الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو بكر بن المنذر: "وأجمعوا على أنّ للمرء أن يُبارِزَ ويدعو إلى البِراز بإذن الإمام، وانفرَد الحسَن؛ فكان يكرهه ولا يعرف البِراز"(1).
ما يجوز للرجل مِنَ الحَمْل وحده على جيش العدوِّ وتأويل قول الله -تعالى-: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
(2):
عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: "غَزَوْنَا مِنْ المدِينَةِ نُرِيدُ الْقُسْطَنْطِينيَّةَ وَعَلَى الجماعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَليدِ، وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ المدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهْ مَهْ (3) لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ! يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَالَ أبو أيُّوبَ: إِتَما أنزلَتْ هَذ الآيةُ فِينَا مَعْشَرَ الأنصَارِ، لَمَّا نَصَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (4).
فَالْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إِلَى التَهْلُكَةِ: أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَع الجهَادَ.
ْقَالَ أبو عِمْرَانَ: فَلَمْ يَزَلْ أبو أيُّوبَ يجاهِدُ فِي سَبِيلِ الله حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينيَّةِ" (5).
وقد اختُلف في تأويل الآية، ذَكَر إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" عن
(1) انظر كتاب "الإجماع"(ص 59)(رقم 229)، وذكَرَه صاحب الإنجاد (1/ 197).
(2)
انظر "الإنجاد"(ص 188).
(3)
اسم فِغل أمر مبنيّ على السكون بمعنى اكفُف.
(4)
البقرة: 195.
(5)
أخرجه أبو داود (2512) والنسائي في "الكبرى" وابن حبان وغيرهم، وانظر "الصحيحة"(13).
حفص، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء: قال: قلت: أرأيت قول الله عز وجل: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، أهو الرجل يَحْمِل على الكتيبة فيها ألْفٌ، قال: لا، ولكن الرجل يُذنب، فيلقي بيده ويقول: لا توبة (1).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَجِب ربُّنا عز وجل مِن رجلٍ غزا في سبيل الله، فانهزم -يعني: أصحابه- فَعَلِمَ ما عليه، فرجَع حتى أُهريق دمُه، فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي رجَع رَغْبَةً فيما عندي، وشفقةً ممّا عندي، حتى أُهريق دَمُه"(2).
[قلت: وفي الباب، حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يُحبُّهم الله ويَضْحَك إليهم، ويستَبْشِر بهم: الذي إذا انكشَفَت فِئَة؛ قاتل وراءَها بنفسه لله عز وجل فإمَّا أن يُقتَل، وإمَّا أنْ ينصرَه الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا؛ كيف صبَر لي بنفسه"](3).
واختَلَف أهل العلم في حَمْل الرجل وحدَه على الجيش؛ والعدد الكثير مِن
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" وكذا ابن جرير وغيرهما وانظر ما قاله محققا كتاب "الإنجاد"(ص 191)، قلت؛ وأخرج الحاكم نحوه في "المستدرك" ولفظه:"قال له [أي للبراء رضي الله عنه] يا أبا عمارة {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، الرجل يلقى العدوَّ، فيقاتل حتى يُقتَل؟ قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب، فيقول: لا يغفره الله لي"، وصحَّحه لغيره شيخنا رحمه الله في "صحيح الترغيب والترهيب"(1624).
(2)
أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(2211)، ورواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان في "صحيحه"، وحسَّنه لغيره شيخنا رحمه الله في "صحيح الترغيب والترهيب"(1384).
(3)
أخرجَه الطبراني، وحسَّنه لغيره شيخنا رحمه الله في "صحيح الترغيب والترهيب"(1384).
العدوِّ؛ فأقول [الكلام لمُصنِّف الإنجاد]: أحوال الذي يَحْمِل وحده ثلاث:
حال اضطرار، وذلك حيث يحيط به العدوّ، فهو يخاف تَغَلُّبَهم عليه وأسْرَهُم إياه، فذلك جائزٌ أن يَحْمِل عليهم باتفاق.
وحالٌ يكون فيها في صفِّ المسلمين وَمَنَعتِهم، فيَحْمِل إرادةَ السُّمعة والاتصافَ بالشجاعة، فهذا حرام باتفاق.
وحالٌ يكون كذلك مع المسلمين، فيحمل غَضَباً لله، محُتَسِباً نفسه عند الله، ففي هذا اختلف أهل العلم، فمنهم مَن كَرِهَ حَمْلَه وحده، ورآه مما نهى الله عنه مِن الإلقاء باليد إلى التهلكة، ومنهم مَن أجاز ذلك واسْتَحْسَنه؛ إذا كانت به قُوّة، وفي فِعله ذلك منفعةٌ، إمَّا لنكاية العدوِّ أو تَجرئةِ المسلمين -حتى يفعلوا مِثل ما فَعَل- أو إرهابِ العدوِّ؛ ليعلموا صلابة المسلمين في الدين (1).
(1) وجاء في التعليق في الكتاب المذكور: تكاد تُجمِع كلمة الفقهاء على جواز ذلك، بل حكى ابن أبي زمنين في "قدوة الغازي"(ص 198) الإجماع عليه، ونصُّ عبارتِه:"قال ابن حبيب: ولا بأس أن يَحْملَ الرجل وحده على الكتيبة، وعلى الجيش؛ إذا كان ذلك منه لله، وكانت فيه شجاعةٌ وجَلَدٌ وقوةٌ على ذلك، وذلك حَسَنٌ جميل لم يكرهه أحدٌ من أهل العلم، وليس ذلك مِن التهلكة، وإذا كان ذلك منه للفخر والذِّكر فلا يفعل -وإنْ كانت به عليه قوة- وإذا لم يكن به عليه قوة فلا يفعل وإنْ أراد به الله؛ لأنه حيئذٍ يُلقي بيده إلى التهلكة"
…
وجاء في "البيان والتحصيل"(2/ 564) ما يلي: "قال أشهب: وسُئل مالك عن رجل من المسلمين يحمل على الجيش من العدوّ وحدَه، قال: قال الله -تعالى-: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} فجعَل كلَّ رجلٍ برجلين؛ بعد أنْ كان كلّ رجُلٍ بعشرة، فأخافُ هذا يلقي بيده إلى التهلكة، وليس ذلك بسواء أنْ يكون الرجل في الجيش الكثيف =
............................
= فيحمل وحده على الجيش، وأنْ يكون الرجل قد خلفه أصحابُه بأرض الروم، أحاطوه فتركوه بين ظهرانَيِ الروم، فهو يخاف الأسر فيستقتل فيحمل عليهم، فهذا عندي خفيف، والأول عندي في كثفٍ وقُوَّة، وليس إلى ذلك بمضطر، يختلف أن يكون الرجل يحمل احتساباً بنفسه على الله، كما قال عمر بن الخطاب: الشهيد من احتسَب نفسَه على الله، أو يكون يريد بذلك السمعة والشجاعة.
قال محمد بن رشد: أمّا إذا فعَل ذلك إرادةَ السمعة والشجاعة، فلا إشكال ولا اختلافَ في أنّ ذلك من الفعل المكروه، وأمّا إنِ اضطرَّ إلى ذلك بإحاطة العدوِّ به، فَفَعلَهُ مخافة الأسر؛ فلا اختلاف في أنّ ذلك من الفعل الجائز، إنْ شاء أن يستأسر، وإنْ شاء أن يحمل على العدوِّ، ويحتسب نفسه على الله، وأمّا إذا كان في صفِّ المسلمين، وأراد أن يُحمل على الجيش من العدوِّ وحده؛ مُحْتسِباً بنفسه على الله ليُقوِّي بذلك نفوس المسلمين، ويُلقي الرعب في قلوب المشركين، فمِن أهل العلم مَن كَرهه ورآه مما نهى الله عنه مِن الإلقاء إلى التهلكة؛ لقوله- عز وجل:{وَلَا تُلْقُوا بِأيدِيكم إلى التهلُكَةِ} ، وممَن رَوَىَ ذلك عمرو بن العاص، ومنهم من أجازه واستحبَّه لمن كانت به قوة عليه، وهو الصحيح"
…
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "قاعدة في الانغماس في العدوِّ، وهل يباح
…
" (ص 24): "والرجل يَنْهزِم أصحابُه، فيقاتِل وحده، أو هو وطائفة معه العدوَّ، وفي ذلك نكاية في العدوِّ، ولكن يظنُّون أنهم يُقْتلون، فهذا كلّه جائز عند عامّة علماء الإسلام؛ مِن أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وليس في ذلك إلَاّ خلاف شاذّ.
وأمّا الأئمّة المتبوعون كالشافعي وأحمد وغيرِهما؛ فقد نصّوا على جواز ذلك، وكذلك هو مذهب أيى حنيفة ومالك وغيرهما"، ودلَّل عليه بتطويلٍ من الكتاب والسنة وإجماع السلف، ونحوه في "مجموع الفتاوى" (28/ 540) له.
وقال الشافعي رحمه الله في "الأم"(4/ 92): "لا أرى ضيقاً على الرجل أن يُحْمل على الجماعة حاسراً، أو يبادر الرجل، وإنْ كان الأغلب أنّه مقتول؛ لأنه قد بودر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحَمَل رجلٌ من الأنصار حاسراً على جماعة من المشركين يوم بدر، بعد =
وبالجملة، فكل مَن بَذَلَ نفسه لإعزاز الدِّين، وتوهينِ أهْلِ الكفر؛ فهو المقام الشريف الذي تَتَوجّه إليه مُدْحَةُ الله -تعالى-، وكريمُ وعْدِه في قوله -سبحانه-:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (1)، وقال -تعالى-:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (2).
قلت: والراجح: جوازُ حَمْلِ الرجل وحده على جيش العدوِّ حال الاضطرار، إذا أحاط به العدوُّ، لخوفه تغلُّبَهم عليه وأسْرَهم إيّاه. ويجوز في حالٍ يكون في صفِّ المسلمين ويجد في نفسه القوة فيحمل غضباً لله، محتسباً نفسه لله، يفعله لنكاية العدوِّ أو إرهابه، أو ليُجرِّئَ المسلمين، ويفعلوا مِثْل ما فَعَل، إذا ترجَّح لديه الظنُّ أنّ في هذا منفعةَ المسلمين. ولا يجوز هذا الحمل إرادة السمعة
= إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بما في ذلك من الخير فقُتِل". وانظر: "الأوسط" (11/ 306 - 307). وكلام الإمام أحمد في "مسائل صالح" (2/ 469) قال: "قلت: الأسير يَجِدُ السيف أو السلاح فيحمل عليهم؛ وهو لا يعلم أنّه لا ينجو، أعان على نفسه؟ قال: أما سمعْتَ قولَ عمر حين سأله الرجل فقال: إنّ أبي أو خالي ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال عمر: "ذلك اشترى الآخرة بالدنيا".
وقال أبو داود في "مسائله"(247): "سمعت أحمدَ بنَ حنبل يقول: إذا عَلِم أنهُ يؤسَر فليقاتل حتى يُقْتل أحب إليَّ". وقال: "لا يستأسر، الأسر شديد". وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل سُئل عن الأسير إذا أُسر؛ له أن يقاتلهم؟ قال: "إذا علم أنّه يقوى بهم".
(1)
التوبة: 111.
(2)
البقرة: 207.