الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسباب النصر والتمكين
(1)
1 - التوحيد
قال -تعالى-: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} (2).
ولا يُلقى الرعب في قلوب الكُفّار؛ إلَاّ إذا كان المسلمون موحِّدين حقّاً، ألا ترى ما كان مِن شأن الأعداء زمن الصحابة رضي الله عنهم فإنّه لم يكن لهم عليهِم مِن سبيل، ولكننا نراهم الآن قد تسلّطوا على المسلمين! فلا بُدّ من التوحيد، فإنّه حقّ الله على عباده، وهو سعادة الدارين.
وكيف ينصُر الله -تعالى- أُناساً يُؤلهّون الملائكة والأنبياء والأولياء؟!
كيف ينصُر الله أناساً اعتقدوا أنّ الله تفرّد بالخلق، ولم يتفرّد بالاستجابة؛ إلاّ بواسطة مخلوقاته؛ مِن أحياء وأموات، يرفعون له الدعاء والاستغاثة والتوسل؟!
(1) وسأذكر هذه الأسباب بإجمال، غير سالك الاستقصاء -وإن كنت أتمنّاه- بما يتفق مع المنهج الفقهي للكتاب، وهناك نقاط متفرّعة من أسباب رئيسة، قد أفردتها وأبرزتُها للأهمية.
(2)
آل عمران: 151.
(3)
النور: 55.
قال ابن كثير رحمه الله -بحذف-: "هذا وَعْدٌ مِن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ بأنه سيجْعَل أمّته خلفاء الأرض، أي: أئمّة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلُح البلاد، وتخضع لهم العباد، ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من الناس أمناً وحُكماً فيهم، وقد فعَل تبارك -وتعالى- ذلك، وله الحمد والمِنّة، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى فتَح الله عليه مكّة وخيبر والبحرين، وسائرَ جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالها، وأخَذ الجزية مِن مجوس هَجَر، ومِن بعض أطراف الشام، وهاداه هِرَقْل مَلِك الروم وصاحب مصر والاسكندرية -وهو المقوقس- وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة رحمه الله وأكرمه-.
ثمّ لمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده مِن الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلمَّ شَعْث ما وَهَى عند موته عليه الصلاة والسلام وأطَّدَ جزيرة العرب ومهَّدها، وبعَث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد رضي الله عنه، ففتحوا طَرَفاً منها، وقتلوا خلقاً مِن أهلها، وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه، ومَن معه مِن الأمراء إلى أرض الشام، وثالثاً صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر، ففتَح الله للجيش الشاميّ في أيامه بُصرى ودمشق ومَخَاليفهما من بلاد حوران، وما والاها، وتوفاه الله عز وجل، واختار له ما عنده مِن الكرامة.
ومَنّ على الإسلام وأهله؛ بأن أَلهْمَ الصِّديق أن استخلَف عمرَ الفاروق، فقام في الأمر بعده قياماً تامّاً، لم يَدُر الفَلَك بعد الأنبياء عليهم السلام على مثله، في قوة سيرته وكمال عَدْله، وتمّ في أيامه فتْح البلاد الشاميّة بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكَسَّر كسرى وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقَصَّر قيصر، وانتزع يدَه عن بلاد الشام فانحاز إلى القُسطنطينة،
وأنفَق أموالَهما في سبيل الله، كما أخبَر بذلك ووعَد به رسول الله -عليه مِن ربّه أتمّ سلام وأزكى صلاة-.
ثمّ لمّا كانت الدولة العثمانية (1)، امتدَّت المماليك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففُتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك: الأندلس، وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سَبْتَةَ؛ مما يلي البحر المحيط، ومِن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقُتِل كسرى، وباد مُلْكُه بالكُلّية، وفُتحت مدائن العراق، وخُراسان، والأهواز، وقَتَل المسلمون مِن الترك مقتلةً عظيمةً جداً، وخذَل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمْعِه الأمّة على حِفظ القرآن.
ولهذا ثبَت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إن الله زَوَى (2) لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغُ ملك أمّتي ما زُوي لي منها"(3).
فها نحن نتقلب فيما وعَدَنا الله ورسوله، وصدَق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به، وبرسوله، والقيام بشُكره على الوجه الذي يُرضيه عنّا.
قال الإمام مسلم بن الحجاج في "صحيحه": حدَّثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سَمُرَة قال: "سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يزال أمْرُ الناس ماضياً ما وَلِيَهم اثنا عشر رجلاً ثمّ تكلَّم النبيّ صلى الله عليه وسلم بكلمة
(1) أي في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(2)
أي: جمع وضمّ.
(3)
أخرجه مسلم: 2889.
خَفِيت عني فسألْتُ أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كُلُّهم مِن قريش" (1).
ورواه البخاري من حديث شعبة، عن عبد الملك بن عمير، به (2).
وهذا الحديث فيه دِلالة على أنّه لا بُدّ من وجود اثني عشَر خليفةً عادلاً وليسوا هم بأئمّة الشيعة الاثني عشَر؛ فإنَّ كثيراً مِن أولئك لم يكن إليهم مِن الأمر شيء، فأمّا هؤلاء؛ فإنهم يكونون مِن قريش، يَلُون فيَعْدِلون، وقد وقَعَت البِشارة بهم في الكتب المتقدمة.
ثمّ لا يُشتَرط أن يكونوا متتابعين، بل يكون وجودهم في الأمّة متتابعاً ومتفرّقاً، وقد وُجِد منهم أربعة على الولاء، وهم: أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليّ رضي الله عنهم، ثمّ كانت بعدهم فترة، ثمّ وُجِد منهم ما شاء الله، ثمّ قد يُوجَد منهم مَن بقي في وقتٍ يعلمه الله، ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُنيته كنيتَه، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلئت جوراً وظلماً.
[وعن] سعيد بن جُمْهان، عن سَفِينة -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثمّ يكون مُلكاً (3) "(4).
(1) أخرجه مسلم: 1821.
(2)
أخرجه البخاري: 7222، 7223.
(3)
في الأصل كلمة (عَضوضاً) وقد حذفتها لعدم ورودِها في المصادر، وقد وردت هذه الكلمة في بعض الأحاديث الأخرى على اختلاف بين العلماء على ثبوتها، وثبت معناها في "الصحيحة" رقم (5).
(4)
أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبّان في "صحيحه" وغيرهم، وصححه شيخنا رحمه الله في "الصحيحة"(459).
وقوله -تعالى-: {كما استخلف الذين من قبلهم} كما قال -تعالى- عن موسى عليه السلام، أنّه قال لقومه:{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (1)، وقال -تعالى-:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (2).
ثمّ ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله بعضاً مِن حديث عديِّ بن حاتم، وأرى مِن الفائدة أن أسوقه بتمامه:
قال رضي الله عنه: "بَينا أنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجُلٌ فشكا إليه الفاقَةَ، ثمّ أتاه آخر فشكا إليه قَطْع السبيل، فقال: يا عديّ هل رأيت الحِيْرَة؟ قلت: لم أرها وقد أُنبِئتُ عنها.
قال: فإنْ طالت بك حياة لتَرَّين الظّعينة (4) ترتحل من الحِيرَة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحداً إلَاّ الله -قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعّار (5) طَيئ الذين قد سَعّروا البلاد؟ - ولئنْ طالت بك حياة لتُفتَحنّ كنوزُ كسرى، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئنْ طالت بك حياة لتَرّين الرجل
(1) الأعراف: 129.
(2)
القصص: 5 - 6.
(3)
النور: 55.
(4)
المرأة في الهودج.
(5)
وهو الشاطر الخبيث المُفسد. "الفتح".
يُخرج ملءَ كفّه مِن ذهبٍ أو فِضة؟ يطلُب مَن يقبلُه منه فلا يجد أحداً يَقْبَلُه منه.
ولَيلقَينّ الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه تُرجمانٌ يُترجم له، فيقولَنّ له ألم أبْعَث إليك رسولاً فيُبلّغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أُعطك مالاً وأُفْضل عليك؟ فيقولُ بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلاّ جهنّم وَينظر عن يساره فلا يرى إلَاّ جهنّم.
قال عديّ: سمعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: اتقوا النّار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد شِقّ تمرة، فبكلمة طيّبة.
قال عديّ: فرأيت الظعينة ترتحل مِن الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلَاّ اللهَ، وكنتُ فيمن افتتَح كنوز كسرى بن هرمز، ولئنْ طالت بكم حياة لترونّ ما قال النبيّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يُخرج مِلءَ كفّه" (1).
ثمّ ساق الحافظ ابن كثير بإسناد الإمام أحمد -رحمهما الله- إلى أُبيّ بن كعبٍ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "بَشّر هذه الأُمّة بالسَّناء والرفعة، والدين والنّصر والتمكين في الأرض، فمَن عَمِل منهم عَمَل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب"(2).
ثمّ قال رحمه الله: وقوله: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} .
ثمّ ذكَر حديث أنس، أنّ معاذَ بنَ جبل حدّثه قال: "بينا أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه إلاّ أَخِرَة الرَّحْل، قال: يا معاذ، قلت: لبيّك يا رسول الله
(1) أخرجه البخاري: 3595.
(2)
أخرجه أحمد وابن حبان في "صحيحه" وغيرهم، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب"(23، 24).