المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كان جنوحه خِداعاً ومكراً [قلتُ: ويرجع هذا إلى تقدير الإمام - الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة - جـ ٧

[حسين العوايشة]

فهرس الكتاب

- ‌الجهاد

- ‌إيحابه:

- ‌الجهاد فرضُ كفاية إذا قام به قومٌ سقط عن الباقين

- ‌متى يتعيّن الجهاد

- ‌ماذا يُشترَط لوجوب الجهاد

- ‌متى تُشرع الحرب

- ‌مراتب الجهاد

- ‌الإخلاص في الجهاد

- ‌عذاب من يرائي في جهاده

- ‌الترهيب من أن يموت الإنسان ولم يغزُ

- ‌الجهاد في سبيل الله تجارة مُنجية

- ‌الجهاد من أفضل الأعمال عند الله -تعالى- وأَحبِّها إليه

- ‌الجنة تحت ظلال السيوف

- ‌لا يجتمع غُبارٌ في سبيل الله ودخان جهنّم

- ‌يُنجّي الله -تعالى- بالجهاد من الهمّ والغمّ

- ‌المجاهد أفضل النّاس

- ‌ذِكر التسويةِ بين طالب العلم ومعلِّمهِ وبين المجاهدِ في سبيل الله

- ‌أي القتل أشرف

- ‌مقام الرجل في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً

- ‌للمجاهد في الجنّة مائة درجة

- ‌ما يعدِل الجهاد في سبيل الله عز وجل

- ‌فضل الشهادة في سبيل الله -سبحانه

- ‌فضل الرباط في سبيل الله -تعالى

- ‌فضل الرمي بنيّة الجهاد والتحريض عليه

- ‌اللهو بأدوات الحرب

- ‌إثم مَن تعلّم الرمي ثمّ تَركه

- ‌فضل احتباس الخيل للجهاد في سبيل الله

- ‌فضل النفقة في سبيل الله وتجهيز الغزاة

- ‌أجر الشهادة بالنيّة لمن لم يستطع الجهاد

- ‌من صفات القائد

- ‌من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قُوّاده

- ‌ما يجب على أمير الجيش أو قائده

- ‌ذكر ما يُستحَبّ للإمام أن يستعين بالله -جلّ وعلا- على قتال الأعداء إذا عزَم على ذلك

- ‌الاستنصار بالضعفاء: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم

- ‌جواز تخلّفِ الإمام عن السرية لمصلحة

- ‌إذا طلَب الإمام قَتْلَ رجل

- ‌البيان بأن صاحبَ السرية إذا خالَف الإمام فيما أمَره به كان على القوم أنْ يَعْزِلوه وُيولُّوا غيره

- ‌من تَأمَّر في الحرب مِن غير إمرةٍ إذا خاف العدو

- ‌توليةُ الإمِام أمراءَ جماعة واحداً بعد الآخر عند قَتْل الأول

- ‌متى تجب طاعة الجنود الأمير أو القائد

- ‌عقوبة مَن عصى الأمير أو القائد

- ‌مبادرة الإمام عند الفزع

- ‌تشييع المجاهدين ووداعُهم والدعاءُ لهم

- ‌من هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد، واقتداء الصحابة به في المعارك واستبسالهم فيها

- ‌عدد غزوات النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌الطليعة واستطلاع الأخبار وابتعاث العيون

- ‌التورية في الغزو

- ‌الكَذِب والخداع في الحرب

- ‌التسبيح إذا هَبط وادياً والتكبير إذا عَلا شَرَفاً

- ‌إباحة تعاقب الجماعة الركُوبَ الواحد في الغزو عند عدم القدرة على غيره

- ‌مَن أَحبَّ الخروج للغزو يومَ الخميس

- ‌ما يُؤمَر من انضمام العسكر

- ‌في المياسرة والمرافقة في الغزو

- ‌حرمة نساء المجاهدين ومن خان غازياً في أهله

- ‌خروج النساء للتمريض ونحوه

- ‌حَمل الرجل امرأتَه في الغزو دون بعض نسائه

- ‌غزوة النساء مع الرجال

- ‌تحريم إسناد القتال إلى النّساء

- ‌فضل الخدمة في الغزو

- ‌إذن الوالدين في جهاد التطوع

- ‌هل يُستأذَن الدائن

- ‌حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد

- ‌النهي عن السفر بالمصحف إلى أَرض الحرب

- ‌ما يُنهى عنه في الحرب

- ‌هل تُرمى حصون العدوّ بالمنجنيق ونحوه من المهلكات وفيهم النساء والذرية

- ‌الدعوة قبل القتال

- ‌الدعاء عند القتال

- ‌الإلحاح على الله -تعالى- في طلب النصر

- ‌كراهةُ تمنّي لقاءَ العدْوّ، والأمرُ بالصبر عند اللقاء

- ‌وجوب الثبات عند لقاء العدوّ ومتى يجوز الفرار

- ‌المبايعة على الموت أو عدم الفرار

- ‌ التحنّط عند القتال:

- ‌مَا يُتَعَوَّذُ مِنْ الْجُبْنِ

- ‌ما جاء في المبارزة

- ‌ما يجوز للرجل مِنَ الحَمْل وحده على جيش العدوِّ وتأويل قول الله -تعالى-: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

- ‌الخُيَلاء في الحرب

- ‌التكبيرُ عند الحرب

- ‌الغارة على الأعداء ليلاً

- ‌القتال أول النهار أو الانتظار حتى تهُبّ الريح

- ‌إذا ارتدّ على المقاتل سلاحه فقتله فله أجرُه مرّتين

- ‌من لهم ثواب الشهداء

- ‌ماذا يجد الشهيد من مسّ القتل

- ‌فضل الحرب في البحر

- ‌هل يسلم المجاهد نفسه للأسر

- ‌من ركع ركعتين عند القتل

- ‌استقبال الغزاة

- ‌مراسلة المجاهدين والديهم وأهليهم

- ‌انتهاء الحرب

- ‌لا يجوزُ نزْعُ ثيابِ الشهيد التي قُتل فيها

- ‌استحبابُ تكفين الشهيد بثوبٍ واحدٍ أو أكثر فوق ثيابهِ (2)

- ‌لا يُشْرَعُ غَسْلُ الشهيد قتيلِ المعركة ولو كان جُنُباً

- ‌أين يُدفن الشهيد

- ‌دفنْ أكثر من شهيد في قبر واحد إذا كَثُر القتلى

- ‌ما يقول إذا رجع من الغزو

- ‌إذا قَدِمَ الإمام أو القائد مِن الغزو يبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين

- ‌مراجعة الإمام أو القائد مَن تخلّف من الغزو والقتال

- ‌قتال الإمام مانعي الزكاة

- ‌قتل الجاسوس

- ‌في حُكم قتل الجاسوس إذا كان مُسلماً

- ‌من قفز من عسكر المسلمين إلى عسكر الكُفّار

- ‌الهدنة

- ‌عقد الذمّة

- ‌موجب هذا العقد:

- ‌الأحكامُ التي تجري على أهل الذِّمَّة:

- ‌الجزية

- ‌مشروعيتها:

- ‌ممن تُقبَل

- ‌مقدار الجزية

- ‌ما يجوز للإمام اشتراطه

- ‌الزيادة من غير إجهاد ولا مشقّة

- ‌تحريم أخْذ ما يَشُقُّ على أهل الجزية

- ‌إعفاء من لم يقدر على أدائها

- ‌لا تُؤخَذ الجزية مِن النساء والصبيان

- ‌لا تؤخذ الجزية ممن أسلم ولو كان إسلامه فراراً من دفع الجزية

- ‌خَتْم رقابِ أهل الجزية في أعناقهم

- ‌بمَ يُنقض العهد

- ‌الغنائم

- ‌تعريفها:

- ‌إحلالها لهذه الأمّة دون غيرها

- ‌وجوب المجيء بالغنائم إذا نادى المُنادي في الناس بذلك

- ‌كيفية تقسيم الغنائم

- ‌يستوي في الغنائم مِن أفراد الجيش القوي والضعيف ومَن قاتَل ومن لم يُقاتِل

- ‌السَّلَب للقاتل

- ‌تخميس السَّلَب إذا بلغ مالاً كثيراً

- ‌جواز تنفيل بعض الجيش مِن الغنيمة

- ‌ردّ أموال وسبايا التائبين

- ‌إذا غنم المشركون مال المسلم ثمّ وجده المسلم

- ‌حُكم الأرض المغنومة

- ‌الغُلول

- ‌تعريفه:

- ‌تحريم الغُلول:

- ‌ما يجوز الانتفاع به قبل قسمة الغنائم

- ‌أسرى الحرب

- ‌جوازُ استرقاقِ الكُفّار مِنْ عربٍ أو عَجَم

- ‌إذا أسلم الأسير حَرُمَ قتْلُه

- ‌ما وَرَد في الإحسان إلى الأسرى

- ‌ما ورَد في الإحسان إلى الرقيق

- ‌ربط الأسير وحبْسُه

- ‌نفيُ جوازِ قتْلِ الحربيّ إذا أتى ببعضِ أَمارات الإسلام

- ‌تحرير الرقاب

- ‌الفيء

- ‌إنفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله نفقةَ سَنتِهِم مِن الفيء، وجعْل الباقي في مَجْعَل مال الله

- ‌يُراعى في قَسْم الفيء قِدَمُ الرجل في الإسلام وبلاؤُه، وعِيالُه وحاجتُه

- ‌إعطاء المتزوج حظّين والعزب حظاً واحداً

- ‌استيعاب الفيء عامّة المسلمين

- ‌عطاء المحرَّرين

- ‌كيفية تجزئة النبيّ صلى الله عليه وسلم الفيء

- ‌مصادر الفيء

- ‌مصارف الفيء

- ‌عقد الأمان

- ‌مَن أَمّنه أحد المسلمين صارَ آمناً

- ‌تحريم قتل المؤمَّن

- ‌حُكم الرسول كالمؤَمّن

- ‌المستأمَن

- ‌حقوقه

- ‌الواجب عليه

- ‌تطبيق حكم الإسلام عليه

- ‌مُصادرة ماله

- ‌ميراثه

- ‌العهود والمواثيق

- ‌شروط العهود:

- ‌نقض العهود:

- ‌الإعلام بالنقض تحرُّزاً عن الغدر

- ‌إقرار القوانين الدّولية في تحريم قتل الرسل

- ‌قتال البغاة

- ‌لا يُجهز على الجريح منهم ولا يُسلب القاتل ولا يُطلب المولّي

- ‌أقسام البغاة وما جاء في تأويلهم

- ‌هل البغاة والخوارج لفظان مترادفان أم لا

- ‌إذا بغت طائفة ولم تَقْبَل الصلح كانت بمنزلة الصائل

- ‌العدل بين الطائفتين وما يترتّب على ذلك مِن ضمان وقِصاص وحَمالة

- ‌ثواب صبر مَنْ يظُنّ أنّه مظلوم مبغيٌّ عليه

- ‌ما يفعله ولاة الأمور مع أقوام لم يصلّوا ولم يصوموا

- ‌لا يجوز لإحدى الطائفتين أن تقول: نأخذ حقّنا بأيدينا

- ‌مَن قَتَل أحداً بعد إصلاح

- ‌بيان طُرُق الإصلاح المذكور في قوله تعالى: {فأصلِحوا بين أخويكم}

- ‌متى يُقاتَل الخوارج والمتمرّدون على الإمام

- ‌ما جاء مِن نصوص تبيّن بعض أمارات الخوارج ومثيري الفتن

- ‌السمع والطاعة للإمام ما لم يَأْمُر بمعصية وما جاء في عدم منازعة الأمر أهله

- ‌السلام في الإسلام

- ‌أسباب النصر والتمكين

- ‌1 - التوحيد

- ‌2 - اتباع منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - اتباع مَنْهج السلف الصالح

- ‌4 - العلم

- ‌5 - تزكية النفوس والائتمار بما أمر الله -تعالى- والانتهاء عما نهى -سبحانه

- ‌6 - ترْك الذنوب والمعاصي والأهواء

- ‌7 - ترك التحايل

- ‌8 - ترْك البِدَع

- ‌9 - الإعداد العسكري

- ‌10 - الإعداد المعنوي

- ‌11 - التآلف واجتماع الكلمة، وعدم التفرق والاختلاف

- ‌لماذا هُزِم المسلمون

- ‌عوامل الهزيمة وأسباب الدَّمار

- ‌عجباً من التخبُّط والعشوائية في طلب النَّصر

- ‌البشرى بانتصار المسلمين وانتشار الإسلام

الفصل: كان جنوحه خِداعاً ومكراً [قلتُ: ويرجع هذا إلى تقدير الإمام

كان جنوحه خِداعاً ومكراً [قلتُ: ويرجع هذا إلى تقدير الإمام مراعاةً لمصلحة المسلمين ولما يقتضيه الحال].

وقد شرع الله -تعالى- قتال المشركين من العرب، وكانوا قد نكثوا الأيمان

ونقضوا العهود وهمّوا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله -تعالى-:{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1).

ولمّا تجمّعوا جميعاً ورَمَوا المسلمين عن قوس واحدة، أمَرَ الله بقتالهم جميعا؛ كما في قوله -سبحانه-:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (2).

‌مراتب الجهاد

*لمَّا كان الجِهاد ذِروةَ سنامِ الإسلام وقُبّتَه، ومنازل أهلِه أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرِّفعةُ في الدنيا، فهم الأعْلَوْنَ في الدنيا والآخرةِ، كان رسول الله في الذِّروة العُليا منه، واسْتولى على أنواعه كلِّها فجاهدَ في الله حقَّ جهاده؛ بالقلبِ، والجنانِ، والدعوةِ، والبيانِ، والسيفِ، والسِّنانِ، وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفعَ العالمين ذِكْراً، وأعظمَهم عند الله قَدْراً.

(1) التوبة: 13 - 15.

(2)

التوبة: 36.

ص: 19

وأمَرَه الله -تعالى- بالجهاد مِن حين بعثَه، وقال:{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (1). فهذه سورة مكيّة أَمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجَّة، والبيان، وتبليغِ القرآن، وكذلك جهادُ المنافقين، إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فَهُم تحت قهر أهلِ الإسلام، قال -تعالى-:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (2). فجهادُ المنافقين أصعبُ مِن جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمَّه، ووَرَثةِ الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركون فيه، والمعاونون عليه -وإنْ كانو اهم الأقلِّين عدداً- فهم الأَعْظمون عند الله قَدْراً.

ولمَّا كان مِن أفضلِ الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعَارِضِ، مِثل انْ تتكلَّم به عند مَن تُخاف سطوتُه وأذاه، كان للرسلِ -صلوات الله عليهم وسلامُهُ- مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبيِّنا -صلوات الله وسلامُه عليه- مِن ذلك أكملُ الجهاد وأَتّمُّه.

ولمَّا كان جهاد أعداء الله في الخارج؛ فَرْعاً على جهاد العبد نفسه في ذات اللهِ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المجاهدُ مَنْ جَاهدَ نفسَهُ في طاعةِ الله (3)، والمُهاجِر مَنْ هَجَرَ

(1) الفرقان: 51، 52.

(2)

التوبة: 73.

(3)

أقول: وبهذا فجهاد أعداء الله -تعالى- في الخارج مفتقرٌ إلى جهاد النفس، ولا يُقبَل الجهاد، ولا تُنالُ الشهادة في سبيل الله -سبحانه- إلَاّ بمجاهدة النفس، وتجريدها مِن الحظوظ والهوى، فرُبَّ رجلٍ قُتِل في الميدان؛ سُحِب على وجهه في النار يوم القيامة، لأنه قاتَل رياءً وسمعةً، ورُبَّ رجلٍ مات على فراشه لمرضٍ أو عذرٍ؛ بلَّغه الله منازل الشهداء لإخلاصه وَصِدْقِه.

ص: 20

ما نهى الله عنه" (1). كان جهادُ النفس مُقَدَّماً على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلاً له، فإنَّه ما لم يجاهِد نفسه أوّلاً لتَفْعلَ ما أُمِرَتْ به، وتتركَ ما نُهِيَتْ عنه، ويُحارِبْها في الله، لم يُمْكِنْهُ جهادُ عدوِّه في الخارج. فكيف يمكنُه جهاد عدوِّه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يحاربه في الله، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوّه؛ حتى يجاهِدَ نفسه على الخروج.

فهذان عدوَّان قد امْتُحِن العبد بجهادهما، وبينهما عدوٌّ ثالث لا يمكنه جهادُهما إلَاّ بجهاده، وهو واقف بينهما يُثبِّط العبدَ عن جهادهما، ويُخذِّلُه ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّلُ له ما في جهادهما من المشاقِّ وترْك الحظوظ وفَوْتِ اللذاتِ والمشتهيات ولا يُمكنه أن يجاهِدَ ذَيْنكَ العدوَّيْن إلَاّ بجهاده، فكان جهادُه هو الأصلَ لجهادهما، وهو الشيطان. قال -تعالى-:{إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخِذُوُه عَدُوّاً} (2).

والأمر باتخاذه عدوّاً تنبيهٌ على استفراغ الوُسع في محاربته ومجاهدته، كأنَّه عدوٌّ لا يَفْتُر ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.

فهذه ثلاثة أعداء أُمِرَ العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بُلي بمحاربتها في هذه

الدار، وسلَّطتْ عليه امتحاناً من الله له وابتلاءً، فأعطى الله العبدَ مَدَداً وعُدَّةً

وأعواناً وسلاحاً لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مَدَداً وعُدَّةً وأعواناً وسلاحاً، وبَلَا أحدَ الفريقين بالآخر وجعل بعضَهم لبعض فتنةَ لِيَبْلُوَ أخبارهم، ويمتحن من يتولَّاه ويتولَّى رسُلَه، ممن يتولّى الشيطان وحزبه، كما قال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ

(1) أخرجه أحمد وغيره، وانظر "الصحيحة"(549).

(2)

فاطر: 6.

ص: 21

لبعضٍ فتنةً أتصبرون وكان ربك بصيراً} (1)، وقال -تعالى-:{ذَلِكَ وَلَو يشاء الله لَاَنتصَرَ منهُم ولكن ليبلوا بعضكم ببعضٍ} (2)، وقال -تعالى-:{ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم ونبلوا أخباركم} (3). فأعطى عباده الأسماعَ والأبصارَ، والعقول والقُوى، وأنزل عليهم كُتبه، وأرسل إليهم رسُله، وأمدّهم بملائكته، وقال لهم:{أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} (4)، وَأَمَرَهُم مِن أمره بما هو مِن أعظم العون لهم على حرب عدوِّهم، وأخبَرَهم أنهم إنِ امتثلوا ما أمَرَهم به؛ لم يزالوا منصورين على عدوِّه وعدوِّهم، وأنه إِنْ سلَّطه عليهم فلِتَرْكِهم بعضَ ما أُمِروا به؛ ولمِعصيتهم له، ثمّ لم يُؤْيسهُم، ولم يُقَنِّطْهُم، بل أَمَرَهُم أن يستقْبِلوا أمْرَهم، ويُداووا جِرَاحَهُم، ويعودوا إلى مناهضة عدوِّهم فينصرهم عليهم، ويظفرهم بهم، فأخبَرَهُم أنه مع المتقين منهم، ومع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المؤمنين، وأنَّه يُدافع عن عباده المؤمنين ما لا يدافعون عن أنفسهم، بل بدفاعه عنهم انتصروا على عدوِّهم، ولولا دفاعُه عنهم؛ لتخطَّفَهم عدوُّهم واجتاحَهم

وهذه المدافعةُ عنهم بحسب إيمانِهم، وعلى قدْرِه، فإنْ قَوِيَ الإيمانُ قويتِ المدافعة، فمَنْ وجد خيراً، فليحمد الله، ومَن وجد غيرَ ذلك، فلا يلومنَّ إلَاّ نفسه.

وأمَرَهم أنْ يُجاهدوا فيه حقّ جهاده، كما أمَرَهم أن يتَّقوه حقَّ تقاته. وكما أن حقّ تقاته أن يُطاع فلا يُعصى، ويذكَرَ فلا يُنسى، ويُشكَر فلا يُكفر، فحقُّ جهادِه أن يجاهد العبد نفسه؛ لِيُسلِم قلبَه ولسانَه وجوارحَه لله، فيكون كلُّه لله، وبالله، لا

(1) الفرقان: 20.

(2)

محمد: 4.

(3)

محمد: 31.

(4)

الأنفال: 12.

ص: 22

لنفسِه ولا بنفسه، ويُجاهدَ شيطانه بتكذيبِ وعده، ومعصيةِ أمرهِ، وارتكابِ نهيه، فإنه يَعِدُ الأمانيِّ، ويمنِّي الغرور، ويعِدُ الفقرَ، ويأمرُ بالفحشاء، وينهى عن التُّقى والهُدى والعفةِ والصبرِ، وأخلاقِ الإيمان كلِّها، فجاهده بتكذيب وعْدِه، ومعصية أمره، فينشأ له من هذين الجهادين قوةٌ وسلطانٌ، وعُدَّةٌ يجاهد بها أعداء الله في الخارج؛ بقلبه ولسانه ويده ومالهِ، لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا.

واختلفَت عبارات السلف في حقِّ الجهاد:

فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو استفراغ الطاقة فيه، وألَاّ يخافَ في الله لومةَ لائم. وقال مُقاتل: اعملوا لله حقَّ عمَلِه، واعبدُوه حقَّ عبادته. وقال عبد الله بن المبارك: هو مجاهدةُ النفس والهوى.

ولم يُصِبْ مَن قال: إنَّ الآيتين منسوختان؛ لظنِّه أنّهما تضمَّنَتا الأمر بما لا يُطاق، وحقّ تقاته وحقّ جهاده: هو ما يُطيقه كلُّ عبد في نفسه، وذلك يختلف باختلافِ أحوال المكلفين في القدرة، والعجز، والعلم والجهل. فحقُّ التقوى وحقُّ الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيءٌ، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيءٌ.

وتأمَّل كيف عقَّب الأمرَ بذلك بقوله: {هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عليكم في الدين مِنْ حَرَجٍ} (1)، والحَرَج: الضِّيقُ، بل جَعَلَه واسعاً يَسَعُ كلَّ أحدٍ، كما جَعل رزقه يَسَعُ كلَّ حي، وكلَّف العبد بما يسَعه العبدُ، ورَزَق العبدَ ما يسَعُ العبد، فهو يسَعُ تكليفَه وَيَسَعُهُ رزقُهُ، وما جعَل على عبده في الدين مِن حَرَجٍ بوجه ما.

وقد وسَّع الله سبحانه وتعالى على عباده غايةَ التَّوسِعة في دينه، ورِزْقِه،

(1) الحج: 78.

ص: 23

وعفْوِه، ومغفرته، وبسَطَ عليهم التوبة ما دامت الروحُ في الجسد، وفتَحَ لهم باباً لها لا يُغْلِقُهُ عنهم إلى أنْ تطلُعَ الشمسُ مِن مغربها، وجعلَ لكلِّ سيئةٍ كفَّارةً تكفِّرها؛ مِن توبة، أو صدقة، أو حسنة ماحية، أو مصيبة مُكفِّرة، وجعَل بكلِّ ما حرَّم عليهم عِوضاً مِن الحلال أنفعَ لهم منه، وأطيبَ وألذَّ، فيقومُ مقامَه ليستغني العبد عن الحرام، ويسعه الحلال، فلا يَضيقُ عنه، وجعَل لكل عُسرٍ يمتحنُهم به يُسراً قبله، ويُسراً بعده

، فإذا كان هذا شأنه -سبحانه- مع عباده، فكيف يُكلِّفُهم ما لا يَسَعُهُم فضلاً عمَّا لا يُطيقونه ولا يقدرون عليه.

إذا عُرف هذا، فالجهادُ أربعُ مراتبَ: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.

فجهاد النفس أربعُ مراتب أيضاً:

إحداها: أنْ يُجاهِدَها على تعلُّم الهُدى، ودينِ الحقِّ الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلَاّ به، ومتى فاتها عِلْمُه شقيت في الدَّارين.

الثانية: أنْ يُجاهدَها على العمل به بعد عِلْمِه، وإلا فمُجرَّدُ العلم بلا عمل إنْ لم يضرَّها لم ينفعها.

الثالثة: أنْ يُجاهدَها على الدعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يَعْلَمهُ، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله مِن الهدى والبينات، ولا ينفعهُ عِلْمه، ولا يُنْجِيه مِن عذاب الله.

الرابعة: أنْ يُجاهدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمّلَ ذلك كلَّه لله.

فإذا استكمَل هذه المراتب الأربع، صار من الرّبَّانيين، فإنَّ السلف مُجْمِعُون

ص: 24

على أنَ العَالِم لا يستحقُّ أن يُسمَّى ربّانياً حتى يعرِفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويعلِّمَه، فمَن عَلِمَ وعَمِلَ وعلَّم؛ فذاك يُدعى عظيماً في ملكوتِ السماوات.

وأمَّا جهاد الشيطان فمرتبتان:

إحداهما: جهادُه على دَفْعِ ما يُلقي إلى العبد؛ مِن الشُّبُهات والشكوك القادحة في الإيمان.

الثانية: جهادهُ على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.

فالجهادُ الأول يكون بعدَه اليقين، والثاني يكون بعدَه الصبر. قال -تعالى-:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (1)، فأخبَرَ أنَّ إمامة الدين، إنَّما تُنال بالصبر واليقين، فالصبر يَدْفَع الشهواتِ والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.

وأمَّا جهاد الكُفّار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخصُّ باليد، وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان.

وأمَّا جهادُ أرباب الظلم والبِدَعِ والمنكرات، فثلاث مراتب:

الأولى: باليدِ إذا قَدِرَ، فإنْ عَجَزَ، انتقل إلى اللسان، فإن عَجَزَ، جاهَد بقلبه، فهذه ثلاثةَ عشرَ مرتبةً مِن الجهاد، و"مَن مَاتَ ولَم يغْزُ، ولم يُحدِّث نفسه بالغزْوِ، مات على شعبةٍ من النفاق"(2).

ولا يتمُّ الجهادُ إلَاّ بالهجرةِ، ولا الِهجرة والجهادُ إلَاّ بالإيمان، والرّاجُون

(1) السجدة: 24.

(2)

أخرجه مسلم: 1910.

ص: 25

رحمةَ الله هم الذين قاموا بِهذِهِ الثلاثة. قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1).

وكما أنَّ الإيمان فرض على كلّ أحد، ففرْضٌ عليهِ هجرتان في كل وقت:

هجرةٌ إلى الله عز وجل بالتوحيدِ، والإخلاص، والإنابة، والتَّوكُّلِ، والخوفِ، والرجاءِ، والمحبةِ، والتوبةِ.

وهجرةٌ إلى رسوله بالمتابعة، والانقيادِ لأمره، والتصديق بخبرِه، وتقديم أمرِه وخبرِه على أمرِ غيرِه وخبرِه:"فمن كانت هجرتُهُ إلى الله ورسوله، فهجرتُهُ إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرتُهُ إلى دُنيا يصيبها، أو امرأةِ يتزوَّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"(2).

وفَرَضَ عليه جهاد نفسِه في ذات الله، وجهاد شيطانه، فهذا كُلُّهُ فرضُ عينٍ لا ينوبُ فيه أحدٌ عن أحدِ.

وأمَّا جهادُ الكُفار والمنافقين، فقد يُكتفى فيه ببعضِ الأمَّةِ إذا حصلَ منهم مقصود الجهاد. وأكمل الخلق عند الله، مَن كَمَّلَ مراتبَ الجهاد كُلَّها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله، تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلقِ وأكرمهم على الله، خاتِم أنبيائه ورسلِهِ، فإنَّه كمَّل مراتب الجهاد، وجاهد في الله حقَّ جهاده، وشَرع في الجهاد من حين بُعِثَ إلى أن توفاه الله عز وجل* (3).

(1) البقرة: 218.

(2)

البخاري: 1، ومسلم:1907.

(3)

ما بين نجمتين من "زاد المعاد"(3/ 5 - 12).

ص: 26