الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل تُرمى حصون العدوّ بالمنجنيق ونحوه من المهلكات وفيهم النساء والذرية
؟
قال في "الإنجاد"(1/ 236) -بتصرف يسير-:
"اختلفوا في رمي حصون العدو بالمنجنيق ونحوِه من المُهْلِكات، وفيهم النساء والذُّرِيَّة، وأُسارى المسلمين؛ فذهَب مالك والشافعيّ وأبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم إلى جواز ذلك في الجملة؛ على ما نُفصِّله عنهم، وقيل: لا يجوز ذلك.
ذَكرَ فَضْلٌ أنَّ ابنَ القاسم مِن أصحاب مالكٍ رَوَى عنه المنعَ مِن رَمْيِهم بالمجانيق، أو إرسالِ الماء عليهم ليغرقوا؛ إذا كان معهم النساء والأطفال.
فأمَّا أبو حنيفة، فذَهَب إلى جواز رَمْيها وتحريقها عليهم بالنّار، وإنْ كان فيها الأسارى والأطفال، وكذلك عنده: لو تَتَرَّسوا بالمسلمين، رُموا -أيضاً-. قال: ويُقصد بذلك مَن فيها من الكُفَّار، فإنْ أصابوا في ذلك مُسلِماً فلا دِيَة ولا كفّارة.
وقال الشافعي: لا بأس برمي الحصن بالمنجنيق والنّار، وكلّ ما فيه نكاية، وفيه النساء والأطفال، ولم يَرَ رَمْيَهم إذا تَتَرَّسوا بالمسلمين إلَاّ في حال الاضطرار؛ حيث يخافهم المسلمون على أنفسهم إنْ كَفُّوا عنهم، فحينئذٍ يُقاتَلون، ولا يُتَعَمَّدُ قَتْلُ مسلم.
وقد قيل: يُكَفّ عنهم على كلِّ حال إذا لم يكن بُدٌّ مِن إصابة المسلم، وأيُّ مسلمٍ أصيب ممّن لم يَقْصِد الرامي قَصْدَه بالرمية ولم يره، فعليه تحرير رقبة، ولا دِيَة له، وإنْ كان رآه، وعَرَف مكانه ورمى، وهو مضطرٌ إلى الرَّمي، فعليه دِيَة وكفّارة، وإنْ تعمَّده ولم يكن مضطراً فالقِصاص.
وقال الأوزاعي: يُرمى الحصن بالمنجنيق والنار، وإنْ كان فيه أسرى المسلمين، فإنْ أُصيب أحدٌ مِن المسلمين؛ فهو خطأ تكون فيه الكفّارة والدِّيَة، ورأى أن يُكَفَّ عنهم، إذا تترّسوا بالمسلمين.
وعن مالك إجازةُ الرمي بالمنجنيق، ومنْع التحريق بالنار، إلَاّ أن يكون الحصن ليس فيه إلَاّ المُقاتِلَة فقط، فعنه في ذلك روايتان: الإجازة والمنع، ولا أعلم له في التترّس قولاً، وظاهر مذهبه المنع.
فأمّا دليل جواز رمي الحصون في الجملة -وفيها الذراريّ-: فما خرّجه البخاري (1)، ومسلم (2)، عن الصعب بن جثّامة قال:"سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدار مِن المشركين يُبيَّتون (3)، فيصيبون مِن نسائهم وذراريّهم، فقال: "هم منهم" (4).
زاد البخاريّ (5)، قال: وسَمِعْتُه يقول: "لا حِمى إلَاّ لله ولرسولِه"(6). وقوله
(1)(رقم: 3012).
(2)
(رقم: 1745).
(3)
قال بعض العلماء: أي أن يُغار عليهم بالليل، بحيث لا يُعرَف الرجل مِن المرأة والصبيّ.
(4)
قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": "قوله: (هم منهم) أي في الحُكم تلك الحالة، وليس المراد إباحةَ قَتْلِهم بطريق القصد إليهم؛ بل المراد إذا لم يُمكِن الوصول إلى الآباء؛ إلَاّ بوطء الذريّة، فإذا أُصيبوا لاختلاطهم بهم؛ جاز قَتْلُهم.
وقال الكرمانيّ رحمه الله (13/ 24): "والنهي عن قَتْلهم فيما إذا كانوا هم المقصودين، وكذلك النساء إذا قاتَلْن قُتِلْن أيضاً".
(5)
(رقم: 3012).
(6)
لا حِمى إلَاّ لله ولرسوله: قال الكرماني رحمه الله (10/ 182): "حِمى -بغير التنوين- لغةً: المحظور، واصطلاحاً: ما يَحمي الإمام من الموات والمواشي بعينها، ويمنع سائر =
- صلى الله عليه وسلم -وقد قيل له: لو أنّ خيلاً أغارَت من الليل، فأصابت مِن أبناء المشركين-قال:"هم مِن آبائهم"(1).
فهذا في نِساء المسلمين وأبنائهم ظاهر، فأمَّا الأسرى مِن المسلمين يكونون معهم في الحصون، فدليلُ مَن أجاز ذلك؛ هو مِن طريق المعنى، وذلك أنَّ قولَه في أبناء المشركين:"هم من آبائهم" ليس على معنى أنهم كُفَّار؛ لأنهم لم يبلُغوا، فلم يخاطَبوا بَعْدُ بالإيمان، ولم يَجْرِ عليهم التكليف، فلا يصحُّ إطلاق وصْفِ الكفر عليهم، لكن معنى:"هم منهم": رَفْعُ الخرج عن المسلمين في إصابتهم بحُكم الاضطرار، ومعرَّة الاقتحام، أي: لا مأثم يلحق في إصابتهم، فكذلك يجري المعنى في حُكْم الأسرى من المسلمين؛ إنْ أُصيب منهم أحدٌ في أثناء الاقتحام.
ووجه المنعِ في الجملة على نحو ما رُوِي عن ابن القاسم: أن لا يُرموا بالمجانيق إذا كان معهم النساء والأطفال؛ عُموم النهي عن قَتْلهم؛ ولأنّ الحديث في إرخاص ذلك؛ إنَّما جاء في البيات والغارات، حيث تدعو الضرورة إلى المباغتة، ولا يوقَن بالذراريّ أن يُصابوا.
وأمَّا رمي الحصون -وقد عُلم ما فيها من الذريَّة، والأمر فيهم على الرَّوية وعدم الاضطرار- فليس ممَّا أبيح مِن ذلك، هذا ونحوه هو الذي يتوجه لهذا القول.
= الناس من الرعي فيها، والمقصود مِن الحصر؛ إبطال ما كان يحميه الرجل العزيز مِن أهل الجاهلية؛ يأتي الأرض الخصبة فيستَعوي كلباً؛ فيحمي مدى صوت الكلب من كل وجهة، ويمنع الناس أن يرعوا حوله".
(1)
أخرجه مسلم: (1745 - 28).
والأَوْلَى -إن شاء الله- والذي نختاره التفصيل في ذلك، فنقول [القول لمصنِّف "الإنجاد"]:
أمَّا إنْ لم يُعلم في الحِصنِ أحدٌ من أُسارى المسلمين؛ فالأظهر جواز رميِهم، مع كون النساء والذريَّة في جملتهم، بدليل الحديث في قوله:"هم منهم"، إذا لم يُقصَدوا، وكان إصابتهم لضرورة الاقتحام، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيهم:"لا حِمى إلَاّ لله ولرسوله".
وأمَّا إنْ كان في الحصن أحدٌ من أسارى المسلمين، يُعلم ذلك، فالأظهر توقِّي استعمال ما لا يُؤمَن فيه إصابتُهم، فإْنْ عُلم أنّ ذلك لا يصيب الأسرى، فلا بأس، وذلك لأنّ حديث الصّعب بن جثَّامة؛ لم يجرِ فيه ذِكْر مُسلمٍ، إنما هو في نساء المشركين وأبنائهم، فلا يستباح بذلك الاجتراء في أمر المسلمين.
وأظهرُ من هذا والأتمُّ حُجَّةً قولُ الله -تعالى- في تأخير القتال عن أهل مكة عام الحديبية: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (1). فهذا نصٌ في وجوب التَوقِّي.
فإن قيل: إنَّ ذلك خاصٌّ بأهل مَكَّة، فهو دعوى؛ لأن الله -تعالى- إنَّما جعل الحُرمة في ذلك للإيمان لا للبلد، وهذا التفصيل والفَرْق الذي اخترناه؛ إنما نَعْني به الحُكمَ في قتال الحصون، وحيث لا ضرورة تدعو المسلمين؛ لكَسْر العدو ومدافعتهم.
وأمَّا عند لقاء جيوش المشركين، وفيهم أُسارى من المسلمين، فأرجو -إن
(1) الفتح: 25.
شاء الله- أن يكون كلّ شيءٍ مما يُنْكَى به العدوّ سائغاً، سواءٌ أُمِن أن يصيب الأسرى مِن ذلك شيءٌ أوْ لا، إلَاّ أنّهم لا يُتَعَمَّدون، ويُتحفَّظ عنهم بقَدْر الوُسع، وذلك أنَّ في الكفِّ عن القتال، وتَرْك الدِّفاع في مِثل هؤلاء الذين بَرزوا للمسلمين هلاكاً للناس، وتمكيناً لأهل الكُفر مِن الإسلام {وَلَن يجعَلَ اَللهُ لِلكافِرينَ عَلَى المؤمِنِينَ سَبِيلاً} (1).
وهذا كلّه ما لم يتترس الكُفّار بالمسلمين، فإنْ تترسوا بهم، بحيث لا يُمكِن قتالُهم إلَاّ مِن وراء قَتْل مسلم، فالأرجح الذي نختاره؛ الكفُّ جُملةً، والقتال لا نراه على حالٍ مِنْ غير تفصيلٍ في قِتال الحصون أو الجيوش؛ لأنّ ذلك إنْ لم تكن ضرورة، فلا خفاءَ به، وإنْ كانت ضرورة بحيث يُبْقي المسلمون على أنفسهم في الكفِّ عن القتال؛ فذلك أيضاً موجودٌ إذا قاتَلوا بقَتْلهم المسلمين الذين تترَّس بهم العدوّ؛ من غير حقٍّ وجب عليهم مُبيحٍ لدمائهم، وليس لأحدٍ أن يَقْتُل مسلماً بريئاً؛ لينجو بذلك مِن القتل
…
". انتهى.
قلت: والراجح عندي: أنَّ الأمر يدور حول ترجيح المصالح، واختيارِ أقلِّ الضرَرين وأخفّ الشرَّين؛ مع التحرُّجِ من قَتْل أُسارى المسلمين، ونساء وذراريِّ المشركين؛ تقصُّداً وتعمُّداً.
ونلاحظ أنّ ترجيح المصنِّف؛ كان يدور حول المعنى المتقدِّم، وسوَّغ إصابة النّساء والذّّرّية من المشركين؛ إن لم يكن بُدٌّ مِن ذلك لضرورة الاقتحام، وقد يكون القتال ليلاً، لا يُميَّز فيه الرجل من المرأة، ولا الصبيُّ من الرجل؛ كما ذكَر بعض العلماء. وذكروا قوله صلى الله عليه وسلم:"لا حِمى إلَاّ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم".
(1) النساء: 141.
ثمّ بيَّن وجوب توقِّي إصابة أُسارى المسلمين؛ حينما يكونون في حصون العدوِّ، ثمّ استدَلَّ بقوله -تعالى-:{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (1).
قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله: " {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} أي: بين أظهُرهم ممن يكتُم إيمانَه ويُخْفيه منهم خيفةً على أنفسهم مِن قومهم، لكُنَّا سلّطْناكم عليهم فقتلتموهم، وأبدْتُم خضراءَهم [يعني: سوادهم أو معظمهم]، ولكن بين أفنائِهم مِن المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالةَ القتل؛ ولهذا قال -تعالى-: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} أي: إثم وغرامة {بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي: يؤخر عقوبتَهم ليخلِّص مِن بين أظهرهم المؤمنين، وليرجع كثيرٌ منهم إلى الإسلام. ثمّ قال تبارك وتعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: لو تميَّز الكُفّار مِن المؤمنين الذين بين أظهرهم {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي: لسلّطناكم عليهم فلقتلتموهم قَتْلاً ذريعاً".
ثمّ ذكَر صاحب "الإنجاد" رحمه الله: ما يكون مِن شأن لقاءِ جيوش المشركين، وفيهم أسارى مِن المسلمين، فبيَّن تحريمَ تعمُّدِ إصابتهم، والتحفّظ عنهم بقدر الوُسع، وتسويغَ القتل لطالما هو ممّا يُنكى به العدوّ، مُبَيِّناَ خَطَر الكفّ عن القتال وتَرْك الدفاع، وأنّ في ذلك مفسدةً أعظم من إصابة بعض الأُسارى.
ثمّ ذكَر مسألة تترُّس الكُفَّار بالمسلمين، واختار الكفَّ عن ذلك.
(1) الفتح: 25.