الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوقنون بالمعَاد، ولا يؤمنون بالبعث بعد الممات، بل عليه بالثبات على الحقّ، وعدم العدول عنه.
فذِكر ذلك الخارجي الآية: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} هو حُكمٌ على عليّ رضي الله عنه بأنه مُبطل، كما هو شأن الكفّار في اتهام النبيّ صلى الله عليه وسلم ولمّا أمَرَ الله -تعالى- نبيه بالصبر وأنّ وعده -سبحانه- حقّ، فإنّ علياً أراد أن يقول لهذا الخارجي: إنّ الله -تعالى- يأمرني أن أصبر على مخالفتك وعنادك وأذاك، وهو ناصري ومُعيني، وهو -سبحانه- يأمرني بالصبر والثبات؛ على ما أنا عليه مِن الحقّ، وعدم العدول عنه.
السمع والطاعة للإمام ما لم يَأْمُر بمعصية وما جاء في عدم منازعة الأمر أهله
جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله: "قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس:{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني: أهلَ الفقه والدين، وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية:{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني: العلماء.
والظاهر -والله أعلم- أنّ الآية عامّة في جميع أولي الأمر مِن الأمراء والعلماء، -كما تقدّم-، وقد قال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ
(1) النساء: 59.
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (1)، وقال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2).
وفي الحديث الصحيح المتفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن عصاني فقد عصى الله، ومَن أطاع أميري فقد أطاعني، ومَن عصى أميري فقد عصاني"(3).
فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال -تعالى-:{أطِيعُوا الله} أي: اتبعوا كتابه {وَأَطِيعُوا اَلرسولَ} أي: خذوا بسنَّته {وأولي الأمر منكم} أي: فيما أمروكم به من طاعة الله، لا في معصية الله؛ فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما تقدم في الحديث الصحيح:"إنما الطاعة في المعروف"(4).
وعن عمرانَ بن حصين، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا طاعة في معصية الله"(5).
وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال مجاهد وغيرُ واحدٍ مِن السلف: أي: إلى كتاب الله وسُنّة رسوله.
وهذا أمْرٌ من الله عز وجل، بأنّ كلَّ شيء تنازَع الناس فيه من أصول الدين وفروعه، أن يُرَدّ التنازع في ذلك إلى الكتاب والسُّنّة، كما قال تعالى: {وَمَا
(1) المائدة: 63.
(2)
النحل: 43.
(3)
أخرجه البخاري: 7137، ومسلم:1835.
(4)
أخرجه البخاري: 4340، 7145، ومسلم:1840.
(5)
أخرجه أحمد والطيالسي، والطبراني في "الكبير" وصححه شيخنا رحمه الله في "الصحيحة"(180).
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) فما حَكَم به كتابُ الله وسُنّةُ رسولِه وشهدا له بالصّحّة فهو الحق، وماذا بعد الحقّ إلَاّ الضلال.
ولهذا قال -تعالى-: {إن كنتم تُؤمِنُونَ بِاَللهِ وَاَليومِ الآخِرِ} أي: رُدّوُا الخصومات والجهالاتِ إلى كتاب الله وسُنّة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجَر بينكم {إن كنتم تُؤمِنُونَ بِاَللهِ وَاَليومِ الآخِرِ} .
فدلَّ على أنَّ مَن لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتابِ والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك؛ فليس مُؤمِناً بالله ولا باليوم الآخر.
وقوله: {ذلك خيرٌ} أي: التحاكُم إلى كتاب الله وسُنة رسوله. والرجوع في فصل النزاع إليهما خير {وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً} أي: وأحسنُ عاقبةً ومآلاً؛ كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاءً. وهو قريب".
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: "السمع والطاعة حقّ؛ ما لم يُؤمَر بمعصية، فإذا أُمِرَ بمعصية، فلا سمْعَ ولا طاعة"(2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: من رأى مِن أميره شيئاً يكرهه؛ فليصبِر عليه؛ فإنه مَن فارق الجماعة شبراً فمات؛ إلاّ مات ميتة جاهلية" (3).
وعن جُنادةَ بن أَبي أميّة قال: "دخَلْنا على عُبادة بنِ الصامت وهو مريض، قُلنا أصلحَك الله، حدِّث بحديثٍ ينفعك الله به، سمعْتَه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: دعانا
(1) الشورى: 10.
(2)
أخرجه البخاري: 2955، ومسلم:1839.
(3)
أخرجه البخاري: 7054، ومسلم:1849.
النبيّ صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذَ علينا؛ أن بايَعَنا على السمع والطاعة، في مَنْشَطنا (1) ومَكْرَهنا (2) وعُسرنا ويُسرنا، وأثَرَةٍ (3) علينا، وأن لا نُنازع الأمرَ أهلَه (4) إلَاّ أن تروا كُفراً بَواحاً (5)؛ عندكم من الله فيه بُرهان (6) " (7).
وعن عبد الرحمن بن عبد ربِّ الكعبة، قال: "دخلتُ المسجد، فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالسٌ في ظِلِّ الكعبة، والناس مجتمِعون عليه، فأتيتُهم
(1) مَنشطنا: أي في حالة نشاطنا.
(2)
مَكرهنا: في الحالة التي نكون فيها عاجزين عن العمل بما نُؤمَر به.
(3)
الأثَرَة -بفتح الهمزة والثاء-: الاسمُ من آثَر يُؤثرُ إيثَاراً: إذا أعْطى، أراد أنَّه يُستأثر عليكم، فيُفضَّل غيرُكم في نَصيبه مِنَ الفَيْء. والاسْتِئْثَار: الانْفِرَادُ بالشيء. "النّهاية". وقال الحافظ رحمه الله: "والمُراد أنّ طواعيتهم لمن يتولّى عليهم؛ لا تتوقف على إيصالهم حقوقَهم بل عليهم الطاعة ولو منعهم حقّهم".
(4)
وأن لا ننازع الأمر أهله: أي الملك والحكم.
(5)
بَواحاً: ظاهراً بيّناً.
(6)
عندكم من الله فيه برهان: [قال الحافظ رحمه الله في "الفتح" (13/ 8): "أي: نصُّ آيةٍ أو خبرٌ صحيح لا يَحْتَمل التأويل، ومُقتضاه أنّه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فِعْلهم يَحتمل التأويل، قال النّووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: "لا تُنازِعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تَعترِضوا عليهم إلاّ أن تروا منهم مُنكَراً محُقَّقاً تعلمونه مِن قواعد الإسلام؛ فإذا رأيتم ذلك فأنكِروا عليهم وقولوا بالحقّ حيثما كنتم انتهى. وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يُعتَرض على السلطان إلَاّ إذا وَقَع في الكفر الظاهر، والذي يظهر حَمْلُ روايةِ الكُفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية؛ فلا ينازِعه بما يقدَح في الولاية إلَاّ إذا ارتكَب الكُفر، وحَمْل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يُقدَح في الولاية؛ نازَعه في المعصية بأن يُنكِر عليه برفقٍ ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عُنف، ومحلّ ذلك إذا كان قادراً، والله أعلم".]
(7)
أخرجه البخاري: 7056، ومسلم:1709.
فجلسْتُ إليه، فقال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفَر فنزلنا منزلاً، فمنّا من يُصلح خِباءَه ومنا من يَنتضِلُ (1) ومنّا من هو في جَشَرِه (2) إذ نادى منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: الصلاةَ جامعةً، فاجتمعْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبيٌّ قبلي، إلَاّ كان حقّاً عليه أن يدُلّ أمّته على خيرِ ما يعلمُه لهم، ويُنذرَهم شرَّ ما يعلمه لهم، وإنَّ أمّتكم هذه جُعِل عافيتُها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيء فتنة، فيُرقِّق (3) بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مُهلِكتي، ثمّ تنكشف وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحَبَّ أن يُزَحزَحَ عن النار وَيُدْخَل الجنة؛ فلتأته منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يُحبّ أن يُؤتَى إليه (4)، ومن بايع إماماً فأعطاه صفْقَة يدِه وثمرةَ قلبه (5) فليطعه إن استطاع، فإنْ جاء آخرُ ينازعه؛ فاضربوا عُنُق الآخر.
فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله آنت سمعْتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1) ينتضِل: هو من المناضلة، وهي المراماة بالنُّشَّاب. "شرح النّووي".
(2)
جَشَره- بفتح الجيم والشين-: وهي الدوابُّ التي تَرعى وتَبيت مكانها.
(3)
يُرقق -بضم الياء وفتحِ الراء-: قال النّووي رحمه الله (12/ 233): "أي: يصير بعضها رقيقاً، أي: خفيفا لعِظَم ما بعده، فالثاني يجعل الأول رقيقا، وقيل: معناه يشبه بعضها بعضا، وقيل: يدور بعضُها في بعض، ويذهب ويجيء، وقيل: معناه يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويئها". انتهى.
قلت: والأوّل أرجح، والله -تعالى- أعلم.
(4)
وليأت إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتى إليه: قال النّووي رحمه الله: "هذا من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم، وبديع حكمه، وهذه قاعدة مهمّة فينبغي الاعتناء بها، وأن الإنسان يلزم ألا يفعل مع الناس، إلَاّ ما يُحبّ أن يفعلوه معه".
(5)
صفقة يده، وثمرة قلبه: أي خالص عهده. "النّهاية".
فأهوى إلى أذنيه وقلبِه بيديه وقال: سَمِعَتْه أذناي ووعَاه قلبي.
فقلت له: هذا ابن عَمِّك معاوية يأمُرنا أن نأكلَ أموالَنا بيننا بالباطل، ونقتُلَ أنفسنا، والله يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (1) إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} قال: فسكَت ساعة ثمّ قال: أطِعه في طاعة الله (2)، واعصه في معصية الله" (3).
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خِيارُ أئمّتكم الذين تحبّونهم ويُحبّونكم، ويُصلّون عليكم (4)، وتصلّون عليهم، وشرار أئمّتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله أفلا ننابذُهُم بالسيف؟ فقال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة (5)، وإذا رأيتم مِن ولاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا عَمَله، ولا تنزِعوا يَداً مِن طاعة"(6).
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى"(28/ 170):
(1) المقصود بهذا الكلام: أنّ هذا القائل لمّا سمِع كلام عبدِ الله بن عمرو بن العاص، وذكر الحديث في تحريم منازعة الخليفة الأول، وأن الثاني يقتل، فاعتقد هذا القائل هذا الوصف في معاوية؛ لمنازعته عليّاً رضي الله عنه، وكانت قد سَبَقت بيعةُ عليّ، فرأى هذا أنّ نفقة معاوية على أجناده وأتباعه في حرب عليِّ ومنازعته ومقاتلته إياه، مِن أكْل المالِ بالباطل، ومِنْ قَتْلِ النفس؛ لأنه قتالٌ بغيرِ حقّ، فلا يستحقّ أحدٌ مالاً في مقاتلته".
(2)
قال الإمام النّووي رحمه الله: "هذا فيه دليلٌ لوجوب طاعة المتولّين للإمامة بالقهر، مِن غير إجماع ولا عهد".
(3)
أخرجه مسلم: 1844.
(4)
يُصلّون عليكم: أي يَدْعون لكم.
(5)
قال النّووي رحمه الله (12/ 243): "فيه معنى ما سَبَق أنّه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق، ما لم يُغيِّروا شيئاً مِن قواعد الإسلام".
(6)
أخرجه مسلم: 1855.