الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"وإنْ خرَج في جهاد تطوّعٍ بإذنهما، فمنَعاه منه بعد سَيْرِه وقبل وجوبه، فعليه الرجوع، لأنه معنى لو وجد في الابتداء مُنِع، فإذا وُجد في أثنائه منع؛ كسائر الموانع، إلَاّ أن يخاف على نفسه في الرجوع، أو يحدث له عذر؛ مِن مرض أو ذهاب نفقة أو نحوه، فإنْ أمكنه الإقامة في الطريق، وإلا مضى مع الجيش، فإذا حضَر الصفّ، تعيّن عليه بحضوره، ولم يَبْقَ لهما إذن. وإن كان رجوعهما عن الإذن بعد تعيُّن الجهاد عليه، لم يؤثّر رجوعهما شيئاً".
هل يُستأذَن الدائن
(1)
ومن كان عليه دين حالٌّ أو مُؤجَّل، لم يجُز له الخروج إلى الغزو إلَاّ بإذن غريمه، إلَاّ أن يَتْرُك وفاءً، أو يقيمَ به كفيلاً، أو يُوَثِّقَه برهن، وبهذا قال الشافعي.
ورخَّص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه؛ لأنه لا تتوجه المطالبة به، ولا حبْسه من أجله، فلم يُمنَع من الغزو، كما لو لم يكن عليه دين، ولنا أنّ الجهادَ تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس، فيفوت الحقُّ بفواتها.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يُغفر للشهيد كلُّ ذنبٍ إلاّ الدَّيْن"(2).
وعن أبي قتادة رضي الله عنه: "أنّ رسول الله قام فيهم، فذَكَر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إنْ قُتلتُ في سبيل الله تُكفّر عنِّي خطاياي؟ فقال له رسول الله: نعم، إن
(1) عن "المغني"(13/ 27) بتصرف يسير، وزيادة حديث ابن عمرو رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه مسلم: 1886.
قُتلتَ في سبيل الله، وأنت صابرٌ محُتسب، مُقبِل غيرُ مُدبر، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيتَ إنْ قُتلتُ في سبيل الله أتُكفّرُ عني خطاياي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم؛ وأنت صابرٌ محُتسب مُقبل غيرُ مدبر إلاّ الدَّيْن، فإنّ جبريلَ عليه السلام قال لي ذلك" (1).
وأمّا إذا تَعيَّن عليه الجهاد، فلا إذْن لغريمه، لأنّه تعلّق بعينِه، فكان مُقدَّماً على ما في ذمّته؛ كسائر فروض الأعيان، ولكن يُستحَبّ له أن لا يتعرض لمظانّ القتل؛ من المُبارزة، والوقوف في أول المقاتلة، لأن فيه تغريراً بتفويت الحق (2)، وإنْ ترَك وفاءً، أو أقام به كفيلاً، فله الغزو بغيرِ إذْن.
نصّ عليه أحمد، في مَن تَرك وفاءً، لأنّ عبد الله بن حرام أبا جابر بن عبد الله خرَج إلى أُحُد، وعليه دَينٌ كثير، فاستُشهِد، وقضاه عنه ابنه بعِلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يذمّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم يُنكر فِعْلَه، بل مَدَحه، وقال:"ما زالت الملائكة تُظِلّه بأجنحتها، حتى رفعتموه"(3).
وقال صلى الله عليه وسلم لجابر: "ألا أُخبرك ما قال الله عز وجل لأبيك، قلتُ: بلى، قال: ما كَلَّم الله أحداً إلاّ من وراء حجاب، وكلّم أباك كِفاحاً (4) "(5).
قلتُ: أراد المصنف رحمه الله أن يجمع بين تلبية واجب الجهاد وأداء
(1) أخرجه مسلم: 1885.
(2)
انظر تعليقي في المتن، بعد قليل إن شاء الله -تعالى-.
(3)
أخرجه البخاري: 1244، ومسلم:2471.
(4)
كفاحاً: أي مواجهة، ليس بينهما حجابٌ ولا رسول. "النّهاية".
(5)
أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(2258) وغيره.
الحقوق. ولكن: لا بُدّ من تفصيلٍ فيما يتعلق بالتّعرض للمبارزة والوقوف في أول المقاتلة.
فإنْ كان أُوتي من الشجاعة والإقدام، ما يُمكنه أن يُحقّق نصراً أو يكون سبباً في استجلاب نفعٍ عامّ أو مصلحة راجحة؛ فلا حرج من مبادرته بذلك.
فأمّا الدين، فلا يضرُّه عدم أدائه؛ إذا كان قد بذَل الأسباب المطلوبة منه، ولا يخفى دور الإمام في سدِّ هذا الأمر، والله -تعالى- أعلم.
قلت: ثمّ اطلعت على ما جاء في "الإنجاد"(1/ 57) وفيه: "وأمّا المِدْيان (1) فاختلفوا فيه، فرُوي عن الأوزاعي أنّه أرخص في خروجه إلى الجهاد مِن غير إذْنِ صاحب الحقِّ، ورُوي عن الشافعي أنه ليس له أن يغزو بحالٍ؛ إلَاّ بإذْن أهل الدَّيْن، وسواءٌ كان الدَّين لمسلمٍ أو كافر، وفرَّق مالكٌ بين أن يجد قضاءً أو لا يجد، واختلفت مع ذلك فيه الروايات عنه
…
... وقد جاء في أمر الدَّين تشديدٌ كثير غير هذا؛ فأقول [الكلام لصاحب "الإنجاد"]: إنّ تعلّق المأثم بالدَّين، إنما يكون حيث التقصيرُ المُتْلِفُ لذلك الحقِّ، إمّا بالمَطْلِ أو الجحود، أو تَرْكِ أنْ يوصيَ به، وإمّا أنْ يَدَّانَ في غير الواجب، وهو ممَّن لا يقدر على الأداء، وما أشبه ذلك.
وللمِدْيان عند إرادة الغزو حالان: مَلَاءٌ أو عَدَمٌ.
فأمّا المليء، فإنْ كان حَلَّ دينُه، فالظاهر أنّه لا يجوز أنْ يغزوَ بغير إذْنِ صاحب الحقِّ، فإنْ كان دينه لم يحلَّ بعدُ، فهذا له أن يغزو، وعليه أن يوكِّل مَن
(1) المِدْيان: هو الذي يُقرض كثيراً ويستَقْرِض كثيراً. انظر "المحيط".
يقضيه عنه عند حلوله، والدليل على ذلك أنَّ مَن كان مليئاً، وقد حلَّ الحقُّ عليه، فهو مأمورٌ كلَّ وقتٍ بالقضاء، ففِعْلُه ما يحول بينه وبين ذلك؛ مِن غير إذن صاحب الحق لا يحلُّ له.
خرَّج مسلم (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَطْلُ (2) الغني ظُلْم، وإذا أُتبع أحدكم على مليءٍ فَلْيتْبَعْ"(3).
وأمّا إذا لم يَحُلْ، فلا حَقَّ عليه الآن في الأداء، فلا يتَّصف بالمطلِ، فليس عليه أنْ يستأذنه، لكن عليه باتفاقٍ أن يوصيَ به، ويُوكِّل على قضائه، فإذا فعَل ذلك فقد أدَّى ما لزِمه ساعتئذِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"وإذا أُتبع أحدكم على مليءٍ فَلْيتْبَعْ".
وأمَّا إنْ كان عديماً لا يَجِدُ قضاءً، ولا يرجو كَسْباً، فهذا روي عن مالك أنه سُئِل عنه فلم يرَ بجهاده بأساً، يعني: وإن لم يستأذِن غريمه، وهذا ظاهر؛ لأنه لا منفعة له في منْعِه، وليس ممّن عليه حَبْسٌ ولا سلطان، بل هو مخلَّى بإنظار الله عز وجل إياه، فلا يَجِب له عليه شيءٌ، ما دام على حالته تلك. قال بعض المتأخرين: ولعله يُرزق في الغزو ما يؤدي به دَينه، ففي الغزو خيرٌ لهما.
وقد رُوي -أيضاً- عن مالك ما ظاهِرُه، أنه يَجِب الاستئذانُ على مَن لم يجد وفاءَ من دَيْنِهِ، ولا استئذان على من ترَك وفاءً".
(1) برقم (1564)، وانظر "صحيح البخاري" 2287، 2288، 2400.
(2)
هو مَنْع قضاء ما استُحِق أداؤُه.
(3)
معناه: إذا أُحيل بالدَّين الذي له على موسر، فليَقْبَل الحوالة.