الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالوا: فبتقدير أنّ جميع العسكر بغاة، فلم نُؤمَر بقتالهم ابتداءً؛ بل أُمِرنا بالإصلاح بينهم".
العدل بين الطائفتين وما يترتّب على ذلك مِن ضمان وقِصاص وحَمالة
(1).
جاء في "مجموع الفتاوى"(35/ 79): "وسُئل رحمه الله عن الفتن التي تقع مِن أهل البرّ وأمثالها؛ فيقْتُل بعضهم بعضاً ويستبيح بعضُهم حرمة بعض، فما حُكم الله -تعالى- فيهم؟
فأجاب:
(1) الحَمالة -بالفتح- ما يتحمّله الإنسان عن غيره مِن دَيّة أو غرامة، مثل أن تقع حَربٌ بين فريقين تسفك فيها الدماء فيدخل بينهم رجل يتحمّل ديات القتلى ليُصلِح ذات البين، والتَحمُّل: أن يحملها عنهم على نفسه "النّهاية".
(2)
آل عمران: 102 - 106.
وهؤلاء الذين تفرَّقوا واختلفوا حتى صار عنهم مِن الكُفر ما صار، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كُفّاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض"(1) فهذا مِن الكُفر؛ وإنْ كان المسلم لا يُكفَّر بالذنب، قال -تعالى-:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
فهذا حُكم الله بين المقتتلين من المؤمنين: أخبر أنهم إخوة، وأمر أوّلاً بالإصلاح بينهم إذا اقتتلوا {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} ولم يَقْبَلوا الإصلاح {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} فأمَر بالإصلاح بينهم بالعدل بعد أن {تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي ترجعَ إلى أمر الله، فمَن رجَع إلى أمر الله؛ وجَب أن يُعدَل بينه وبين خصمه، ويُقسَط بينهما، فَقَبْل أن نُقاتِل الطائفة الباغية وبعد اقتتالهما؛ أُمِرنا بالإصلاح بينهما مطلقا؛ لأنه لم تُقهَر إحدى الطائفتين بقتال.
وإذا كان كذلك؛ فالواجب أن يُسعى بين هاتين الطائفتين بالصلح الذي أَمَر الله به ورسوله، ويقال لهذه: ما تَنْقِم من هذه؟ ولهذه: ما تَنْقِم من هذه؟ فإنْ ثبَت على إحدى الطائفتين أنها اعتدت على الأخرى: بإتلاف شيءٍ من الأنفس، والأموال؛ كان عليها ضمان ما أتلفته، وإنْ كان هؤلاء أتلفوا لهؤلاء وهؤلاء أتلفوا لهؤلاء تقاصّوا بينهم، كما قال الله -تعالى-:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} .
(1) أخرجه البخاري: 7077، ومسلم:66.
وقد ذكَرَت طائفة من السلف أنها نَزَلت في مِثل ذلك في طائفتين اقتتلتا فأمَرَهم الله بالمقاصة، قال:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} والعفو الفضل، فإذا فَضُل لواحدة مِن الطائفتين شيء على الأخرى {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} والذي عليه الحقّ يؤديه بإحسان.
وإن تعذَّر أنْ تضمن واحدة للأخرى؛ فيجوز أن يتحمَّل الرجل حَمَالةً يؤديها لصلاح ذات البين، وله أن يأخذها بعد ذلك مِن زكاة المسلمين، ويسأل الناس في إعانته في هذه الحالة وإنْ كان غنياً، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لقبيصة بن مخارق الهلالي:"يا قبيصةُ إنّ المسألة لا تحلُّ إلَاّ لأحد ثلاثة: رجلٍ تحمَّل حَمالة، فحَلّت له المسألة؛ حتى يصيبها ثم يُمسك، ورجل أصابته جائحة (1) اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قِواماً (2) من عيش (أو قال سِداداً (2) من عيشٍ) ورجل أصابته فاقة؛ حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا (3) من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقةٌ؛ فحلَّت له المسألة حتى يصيب قِواماً من عيش (أو قال سِداداً من عيشٍ) "(4).
(1) الجائحة: هي الآفة التي تُهلك الثمار والأموال وتستأصلها، "النّهاية".
(2)
القِوام والسِّداد -بكسر القاف والسين- وهما بمعنى واحد، وهو ما يغني من الشيء، وما تُسدّ به الحاجة، "نووي".
(3)
(حَتَى يَقُوم ثَلَاثَة مِنْ ذَوِي الحجَا مِنْ قَوْمه) قال النّووي رحمه الله: "هَكَذَا هُوَ فِي جميع النُّسَخ: يَقُوم ثَلَاثَة، وَهُوَ صَحِيح. أي يَقُومُونَ بِهَذَا الأمْر فَيقُولُونَ: لَقَدْ أصَابَتْهُ فَاقَة. والحجا، مقصور، وَهُوَ العَقل، وَإِنمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: مِنْ قَوْمه لِأَنهُمْ مِنْ أهل الخبرَة بِبَاطِنِهِ، وَالمال مما يَخْفَى فِي العَادَة، فَلَا يَعْلَمهُ إلَاّ مَنْ كَانَ خَبيراً بِصَاحِبِهِ، وَإنَّمَا شَرَطَ الحجَا تَنْبِيهاً عَلَى أنَّهُ يُشتَرَط فِي الشَّاهِد التَّيَقُّظ؛ فَلَا تُقْبَل مِنْ مُغَفَّلٍ".
(4)
أخرجه مسلم: 1044، ولقد أحببت أن أذكره بلفظ مسلم، وكان شيخ الاسلام رحمه الله قد ذكره بتقديم مفرداتها وتأخيرها.