المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد، واقتداء الصحابة به في المعارك واستبسالهم فيها - الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة - جـ ٧

[حسين العوايشة]

فهرس الكتاب

- ‌الجهاد

- ‌إيحابه:

- ‌الجهاد فرضُ كفاية إذا قام به قومٌ سقط عن الباقين

- ‌متى يتعيّن الجهاد

- ‌ماذا يُشترَط لوجوب الجهاد

- ‌متى تُشرع الحرب

- ‌مراتب الجهاد

- ‌الإخلاص في الجهاد

- ‌عذاب من يرائي في جهاده

- ‌الترهيب من أن يموت الإنسان ولم يغزُ

- ‌الجهاد في سبيل الله تجارة مُنجية

- ‌الجهاد من أفضل الأعمال عند الله -تعالى- وأَحبِّها إليه

- ‌الجنة تحت ظلال السيوف

- ‌لا يجتمع غُبارٌ في سبيل الله ودخان جهنّم

- ‌يُنجّي الله -تعالى- بالجهاد من الهمّ والغمّ

- ‌المجاهد أفضل النّاس

- ‌ذِكر التسويةِ بين طالب العلم ومعلِّمهِ وبين المجاهدِ في سبيل الله

- ‌أي القتل أشرف

- ‌مقام الرجل في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً

- ‌للمجاهد في الجنّة مائة درجة

- ‌ما يعدِل الجهاد في سبيل الله عز وجل

- ‌فضل الشهادة في سبيل الله -سبحانه

- ‌فضل الرباط في سبيل الله -تعالى

- ‌فضل الرمي بنيّة الجهاد والتحريض عليه

- ‌اللهو بأدوات الحرب

- ‌إثم مَن تعلّم الرمي ثمّ تَركه

- ‌فضل احتباس الخيل للجهاد في سبيل الله

- ‌فضل النفقة في سبيل الله وتجهيز الغزاة

- ‌أجر الشهادة بالنيّة لمن لم يستطع الجهاد

- ‌من صفات القائد

- ‌من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قُوّاده

- ‌ما يجب على أمير الجيش أو قائده

- ‌ذكر ما يُستحَبّ للإمام أن يستعين بالله -جلّ وعلا- على قتال الأعداء إذا عزَم على ذلك

- ‌الاستنصار بالضعفاء: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم

- ‌جواز تخلّفِ الإمام عن السرية لمصلحة

- ‌إذا طلَب الإمام قَتْلَ رجل

- ‌البيان بأن صاحبَ السرية إذا خالَف الإمام فيما أمَره به كان على القوم أنْ يَعْزِلوه وُيولُّوا غيره

- ‌من تَأمَّر في الحرب مِن غير إمرةٍ إذا خاف العدو

- ‌توليةُ الإمِام أمراءَ جماعة واحداً بعد الآخر عند قَتْل الأول

- ‌متى تجب طاعة الجنود الأمير أو القائد

- ‌عقوبة مَن عصى الأمير أو القائد

- ‌مبادرة الإمام عند الفزع

- ‌تشييع المجاهدين ووداعُهم والدعاءُ لهم

- ‌من هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد، واقتداء الصحابة به في المعارك واستبسالهم فيها

- ‌عدد غزوات النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌الطليعة واستطلاع الأخبار وابتعاث العيون

- ‌التورية في الغزو

- ‌الكَذِب والخداع في الحرب

- ‌التسبيح إذا هَبط وادياً والتكبير إذا عَلا شَرَفاً

- ‌إباحة تعاقب الجماعة الركُوبَ الواحد في الغزو عند عدم القدرة على غيره

- ‌مَن أَحبَّ الخروج للغزو يومَ الخميس

- ‌ما يُؤمَر من انضمام العسكر

- ‌في المياسرة والمرافقة في الغزو

- ‌حرمة نساء المجاهدين ومن خان غازياً في أهله

- ‌خروج النساء للتمريض ونحوه

- ‌حَمل الرجل امرأتَه في الغزو دون بعض نسائه

- ‌غزوة النساء مع الرجال

- ‌تحريم إسناد القتال إلى النّساء

- ‌فضل الخدمة في الغزو

- ‌إذن الوالدين في جهاد التطوع

- ‌هل يُستأذَن الدائن

- ‌حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد

- ‌النهي عن السفر بالمصحف إلى أَرض الحرب

- ‌ما يُنهى عنه في الحرب

- ‌هل تُرمى حصون العدوّ بالمنجنيق ونحوه من المهلكات وفيهم النساء والذرية

- ‌الدعوة قبل القتال

- ‌الدعاء عند القتال

- ‌الإلحاح على الله -تعالى- في طلب النصر

- ‌كراهةُ تمنّي لقاءَ العدْوّ، والأمرُ بالصبر عند اللقاء

- ‌وجوب الثبات عند لقاء العدوّ ومتى يجوز الفرار

- ‌المبايعة على الموت أو عدم الفرار

- ‌ التحنّط عند القتال:

- ‌مَا يُتَعَوَّذُ مِنْ الْجُبْنِ

- ‌ما جاء في المبارزة

- ‌ما يجوز للرجل مِنَ الحَمْل وحده على جيش العدوِّ وتأويل قول الله -تعالى-: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

- ‌الخُيَلاء في الحرب

- ‌التكبيرُ عند الحرب

- ‌الغارة على الأعداء ليلاً

- ‌القتال أول النهار أو الانتظار حتى تهُبّ الريح

- ‌إذا ارتدّ على المقاتل سلاحه فقتله فله أجرُه مرّتين

- ‌من لهم ثواب الشهداء

- ‌ماذا يجد الشهيد من مسّ القتل

- ‌فضل الحرب في البحر

- ‌هل يسلم المجاهد نفسه للأسر

- ‌من ركع ركعتين عند القتل

- ‌استقبال الغزاة

- ‌مراسلة المجاهدين والديهم وأهليهم

- ‌انتهاء الحرب

- ‌لا يجوزُ نزْعُ ثيابِ الشهيد التي قُتل فيها

- ‌استحبابُ تكفين الشهيد بثوبٍ واحدٍ أو أكثر فوق ثيابهِ (2)

- ‌لا يُشْرَعُ غَسْلُ الشهيد قتيلِ المعركة ولو كان جُنُباً

- ‌أين يُدفن الشهيد

- ‌دفنْ أكثر من شهيد في قبر واحد إذا كَثُر القتلى

- ‌ما يقول إذا رجع من الغزو

- ‌إذا قَدِمَ الإمام أو القائد مِن الغزو يبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين

- ‌مراجعة الإمام أو القائد مَن تخلّف من الغزو والقتال

- ‌قتال الإمام مانعي الزكاة

- ‌قتل الجاسوس

- ‌في حُكم قتل الجاسوس إذا كان مُسلماً

- ‌من قفز من عسكر المسلمين إلى عسكر الكُفّار

- ‌الهدنة

- ‌عقد الذمّة

- ‌موجب هذا العقد:

- ‌الأحكامُ التي تجري على أهل الذِّمَّة:

- ‌الجزية

- ‌مشروعيتها:

- ‌ممن تُقبَل

- ‌مقدار الجزية

- ‌ما يجوز للإمام اشتراطه

- ‌الزيادة من غير إجهاد ولا مشقّة

- ‌تحريم أخْذ ما يَشُقُّ على أهل الجزية

- ‌إعفاء من لم يقدر على أدائها

- ‌لا تُؤخَذ الجزية مِن النساء والصبيان

- ‌لا تؤخذ الجزية ممن أسلم ولو كان إسلامه فراراً من دفع الجزية

- ‌خَتْم رقابِ أهل الجزية في أعناقهم

- ‌بمَ يُنقض العهد

- ‌الغنائم

- ‌تعريفها:

- ‌إحلالها لهذه الأمّة دون غيرها

- ‌وجوب المجيء بالغنائم إذا نادى المُنادي في الناس بذلك

- ‌كيفية تقسيم الغنائم

- ‌يستوي في الغنائم مِن أفراد الجيش القوي والضعيف ومَن قاتَل ومن لم يُقاتِل

- ‌السَّلَب للقاتل

- ‌تخميس السَّلَب إذا بلغ مالاً كثيراً

- ‌جواز تنفيل بعض الجيش مِن الغنيمة

- ‌ردّ أموال وسبايا التائبين

- ‌إذا غنم المشركون مال المسلم ثمّ وجده المسلم

- ‌حُكم الأرض المغنومة

- ‌الغُلول

- ‌تعريفه:

- ‌تحريم الغُلول:

- ‌ما يجوز الانتفاع به قبل قسمة الغنائم

- ‌أسرى الحرب

- ‌جوازُ استرقاقِ الكُفّار مِنْ عربٍ أو عَجَم

- ‌إذا أسلم الأسير حَرُمَ قتْلُه

- ‌ما وَرَد في الإحسان إلى الأسرى

- ‌ما ورَد في الإحسان إلى الرقيق

- ‌ربط الأسير وحبْسُه

- ‌نفيُ جوازِ قتْلِ الحربيّ إذا أتى ببعضِ أَمارات الإسلام

- ‌تحرير الرقاب

- ‌الفيء

- ‌إنفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله نفقةَ سَنتِهِم مِن الفيء، وجعْل الباقي في مَجْعَل مال الله

- ‌يُراعى في قَسْم الفيء قِدَمُ الرجل في الإسلام وبلاؤُه، وعِيالُه وحاجتُه

- ‌إعطاء المتزوج حظّين والعزب حظاً واحداً

- ‌استيعاب الفيء عامّة المسلمين

- ‌عطاء المحرَّرين

- ‌كيفية تجزئة النبيّ صلى الله عليه وسلم الفيء

- ‌مصادر الفيء

- ‌مصارف الفيء

- ‌عقد الأمان

- ‌مَن أَمّنه أحد المسلمين صارَ آمناً

- ‌تحريم قتل المؤمَّن

- ‌حُكم الرسول كالمؤَمّن

- ‌المستأمَن

- ‌حقوقه

- ‌الواجب عليه

- ‌تطبيق حكم الإسلام عليه

- ‌مُصادرة ماله

- ‌ميراثه

- ‌العهود والمواثيق

- ‌شروط العهود:

- ‌نقض العهود:

- ‌الإعلام بالنقض تحرُّزاً عن الغدر

- ‌إقرار القوانين الدّولية في تحريم قتل الرسل

- ‌قتال البغاة

- ‌لا يُجهز على الجريح منهم ولا يُسلب القاتل ولا يُطلب المولّي

- ‌أقسام البغاة وما جاء في تأويلهم

- ‌هل البغاة والخوارج لفظان مترادفان أم لا

- ‌إذا بغت طائفة ولم تَقْبَل الصلح كانت بمنزلة الصائل

- ‌العدل بين الطائفتين وما يترتّب على ذلك مِن ضمان وقِصاص وحَمالة

- ‌ثواب صبر مَنْ يظُنّ أنّه مظلوم مبغيٌّ عليه

- ‌ما يفعله ولاة الأمور مع أقوام لم يصلّوا ولم يصوموا

- ‌لا يجوز لإحدى الطائفتين أن تقول: نأخذ حقّنا بأيدينا

- ‌مَن قَتَل أحداً بعد إصلاح

- ‌بيان طُرُق الإصلاح المذكور في قوله تعالى: {فأصلِحوا بين أخويكم}

- ‌متى يُقاتَل الخوارج والمتمرّدون على الإمام

- ‌ما جاء مِن نصوص تبيّن بعض أمارات الخوارج ومثيري الفتن

- ‌السمع والطاعة للإمام ما لم يَأْمُر بمعصية وما جاء في عدم منازعة الأمر أهله

- ‌السلام في الإسلام

- ‌أسباب النصر والتمكين

- ‌1 - التوحيد

- ‌2 - اتباع منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - اتباع مَنْهج السلف الصالح

- ‌4 - العلم

- ‌5 - تزكية النفوس والائتمار بما أمر الله -تعالى- والانتهاء عما نهى -سبحانه

- ‌6 - ترْك الذنوب والمعاصي والأهواء

- ‌7 - ترك التحايل

- ‌8 - ترْك البِدَع

- ‌9 - الإعداد العسكري

- ‌10 - الإعداد المعنوي

- ‌11 - التآلف واجتماع الكلمة، وعدم التفرق والاختلاف

- ‌لماذا هُزِم المسلمون

- ‌عوامل الهزيمة وأسباب الدَّمار

- ‌عجباً من التخبُّط والعشوائية في طلب النَّصر

- ‌البشرى بانتصار المسلمين وانتشار الإسلام

الفصل: ‌من هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد، واقتداء الصحابة به في المعارك واستبسالهم فيها

‌تشييع المجاهدين ووداعُهم والدعاءُ لهم

يُسنّ تشييع المجاهدين في سبيل الله والغزاة، والدعاء لهم؛ وقد شيَّع النبيّ صلى الله عليه وسلم النفر الذين وجَّهَهم إلى كعب بن الأشرف؛ إلى بقيع الغرقد ودعا لهم.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثمّ وجّهَهُم، وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعِنْهم"(1).

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يستودع الجيش قال: "أستَودِع الله دينَك، وأمانتَك، وخواتيمَ عَمَلِك"(2).

وقال الإمام البخاري رحمه الله: (باب التوديع)(3): ثم ذكرَ حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "بعَثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَعْث فقال لنا: إنْ لقيتم فلاناً وفلاناً -لرجلين من قريش سمّاهما- فحرِّقوهما بالنار، قال ثمّ أتيناه نودِّعه حين أردنا الخروج، فقال: إنّي كنت أمرتكم أنْ تحرّقوا فلاناً وفلاناً بالنار، وإنّ النار لا يُعذِّب بها إلَاّ الله، فإنْ أخذتموهما فاقتلوهما"(4).

‌من هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد، واقتداء الصحابة به في المعارك واستبسالهم فيها

(5)

عن زياد بن جبير بن حية قال: "أخبرني أبي أنَ عمر بن الخطاب -رضي الله

(1) أخرجه أحمد وغيره، وحسنه شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(1191).

(2)

أخرجه أبو داود، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"، والحاكم، وصححه شيخنا رحمه الله في "الصحيحة" برقم (15).

(3)

انظر "صحيح البخاري"(كتاب الجهاد)(باب - 107).

(4)

أخرجه البخاري: 2954.

(5)

هذا العنوان من "السلسلة الصحيحة".

ص: 67

عنه- قال للهُرمُزان: أما إذ فُتَّنِي بنفسك فانصح لي، وذلك اّنه قال له: تكلَّم لا بأس، فأمَّنه، فقال الهُرمُزان: نعم؛ إنّ فارسَ اليوم رأس وجناحان. قال: فأين الرأس؟ قال: نهاوند مع بُنْدار، قال: فإنه معه أساورة كسرى وأهل أصفهان، قال: فأين الجناحان؟ فذكَر الهُرمُزان مكاناً نسيته، فقال الهُرمُزان: اقطع الجناحين توهن الرأس. فقال له عمر رضي الله عنه: كذبْتَ يا عدوَّ الله، بل أعمد إلى الرأس فيقطعه الله، فإذا قَطَعه الله عني انقطَع عنّي الجناحان.

فأراد عمر أنْ يسير إليه بنفسه، فقالوا: نُذكِّرك الله يا أمير المؤمنين أن تسير بنفسك إلى العجم، فإن أُصِبْت بها لم يكن للمسلمين نظامٌ (1)، ولكن ابعث الجنود.

قال: فَبَعث أهل المدينة وبَعَثَ فيهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وبَعَث المهاجرين والأنصار، وكتَب إلى أبي موسى الأشعري أنْ سِرْ بأهل البصرة، وكتَب إلى حذيفة بن اليمان أن سِرْ بأهل الكوفة حتى تجتمعوا بنهاوند جميعاً، فإذا اجتمعتم فأميركم النعمان بن مُقَرِّن المزني.

فلمّا اجتمعوا بنهاوند، أرسَل إليهم بُندارُ العلج (2) أنْ أرسِلوا إلينا يا معشر العرب رجلاً منكم نكلّمه، فاختار النّاس المغيرة بن شعبة، قال أبي: فكأني أنظر إليه: رجل طويل أشعر أعور، فأتاه، فلمّا رجع إلينا سألناه؟ فقال لنا: إنّي وجدْتُ العلج قد استشار أصحابه في أيّ شيء تأذنون لهذا العربي؟ أبشارتنا وبهجتنا وملكنا؟ أو نتقشف له فنزهده عما في أيدينا؟ فقالوا: بل نأذن له بأفضل ما يكون

(1) وهذا لاهتمامهم العظيم في تنظيم أمور الدولة: داخلها وخارجها.

(2)

العِلْج: الرجل من كُفّار العجم وغيرهم، والأعلاج جمعُه ويُجمع على علوج، "النّهاية".

ص: 68

من الشارة والعدة. فلمّا رأيتهم رأيت تلك الجراب (1) والدَّرَق (2) يلمع منها البصر، ورأيتهم قياماً على رأسه، فإذا هو على سريرٍ من ذهب، وعلى رأسه التاج، فمضيت كما أنا، ونكستُ رأسي لأقعد معه على السرير، فقال: فدُفعتُ ونُهرت، فقلت: إنّ الرسل لا يُفعَل بهم هذا. فقالوا لي: إنما أنت كلب، أتقعد مع الملِك؟! فقلتُ: لأنا أشرف في قومي مِن هذا فيكم.

قال: فانتهرني وقال: اجلس فجلست. فتُرجم لي قوله، فقال: يا معشر العرب، إنكم كنتم أطولَ النّاس جوعاً، وأعظمَ النّاس شقاءً، وأقذرَ النّاس قذراً، وأبعدَ النّاس داراً، وأبعدَه مِن كل خير، وما كان منَعَني أن آمر هذه الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب؛ إلَاّ تنجُّساً لجِيَفِكم لأنكم أرجاس، فإنْ تذهبوا نُخْلِ عنكم، وإنْ تأبوا نبوّئْكم مصارعَكم.

قال المغيرة: فحمْدتُ الله وأثْنَيت عليه وقلت: والله ما أخطأت من صِفَتِنا ونَعْتِنا شيئاً، إن كنا لأبعد النّاس داراً، وأشدّ النّاس جوعاً، وأعظم النّاس شقاءً، وأبعد النّاس من كل خير، حتى بَعَث الله إلينا رسولاً، فوعدَنا بالنصر في الدنيا، والجنّةِ في الآخرة، فلم نزل نتعرف مِن ربّنا -مذ جاءنا رسوله صلى الله عليه وسلم- الفلاح والنصر، حتى أتيناكم، وإنّا والله نرى لكم مُلكاً وعيشاً لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبداً، حتى نغلبَكم على ما في أيديكم، أو نُقتَل في أرضكم. فقال: أمّا الأعور فقد صدقَكم الذي في نفسه.

فقمتُ مِنْ عنده وقد والله أرعبت العِلْج جهدي، فأرسَل إلينا العِلج: إمّا أنْ تعبروا إلينا بنهاوند وإمّا أنْ نعبر إليكم. فقال النعمان: اعبروا فَعَبرنا. فقال أبي:

(1) الجراب: إناء مصنوع من الجِلد، يُحمل فيه الزّاد أثناء السفر "غريب الحديث" للحربي.

(2)

جمع الدَّرَقةَ: التُّرس من جِلد ليس فيه خشب ولا عَقَب.

ص: 69

فلم أر كاليوم قطّ، إنّ العلوج يجيئون كأنهم جبالُ الحديد، وقد تواثقوا أن لا يَفرّوا مِن العرب، وقد قُرِن بعضهم إلى بعض حتى كان سبعة في قران، وألقوا حَسَك (1) الحديد خلفهم، وقالوا: مَن فرَّ منّا عقَرَه حَسَكُ الحديد. فقال: المغيرة بن شعبة حين رأى كثرتهم: لم أر كاليوم قتيلاً، إن عدوّنا يتركون أن يتناموا، فلا يُعجلوا. أمَا والله لو أن الأمر إليَّ لقد أعجلتهم به.

قال: وكان النعمان رجلاً بكّاءَ، فقال: قد كان الله -جلّ وعزّ- يُشهِدك أمثالها فلا يحْزنك ولا يعيبك موقفك. وإني والله ما يمنعني أنْ أناجزهم إلاّ لشيء شهِدْته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا فلم يُقاتِل أول النهار لم يَعَجَل حتى تحضر الصلوات وتهب الأرواح ويطيب القتال.

ثمّ قال النعمان: اللهم إني أسألك أن تُقرَّ عيني بفتْحٍ يكون فيه عزُّ الإسلام وأهله، وذلُّ الكفر وأهلِه. ثمّ اختِمْ لي على أثر ذلكَ بالشهادة. ثمّ قال: أمِّنوا رَحِمكم الله. فأمّنّا وبكى فبكينا. فقال النعمان: إنّي هازٌّ لوائي فتيسّروا للسلاح، ثمّ هازُّها الثانية، فكونُوا متيسَّرين لقتال عدوكم بإزائكم، فإذا هززتها الثالثة؛ فليحمِل كل قوم على مَن يليهم مِن عدوِّهم على بركة الله.

قال: فلمّا حَضَرت الصلاة وهبَّت الأرواح كبّر وكبَّرنا. وقال: ريح الفتح والله إن شاء الله، وإني لأرجو أن يستجيب الله لي، وأن يفتح علينا. فهزّ اللواء فتيسروا، ثم هزَّها الثانية، ثمّ هزَّها الثالثة، فحمَلْنا جميعاً كلّ قوم على مَن يليهم. وقال النعمان: إنْ أنا أُصِبت، فعلى النّاس حذيفة بن اليمان، فإنْ أُصِيب حذيفة؛ ففلان، فإنْ أُصِيب فلان ففلان حتى عدَّ سبعة آخرهم المغيرة بن شعبة.

(1) الحَسَك: ما يُعمل على مثال شوكة، أداة للحرب من حديد أو قصَب، فيُلقى حول العسكر، "القاموس المحيط".

ص: 70

قال أبي: فوالله ما علمْتُ من المسلمين أحداً يُحبُّ أن يرجع إلى أهله حتى يُقْتل أو يَظفَر. فَثَبتوا لنا، فلم نسمع إلَاّ وقْع الحديد على الحديد، حتى أصيب في المسلمين عصابة عظيمة. فلما رأوا صبرنا ورأونا لا نريد أن نرجع انهزموا، فجعل يقع الرجل فيقع عليه سبعة في قران، فُيقتلون جميعا، وجَعل يعقرهم حَسَكُ الحديد خلفهم. فقال النعمان: قدِّموا اللواء، فجعلنا نُقدّم اللواء فنقتلهم ونهزمهم.

فلمّا رأى النعمان قد استجاب الله له ورأى الفتح، جاءته نُشَّابَة (1) فأصابت خاصرته، فقتلته. فجاء أخوه معقل بن مُقَرِّن فسجى عليه ثوباً (2)، وأخذ اللواء، فتقدَّم ثمّ قال: تقدَّموا رحمكم الله، فجعلنا نتقدم فنهزمهم ونقتلهم، فلمَّا فرغنا واجتمع النّاس قالوا: أين الأمير؟ فقال معقل: هذا أميركم قد أقرَّ الله عينه بالفتح، وختَم له بالشهادة. فبايع الناس حذيفةَ بنَ اليمان.

قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة يدعو الله، وينتظر مثل صيحة الحبلى، فكتَب حذيفة إلى عمر بالفتح مع رجل من المسلمين، فلمّا قَدِم عليه قال: أبشِر يا أمير المؤمنين بفتحٍ أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله، وأذلَّ فيه الشرك وأهله. وقال: النعمان بعثك؟ قال: احتسبْ النعمان يا أمير المؤمنين، فبكى عمر واسترجع، فقال: ومن ويحك؟ قال: فلان وفلان -حتى عدّ ناساً- ثمّ قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم. فقال عمر رضوان الله عليه -وهو يبكي-: لا يضرهم أن لا يعرفهم عمر، لكن الله يعرفهم" (3).

(1) مفرد النُشَّاب، وهو النَّبْل.

(2)

أي: غطّاه بثوب.

(3)

أخرجه ابن جرير الطبري في التاريخ، وابن حبان والسياق له، وإسناده صحيح، وأصْلُه في البخاري (3159، 3160) وانظر للمزيد من الفوائد الحديثية "الصحيحة" برقم (2826).

ص: 71