الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "فهذا إِخبارٌ مِن الله -تعالى- بمحبته عبادَه المؤمنين إذا اصطفُّوا مُواجِهين لأعداء الله في حومة الوَغى، يُقاتِلون في سبيل الله مَن كفَر بالله، لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، ودينُه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.
وقال ابن عباس: {كأنهم بنيانٌ مرصُوصٌ} مُثبَت لا يزول، مُلصَقٌ بعضُه ببعض. وقال قتادة:{كأنهم بنيانٌ مرصُوصٌ} ألم تَرَ إلى صاحِب البنيان، كيف لا يُحبُّ أن يَخْتَلف بنيانه؟. فكذلك الله عز وجل لا يُحبُّ أن يختلفَ أمرُه، وإنّ الله صفَّ المؤمنين في قتالهم، وصفَّهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عِصمةٌ لمَن أخَذ به
…
" (1)
لماذا هُزِم المسلمون
؟
لقد كثُرت على المسلمين النكبات والمصائب بعد القرون الخيرية، وطمع فينا الأعداء، وتداعَوا على أمّتنا؛ كما تتداعى الأكَلَةُ على قصعتها.
لقد احتلَّ المشركون والكُفَّار كثيراً من بلاد المسلمين وتسلَّطوا على أهلها، وعاثوا فساداً فيها؛ تقتيلاً وتذبيحاً وإهانةً وإذلالاً.
لقد مضى فينا قوله صلى الله عليه وسلم: "يوشِك الأممُ أن تَدَاعى عليكم كما تَدَاعى الأكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، فقال قائل: ومنْ قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ؛ ولكنَّكم غثاءٌ كغثاء السَّيْلِ، ولَيَنْزعنَّ اللهُ مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وَلَيقْذِفنَّ الله في قلوبكم الوَهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسول الله! وما الوَهْنُ؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية
(1) مُلتقط من "تفسير ابن كثير".
الموت" (1).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "يُوشِكُ أهل العراق أنْ لا يُجْبَى إليهم قَفِيزٌ ولا دِرهم. قلنا: مِنْ أين ذاك؟ قال: من قِبَلِ العَجَم. يمنعون ذاك. ثم قال: يُوشِك أهل الشَّأْم أن لا يُجْبَى إليهم دينار ولا مُدْيٌ.
قلنا: مِن أين ذاك؟ قال مِن قِبَلِ الرُّوم ثمّ أسْكَتَ (2) هُنَيَّةً (3).
ثمّ قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر أمَّتي خليفةٌ؛ يَحثي المال حَثْياً لا يَعُدُّه عدداً" (4).
قال: قلتُ لأبي نضرةَ وأبي العلاء: أتريان أنّه عمرُ بن عبد العزيز؟ فقالا: لا.
وقد قال الله- تعالى-: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (5).
وقال -سبحانه-: {وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين} (6).
وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (7).
(1) أخرجه أبو داود وغيره، وصحَّحه شيخنا رحمه الله في "الصحيحة"(958).
(2)
سكَتَ وأسْكَت: لغتان بمعنى صمت، وقيل: أسكت بمعنى أطرق وقيل بمعنى أعرض، "شرح النّووي". وانظر للمزيد من الفائدة ما قاله ابن الأثير رحمه الله في "النّهاية".
(3)
هُنَيَّةً: أي قليلاً من الزمان، وهو تصغير هَنَة. "النّهاية".
(4)
أخرجه مسلم: 2913.
(5)
النساء: 141.
(6)
الروم: 47.
(7)
محمد: 7.
وقال -سبحانه-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (1).
والنُّصوص التي تبشّر بالنَّصر في هذا الباب كثيرة معلومة قد ذَكَرْتُها تحت عنوان مستقلّ.
تأمّلات في الآيات المتقدّمة:
إنّ المتأمِّل في الآيات الكريمة يجد أنّ الله- تعالى- قد وعَد المؤمنين بالنَّصر، واشترط على الناس أن ينصروه حتى ينصرهم، وفي الآية الأخيرة قال ربُّنا - سبحانه-:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} .
فظهور الأمَّة على سائر الأمم؛ لا يكون إلَاّ بالعمل بمقتضى الرسالة: وهو الهدى ودين الحقِّ.
ولا بدَّ لنا أن نتعرَّف على صفات المؤمنين الذين لن يجعل الله للكافرين عليهم سبيلاً، والذين أخذ الله الحقَّ على نفسه؛ أن ينصُرهم ويجعلَهم سادة الأمم.
وهذه نماذجُ من صفات المؤمنين:
قلوبهم وجلة بذكره -سبحانه-، وإيمانهم يزداد بتلاوة آياته.
(1) التوبة: 33.
(2)
الأنفال: 2 - 4.
فكيف بمن هجَر الآيات؟!
وكيف بمن يفرح بالمعازف والأغاني؟!
وهل المعازف والأغاني هي مادَّة النّصر وسلاح المنتصرين؟!.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، ولم يَفْهَم معنى التوكُّل إلَاّ القليل، وإذا ذكَّرْتهم بالتوكُّل على الله -تعالى- في الطعام والشراب قالوا: "
…
فإنّ السماء لا تمُطِر ذَهَباً ولا فِضّةً" لا بدَّ من أخْذ الأسباب.
أوَليس النصر يا قوم يتطلَّب الأسباب!
وهل السماءُ تمُطِر نصراً!!!.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} ، بالمحافظة على مواقيتها وإسباغ الطَّهور فيها وإتمام ركوعها وسجودها
…
فكيف بمن لا يُصلَّي!.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، إنها الزكاة والصدقة التي تطهرهم، قال -تعالى-:{خُذْ من أموالهم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكّيهم بها} ....
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} ، أي: المتصِّفون بهذه الصفات هم المؤمنون حقَّ الإيمان -كما قال المفسِّرون-، لا بالدعوى ولا بالزعم؛ أنّ القلوب نقيَّة والأفئدة تقيّة ولو لم تُقَم الصلاة وتُؤْتَ الزكاة! وكم من قائلٍ هذه المقولة مِمَّن يحلمون بالنّصر!.
وقال- تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1).
ومن نماذج المجاهدين الخاشعين المنتصرين ما رواه جابر رضي الله عنه قال: "خرَجْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في غزوة ذات الرِّقاع - فأصاب رجلٌ امرأةَ رجلٍ من المشركين، فحَلَف: أن لا أنتهيَ حتى أهريق دماً في أصحاب محمد، فخرَج يتبع أثرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم منزلاً، فقال: مَنْ رجلٌ يكْلَأُنا (2)؟ فانتُدِب رجلٌ من المهاجرين، ورجلٌ من الأنصار، فقال: كُونا بفَمِ الشِّعْبِ. قال: فلمّا خرَج الرجلان، إلى فم الشعب اضطجع المهاجريُّ، وقام الأنصاريُّ يُصلّي، وأتى الرجل، فلمّا رأى شخصه؛ عَرَف أنّه ربيئةٌ (3) للقوم، فرماه بسهمٍ فوضَعَه فيه، فنزعَه حتى رماه بثلاثة أسهم، ثمّ ركَع وسجَد، ثمّ انتبهَ صاحبه، فلمّا عَرَف أنهم نَذِروا (4) به هَرَب، ولمّا رأى المهاجريُّ ما بالأنصاريِّ مِن الدماء قال: سبحان الله! ألا أنبهتني أوّلَ ما رمى، قال: كنتُ في سورةٍ من القرآن فلم أُحِبَّ أن أقطعَها"(5).
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} ، معرضون عن الباطل المتضمِّن الشركَ والمعاصي وما لا فائدة فيه مِن الأقوال -كما قال بعض المفسِّرين-.
(1) المؤمنون: 1 - 11.
(2)
أي: يحفظنا ويحرسنا.
(3)
هو العين والطليعة الذي ينظر للقوم؛ لئلَاّ يدهمَهم عدوٌّ، ولا يكون إلَاّ على جبلٍ أو شَرَفٍ ينظُر منه. "النّهاية".
(4)
أحسُّوا بمكانه.
(5)
أخرجه أبو داود وغيره، وحسَّنه شيخنا رحمه الله في "صحيح سنن أبي داود"(182).
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} ، إلَاّ ما استثناه ربُّنا -سبحانه-، فكيف بمن يشتري بماله الأجهزة الفاسدة التي تملأ سمْعَه لغواً وتَعْرِض له العورات من أقصى البلاد؟
وكيف بمن يدفع بنفسه ليكون من العادين؟! وهل ينتصر العادون.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} .
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "القَتْل في سبيل الله يُكفِّر الذنوبَ كلَّها إلَاّ الأمانة".
قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة -وإنْ قُتِلَ في سبيل الله-، فيقال: أدِّ أمانَتَك، فيقول: أيْ ربِّ! كيف وقد ذهَبَتِ الدنيا؟ فيُقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنْطَلَقُ به إلى الهاوية، وتمُثَّل له أمانتُه؛ كهيئتها يوم دُفِعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على مَنْكِبَيْه، حتى إذا ظنَّ أنّه خارجٌ؛ زلَّت عن مَنْكِبَيْه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين.
ثمّ قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، -وأشياءَ عدَّدَها-، وأشدُّ ذلك الودائع" (1).
وناشدتكم الله؛ هل ينتصر خائنُ أمانةٍ وناقضُ عهدٍ!.
وقال- تعالى-: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ
(1) أخرجه أحمد والبيهقي موقوفاً، وحسَّنه شيخنا رحمه الله في "صحيح الترغيب والترهيب"(2995)، ولهذا حكم الرفع؛ لأنه لا يُقال في الغيبيات من قبيل الرأي.
الْمَصِيرُ} (1).
فأين موالاة المؤمنين؟ وأين معاداة الكافرين؟ وهل تأملون نصراً ممَّن وصفه الله بقوله {فليس من الله في شيءٍ} ؟
وأين نحن من قوله صلى الله عليه وسلم: "ترى المؤمنين في تراحُمهم وتوادِّهم وتعاطُفهم؛ كَمَثَلِ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ؛ تداعى له سائر جسده، بالسهر والحمى"(2)؟
وأين نحن من قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالْبُنيان يشدُّ بعضه بعضاً"(3)؟
وقال- سبحانه-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (4)، فكيف بمن يأمر بالمنكَر وينهى عن المعروف.
وقد قال- تعالى-: {إِلَاّ تَفعَلُوهُ} أي: أن يكون بعضكم أولياء بعض؛ كما هو شأن الكُفَّار في هذه المسألة. {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (5)، ألسنا نعاين هذه الفتنة ونشهد هذا الفساد!.
وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (6)، فأين طاعة الله في توحيده واتِّباع نبيِّه واجتناب البدع!.
(1) آل عمر ان: 28.
(2)
أخرجه البخاري: 6011 - واللفظ له-، ومسلم:2586.
(3)
أخرجه البخاري: 6026، ومسلم:2585.
(4)
التوبة: 71.
(5)
الأنفال: 73.
(6)
النساء: 59.
أين طاعة الله في الائتمار بما أمَر والانتهاء عمّا نهى وزجَر.
وقال -سبحانه-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (1)، فأَمارة الإيمان بالله واليوم الآخر هو الردُّ إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عند التنازع.
فكيف بمن يدرس القانون البشري ليردَّ إلى الأحكام الوضعيَّة.
وهل يجلب النصرَ من يردُّ أموره وشؤونه إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟! وقد قال -سبحانه-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2)، فمن كانت له الخِيَرة فيما يقضيه الله ورسوله من أمر؛ فليس له الخِيَرَة أن يطلب النَّصر أو المجد أو العزَّة.
وقال -سبحانه-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)، وكيف ينتصر مَن كثُر حرجُه ممّا قضى لهم الشرع، وكانوا بمنأى عن التسليم له.
وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (4)، وكم مِن هذه الأمّة ممّن قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون، فكيف بمن نأى عن السماع وفرَّ من الاستماع؟!
(1) النساء: 59.
(2)
الأحزاب: 36.
(3)
النساء: 65.
(4)
الأنفال: 20 - 21.