الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد
اختلَف العلماء في مشروعية الاستعانة بالمشركين، فذهَب جماعة من العلماء إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين، وذهَب آخرون إلى جوازها.
ومن أهم أدلة المانعين:
حديث عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: "خرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل بدر فلمّا كان بِحَرَّة الوَبَرَة (1)، أدركه رجل قد كان يُذكَر منه جُرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلمّا أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتَّبِعَك وأصيبَ معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك.
قالت: ثمّ مضى، حتى إذا كنّا بالشجرة (2)، أدركه الرجل فقال له كما قال أوّل مرّة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، قال: ثمّ رَجَع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أوّل مَرّة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانطَلِق" (3).
ومن أبرز أدلّة المجوّزين:
حديث ذي مخِبَر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستصالحون الروم صُلحاً آمناً (4)، فتغزون أنتم وهم عدواً مِن ورائكم،
(1) الوَبَرَة: موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة.
(2)
اسم موضع.
(3)
أخرجه مسلم: 1817.
(4)
أي صلحاً ذا أمن.
فتُنصَرون وتَغنَمون وتَسلمون ثمّ تَرجعون، حتى تنزِلوا (1) بمَرْج (2) ذي تُلول (3)، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب، فيقول: غَلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه (4)، فعند ذلك تغدر الروم وتجمعُ للملحمة (5) " (6).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله يؤيّد الدين بالرّجُل الفاجِر"(7).
فيُجمَع بين الأحاديث بأنّ الاستعانة بالمشركين لا تجوز إلاّ لضرورة؛ لا إذا لم تكن ثمّ (8) ضرورة (9).
وبوّب الإمام النّووي رحمه الله لمسلم في كتاب "الجهاد والسِّير"، فقال:"باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر إلَاّ لحاجة، أو كونه حَسن الرأي في المسلمين" وذكر الحديث السابق ثمّ قال رحمه الله في الشرح: "قوله صلى الله عليه وسلم: فارجع فلن أستعين بمشرك"، وقد جاء في الحديث الآخر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم استعان
(1) أي أنتم وأهل الروم.
(2)
مرج: أرض واسعة ذات نبات كثير.
(3)
ذي تُلول: جمع تَل: موضع مرتفع.
(4)
أي: فيكسر المسلم الصليب.
(5)
أي للقتال. وانظر "المرقاة"(9/ 318).
(6)
أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود"(3607)، وابن ماجه. وانظر للمزيد من شرح الحديث -إن شئت- "المرقاة"(9/ 318) و"عون المعبود"، (11/ 268).
(7)
البخاري: 4203، ومسلم:111.
(8)
انظر إن شئت المزيد "الروضة الندية"(2/ 722).
(9)
قال شيخنا رحمه الله في "التعليقات الرضية"(3/ 443): "انظر رأي الشافعي في "الأم" ففيه تفصيل جيّد".
بصفوان بن أُميّة قبل إسلامه، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه، وقال الشافعي وآخرون: إنْ كان الكافر حَسَن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به؛ استُعين به وإلاّ فيُكره، وحَمْل الحديثين على هاذين الحالين". والله -تعالى- أعلم.
وجاء في نيل الأوطار (8/ 45) بعد عَرْض الأدلة ومناقشة الفريقَين: "والحاصل أنّ الظاهر من الأدلّة عدم جواز الاستعانة بمن كان مشركاً مُطلقاً؛ لما في قوله صلى الله عليه وسلم "إنا لا نستعين بمشرك" من العموم
…
". انتهى.
قلتُ: ولا أرى معارضة بين هذا وما تقدّم؛ مما جاء في كلام النّووي ونقولاته، وكذا مما قاله صاحب "الروضة" -رحمهما الله- إذْ أصل الحُكم عدم جواز الاستعانة، وتبقى الضرورة مسألة أخرى لا يمكن إغفالها، والنصوص فيها معلومة معروفة، ولكن ينحصر الخلاف ومدار البحث والنظر؛ في تحقيق مناط الحُكم، إذْ هو مرتبط بتنقيح مناطه (1).
وأقول: لو أنّ المسلمين عملوا ما أوجب الله -تعالى- عليهم من أسبابٍ لاستجلاب النصر؛ مِنْ إعدادٍ عَقَديّ ومنهجي وروحي ومادي وعسكري
…
، وتآلفوا فيما بينهم، وتعاونوا على البرِّ والتقوى؛ لما احتاجوا إلى الاستعانة.
ثمّ اطلعت على ما جاء في كتاب "الإنجاد في أبواب الجهاد"(ص 158): فقد قال مصنّفه رحمه الله: "واختلَف أهل العِلم في ذلك: فالجمهور على كراهة الاستعانة بهم في شيءٍ من الغزو، -وهو الصحيح-، لما دلّ عليه القرآن
(1) وانظر -للمزيد إن شئت-: "المغني"(10/ 456)، و"نيل الأوطار"(8/ 42) و"سُبُل السلام"(4/ 91).
والسُّنة الثابتة، ورُوي عن مالك أنه أجاز أن يُستعان بهم في خدمةٍ أو صنعَة. وعن ابن حبيب: أن يُستعان بهم في هدم الحصون ورمي المنجنيق،
…
" (1).
وجاء في التعليق من قِبَل محقِّقي الكتاب -حفظهما الله تعالى-: "واشترط بعضهم في الاستعانة بهم؛ إحسانهم الرأي في المسلمين، وأن يأمن المسلمون خيانتهم، وأن يكون المسلمون قادرين عليهم؛ لو اتفقوا مع العدو، فإذا وُجِدت هذه الشروط الثلاثة، جازت الاستعانة بهم. وقيل: لا يجوز استصحابهم في الجيش، مع موافقتهم العدو في المعتقد، فعلى هذا تكون الشروط أربعة".
وجاء في التعليق (ص 160): "فالاستعانة بالمشرك في القتال تجوز عند الحاجة إليه. قال ابن القيم رحمه الله في "الزاد" (3/ 301) في مَعْرِض كلامه على ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية: "ومنها: أنّ الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن عَيْنَهُ الخزاعيَّ كان كافراً إذ ذاك -يشير المصنف إلى ما سبق أن ذكره (ص 288) أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما كان بذي الحليفة؛ أرسَل عيناً له مُشركاً مِن خزاعة (2) يأتيه بخبر قريش- وفيه في المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم".
أسأل الله -تعالى- أن يُفرّج كربات المسلمين وأن ينصرهم على الأعداء، إنّه على كل شيء قدير.
(1) انظر تتمة كلامه وردّه -إن شئت-.
(2)
انظر ما جاء في "صحيح البخاري" برقم (4178، 4179).