحيحة"(11) وتقدّم.
(2)
وما هو الدين الذي نرجع إليه؟ إنه الكتاب والسنّة بمنهج الصحابة رضي الله عنهم وسلف الأمّة، وها نحن نزعم أننا متمسكون بالدين، فأين نحن مِن نزع الذلّة والهوان؟!.
قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وَلَقَدْ علمتم يا معشرَ اليهود، ما حَلّ مِن البأس بأهل القرية التي عصَت أمر الله وخالفوا عهدَه وميثاقه؛ فيما أخَذَه عليهم مِن تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعاً لهم، فتحيّلُوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت، بما وضعوه لها من الشصوص (2) والحبائل والبِرَك قبل يوم السبت، فلمّا جاءت يومَ السبت على عادتها في الكثرة؛ نَشِبَت بتلك الحبائل والحِيَل، فلم تخلُص منها يومها ذلك، فلمّا كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلمّا فعلوا ذلك؛ مسَخَهم الله إلى صورة القِرَدة، وهي أشبه شيء بالأناسيّ في الشكل الظاهر، وليست بإنسانٍ حقيقة.
فكذلك أعمالُ هؤلاء وحيَلُهم لمّا كانت مشابِهةً للحقّ في الظاهر ومخالِفةً له في الباطن، كان جزاؤهم مِن جنس عملهم.
وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف، حيث يقول -تعالى-:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (3)، القصة بكمالها".
وذكر أهل التفسير أقوالاً في المراد بقوله -سبحانه-: {لما بين يديها وما خلفها} .
وقد رجّح ابن كثير منها أنّ المراد مَنْ بِحَضْرَتِها من القرى التي يبلغهم
(1) البقرة: 65 - 66.
(2)
جمع الشِّص: وهو حديدة عقفاء، يُصاد بها السمك، "القاموس المحيط".
(3)
الأعراف: 163.