الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: والراجح عندي في مسألة التترس كلام شيخ الإسلام، فقد قال رحمه الله:"وقد اتفق العلماء على أنّ جيش الكُفّار إذا تترَّسوا بمَن عندهم مِن أسرى المسلمين؛ وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتِلوا؛ فإنهم يقاتَلون، وإن أَفضى ذلك إِلى قَتْل المسلمين الذين تترَّسوا بهم، وإِن لم يُخَف على المسلمين؛ ففي جواز القتال المفضي إِلى قَتْل هؤلاء المسلمين؛ قولان مشهوران للعلماء، وهؤلاء المسلمون إذا قُتلوا كانوا شهداء، ولا يُتَرك الجهاد الواجب لأجل مَن يُقتَل شهيداً"(1).
أقول: إِن تترُّس الكُفَّار بالمسلمين؛ ممّا يدلّ على عدم إقامة وزنٍ للأسارى، فهم مُعرّضون للقتل مِن قِبَل الكُفّار في أيّ لحظة؛ فإنْ كان في حال عدمِ قتال الكُفّار؛ لا يُؤمَن سلامة الأسارى، ويُخشى انجرار القتل إلى غيرهم، واحتلال بعض مواقع المسلمين؛ فالقتال هو الأولى، ولو أُصيب المسلم ضرورةً مِن غير تعمُّد ولا تقصُّد، والله -تعالى- أعلم.
الدعوة قبل القتال
قال الله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِبِينَ حَتى نَبعَثَ رَسُولاً} (2).
عن سهل بن سعد رضي الله عنه "أنّه سمِع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول يوم خَيبر: لأُعطينّ الرايةَ رجلاً يَفتَحُ الله على يديه، فقاموا يرجون لذلك أيُّهُم يُعطى، فغَدوا وكلّهم يرجو أن يُعطى، فقال: أين عليّ؟ فقيل: يشتكي عينيه، فأمرَ فدُعي له فبصَق
(1) انظر "مجموع الفتاوى"(28/ 546). وجاء ذِكرُه في التعليق على كتاب: الإنجاد" (1/ 241).
(2)
الإسراء: 15.
في عينيه، فبَرأ مكانَه؛ حتى كأنه لم يكن به شيء، فقال: نقاتلُهُم حتى يكونوا مثلَنا (1) فقال؛ على رِسلك (2) حتى تنزل بساحتهم، ثمّ ادْعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأَن يُهدَى بك رجلٌ واحد؛ خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم (3) " (4).
وفي حديث بريدة رضي الله عنه المتقدم: "
…
وإذا لقيتَ عدوّك مِن المشركين فادْعُهم إلى ثلاثِ خصالٍ (أو خِلال).
فأيتُهُنَّ ما أجابوك؛ فاقبَل منهم، وكُفَّ عنهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام، فإنْ أجابوك فاقبَل منهم، وكُفَّ عنهُم، ثمّ ادْعهم إلى التحول مِن دارِهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إنْ فعَلوا ذلك؛ فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبَوا أن يتَحوَّلوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين؛ يجري عليهم حُكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء؛ إلَاّ أنْ يجاهدوا مع المسلمين، فإنْ هم أبَوا فسَلْهم الجزية، فإنْ هم أجابوك فاقَبَل منهم وكُفَّ عنهُم، فإن هم أبَوا فاستَعِن بالله وقاتِلهم" (5).
جاء في "نيل الأوطار"(8/ 53) عقب قوله صلى الله عليه وسلم: "ثمّ ادْعهم إلى الإسلام":
(1) جاء في "نيل الأوطار"(8/ 55): المراد من المثليّة المذكورة؛ أن يتصفوا بوصف الإسلام، وذلك يكون في تلك الحال بالتكلم بالشهادتين، وليس المراد أنهم يكونون مثلَهم في القيام بأمور الإسلام كلِّها، فإنّ ذلك لا يمكن امتثاله حال المقاتَلَة.
(2)
أي اتّئد ولا تعجل.
(3)
هي الإبِل الحُمْر، وهي من أنفس أموال العرب، يضربون بها المثَل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه. "شرح النّووي".
(4)
أخرجه البخاري: 2942، ومسلم:2406.
(5)
أخرجه مسلم: 1731 وتقدّم.
"وفيه دليل على وجوب تقديم دعاء الكفار إلى الإسلام قبل المقاتَلَة".
وفي المسألة ثلاثة مذاهب: الأول: أنّه يَجِب تقديم دعاء الكُفّار إلى الإسلام، مِن غير فرْقٍ بين من بلَغتْه الدعوة منهم، ومن لم تبلغه، وبه قال مالك والهادوية وغيرهم، وظاهر الحديث معهم.
والمذهب الثاني: أنّه لا يَجب مطلقاً.
المذهب الثالث: أنّه يَجب لمن لم تبلغهم الدعوة، ولا يَجِب إنْ بلغَتْهم لكن يُستحَبّ.
قال ابن المنذر: وهو قول جمهور أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث.
وقال الإمام البخاري رحمه الله: " (باب دعوة اليهود والنصارى، وما يقاتلون عليه، وما كتب النبيّ إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال (1)) (2).
وعن ابن عون قال: كتبتُ إلى نافع، فكتَب إليّ إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أغارَ على بني المُصْطَلِق وهم غارّون، وأنعامُهم تُسقى على الماء، فقَتَل مُقاتِلتَهم وسبى ذراريَّهم، وأصاب يومئذٍ جُوْيرية.
حدثني به عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش" (3).
وفي لفظ: قال ابن عون: "كتبتُ إلى نافعٍ أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال:
(1) انظر "صحيح البخاري"(كتاب الجهاد والسِّير)(باب 101).
(2)
ثم ذكر تحته حديثين انظرهما -إن شئت- برقم (2938، 2939).
(3)
أخرجه البخاري: 2541، ومسلم:1730.
فكتَب إليّ إنما كان ذلك في أوّل الإسلام، قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلِق وهم غارّون
…
" (1).
جاء في "كتاب الإنجاد"(ص 168): -بعد ذكر حديث سهل رضي الله عنه: "فتضمَّن ظاهرُ القرآن، ونصُّ حديث سهلٍ؛ الأمرَ بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال، وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما مباغتَتُهم، والإغارةُ عليهم وهم غارُّون، فوجَب أن يُرجَع ذلك إلى اختلاف أحوال الكُفّار؛ فيمن كان قد علِمَ بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما يُقاتِلُهم عليه، داعياً إلى الله -تعالى-، وإلى دين الإسلام، أو كان لم يعلم شيئاً من ذلك.
والدليل على ذلك قوله في الحديث: "إنما كان ذلك في أول الإسلام"، يعني: دعاءَهم قبل القتال، حيث كانوا جاهلين بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأحوالُ الكُفّار لا تخلو مِن هذين الوجهين، فأمّا من عُلِمَ، وتُحُقِّق أنّه لم تبلغه دعوة الإسلام، ولا عُلِمَ ماذا يراد منه بالقتال، فلا خِلافَ يُعرفُ أنّه يجب أن يُدعى قبلُ إلى الإسلام، ويعلم بما يجب في ذلك، فإنِ امتنعوا قوتلوا حينئذٍ" (2).
وقال (ص 171): "قال ابن المنذر:
…
وكان الشافعيّ وأبو ثور يقولان: فإنْ كان قومٌ لم تبلُغهم الدعوة، ولا عِلْم لهم بالإسلام، لم يقاتَلوا حتى يُدْعَوا إلى الإسلام، قال ابن المنذر: وكذلك نقول". انتهى.
قلت: وقد بوّب الإمام النّووي رحمه الله للنص الذي قاله نافع، وكان قد حدّثه هذا الحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قائلاً: (باب جواز
(1) أخرجه مسلم: 1730.
(2)
انظر تتمة الكلام للمزيد من الفائدة -إن شئت-.