الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تشييع المجاهدين ووداعُهم والدعاءُ لهم
يُسنّ تشييع المجاهدين في سبيل الله والغزاة، والدعاء لهم؛ وقد شيَّع النبيّ صلى الله عليه وسلم النفر الذين وجَّهَهم إلى كعب بن الأشرف؛ إلى بقيع الغرقد ودعا لهم.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثمّ وجّهَهُم، وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعِنْهم"(1).
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يستودع الجيش قال: "أستَودِع الله دينَك، وأمانتَك، وخواتيمَ عَمَلِك"(2).
وقال الإمام البخاري رحمه الله: (باب التوديع)(3): ثم ذكرَ حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "بعَثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَعْث فقال لنا: إنْ لقيتم فلاناً وفلاناً -لرجلين من قريش سمّاهما- فحرِّقوهما بالنار، قال ثمّ أتيناه نودِّعه حين أردنا الخروج، فقال: إنّي كنت أمرتكم أنْ تحرّقوا فلاناً وفلاناً بالنار، وإنّ النار لا يُعذِّب بها إلَاّ الله، فإنْ أخذتموهما فاقتلوهما"(4).
من هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد، واقتداء الصحابة به في المعارك واستبسالهم فيها
(5)
عن زياد بن جبير بن حية قال: "أخبرني أبي أنَ عمر بن الخطاب -رضي الله
(1) أخرجه أحمد وغيره، وحسنه شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(1191).
(2)
أخرجه أبو داود، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"، والحاكم، وصححه شيخنا رحمه الله في "الصحيحة" برقم (15).
(3)
انظر "صحيح البخاري"(كتاب الجهاد)(باب - 107).
(4)
أخرجه البخاري: 2954.
(5)
هذا العنوان من "السلسلة الصحيحة".
عنه- قال للهُرمُزان: أما إذ فُتَّنِي بنفسك فانصح لي، وذلك اّنه قال له: تكلَّم لا بأس، فأمَّنه، فقال الهُرمُزان: نعم؛ إنّ فارسَ اليوم رأس وجناحان. قال: فأين الرأس؟ قال: نهاوند مع بُنْدار، قال: فإنه معه أساورة كسرى وأهل أصفهان، قال: فأين الجناحان؟ فذكَر الهُرمُزان مكاناً نسيته، فقال الهُرمُزان: اقطع الجناحين توهن الرأس. فقال له عمر رضي الله عنه: كذبْتَ يا عدوَّ الله، بل أعمد إلى الرأس فيقطعه الله، فإذا قَطَعه الله عني انقطَع عنّي الجناحان.
فأراد عمر أنْ يسير إليه بنفسه، فقالوا: نُذكِّرك الله يا أمير المؤمنين أن تسير بنفسك إلى العجم، فإن أُصِبْت بها لم يكن للمسلمين نظامٌ (1)، ولكن ابعث الجنود.
قال: فَبَعث أهل المدينة وبَعَثَ فيهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وبَعَث المهاجرين والأنصار، وكتَب إلى أبي موسى الأشعري أنْ سِرْ بأهل البصرة، وكتَب إلى حذيفة بن اليمان أن سِرْ بأهل الكوفة حتى تجتمعوا بنهاوند جميعاً، فإذا اجتمعتم فأميركم النعمان بن مُقَرِّن المزني.
فلمّا اجتمعوا بنهاوند، أرسَل إليهم بُندارُ العلج (2) أنْ أرسِلوا إلينا يا معشر العرب رجلاً منكم نكلّمه، فاختار النّاس المغيرة بن شعبة، قال أبي: فكأني أنظر إليه: رجل طويل أشعر أعور، فأتاه، فلمّا رجع إلينا سألناه؟ فقال لنا: إنّي وجدْتُ العلج قد استشار أصحابه في أيّ شيء تأذنون لهذا العربي؟ أبشارتنا وبهجتنا وملكنا؟ أو نتقشف له فنزهده عما في أيدينا؟ فقالوا: بل نأذن له بأفضل ما يكون
(1) وهذا لاهتمامهم العظيم في تنظيم أمور الدولة: داخلها وخارجها.
(2)
العِلْج: الرجل من كُفّار العجم وغيرهم، والأعلاج جمعُه ويُجمع على علوج، "النّهاية".
من الشارة والعدة. فلمّا رأيتهم رأيت تلك الجراب (1) والدَّرَق (2) يلمع منها البصر، ورأيتهم قياماً على رأسه، فإذا هو على سريرٍ من ذهب، وعلى رأسه التاج، فمضيت كما أنا، ونكستُ رأسي لأقعد معه على السرير، فقال: فدُفعتُ ونُهرت، فقلت: إنّ الرسل لا يُفعَل بهم هذا. فقالوا لي: إنما أنت كلب، أتقعد مع الملِك؟! فقلتُ: لأنا أشرف في قومي مِن هذا فيكم.
قال: فانتهرني وقال: اجلس فجلست. فتُرجم لي قوله، فقال: يا معشر العرب، إنكم كنتم أطولَ النّاس جوعاً، وأعظمَ النّاس شقاءً، وأقذرَ النّاس قذراً، وأبعدَ النّاس داراً، وأبعدَه مِن كل خير، وما كان منَعَني أن آمر هذه الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب؛ إلَاّ تنجُّساً لجِيَفِكم لأنكم أرجاس، فإنْ تذهبوا نُخْلِ عنكم، وإنْ تأبوا نبوّئْكم مصارعَكم.
قال المغيرة: فحمْدتُ الله وأثْنَيت عليه وقلت: والله ما أخطأت من صِفَتِنا ونَعْتِنا شيئاً، إن كنا لأبعد النّاس داراً، وأشدّ النّاس جوعاً، وأعظم النّاس شقاءً، وأبعد النّاس من كل خير، حتى بَعَث الله إلينا رسولاً، فوعدَنا بالنصر في الدنيا، والجنّةِ في الآخرة، فلم نزل نتعرف مِن ربّنا -مذ جاءنا رسوله صلى الله عليه وسلم- الفلاح والنصر، حتى أتيناكم، وإنّا والله نرى لكم مُلكاً وعيشاً لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبداً، حتى نغلبَكم على ما في أيديكم، أو نُقتَل في أرضكم. فقال: أمّا الأعور فقد صدقَكم الذي في نفسه.
فقمتُ مِنْ عنده وقد والله أرعبت العِلْج جهدي، فأرسَل إلينا العِلج: إمّا أنْ تعبروا إلينا بنهاوند وإمّا أنْ نعبر إليكم. فقال النعمان: اعبروا فَعَبرنا. فقال أبي:
(1) الجراب: إناء مصنوع من الجِلد، يُحمل فيه الزّاد أثناء السفر "غريب الحديث" للحربي.
(2)
جمع الدَّرَقةَ: التُّرس من جِلد ليس فيه خشب ولا عَقَب.
فلم أر كاليوم قطّ، إنّ العلوج يجيئون كأنهم جبالُ الحديد، وقد تواثقوا أن لا يَفرّوا مِن العرب، وقد قُرِن بعضهم إلى بعض حتى كان سبعة في قران، وألقوا حَسَك (1) الحديد خلفهم، وقالوا: مَن فرَّ منّا عقَرَه حَسَكُ الحديد. فقال: المغيرة بن شعبة حين رأى كثرتهم: لم أر كاليوم قتيلاً، إن عدوّنا يتركون أن يتناموا، فلا يُعجلوا. أمَا والله لو أن الأمر إليَّ لقد أعجلتهم به.
قال: وكان النعمان رجلاً بكّاءَ، فقال: قد كان الله -جلّ وعزّ- يُشهِدك أمثالها فلا يحْزنك ولا يعيبك موقفك. وإني والله ما يمنعني أنْ أناجزهم إلاّ لشيء شهِدْته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا فلم يُقاتِل أول النهار لم يَعَجَل حتى تحضر الصلوات وتهب الأرواح ويطيب القتال.
ثمّ قال النعمان: اللهم إني أسألك أن تُقرَّ عيني بفتْحٍ يكون فيه عزُّ الإسلام وأهله، وذلُّ الكفر وأهلِه. ثمّ اختِمْ لي على أثر ذلكَ بالشهادة. ثمّ قال: أمِّنوا رَحِمكم الله. فأمّنّا وبكى فبكينا. فقال النعمان: إنّي هازٌّ لوائي فتيسّروا للسلاح، ثمّ هازُّها الثانية، فكونُوا متيسَّرين لقتال عدوكم بإزائكم، فإذا هززتها الثالثة؛ فليحمِل كل قوم على مَن يليهم مِن عدوِّهم على بركة الله.
قال: فلمّا حَضَرت الصلاة وهبَّت الأرواح كبّر وكبَّرنا. وقال: ريح الفتح والله إن شاء الله، وإني لأرجو أن يستجيب الله لي، وأن يفتح علينا. فهزّ اللواء فتيسروا، ثم هزَّها الثانية، ثمّ هزَّها الثالثة، فحمَلْنا جميعاً كلّ قوم على مَن يليهم. وقال النعمان: إنْ أنا أُصِبت، فعلى النّاس حذيفة بن اليمان، فإنْ أُصِيب حذيفة؛ ففلان، فإنْ أُصِيب فلان ففلان حتى عدَّ سبعة آخرهم المغيرة بن شعبة.
(1) الحَسَك: ما يُعمل على مثال شوكة، أداة للحرب من حديد أو قصَب، فيُلقى حول العسكر، "القاموس المحيط".
قال أبي: فوالله ما علمْتُ من المسلمين أحداً يُحبُّ أن يرجع إلى أهله حتى يُقْتل أو يَظفَر. فَثَبتوا لنا، فلم نسمع إلَاّ وقْع الحديد على الحديد، حتى أصيب في المسلمين عصابة عظيمة. فلما رأوا صبرنا ورأونا لا نريد أن نرجع انهزموا، فجعل يقع الرجل فيقع عليه سبعة في قران، فُيقتلون جميعا، وجَعل يعقرهم حَسَكُ الحديد خلفهم. فقال النعمان: قدِّموا اللواء، فجعلنا نُقدّم اللواء فنقتلهم ونهزمهم.
فلمّا رأى النعمان قد استجاب الله له ورأى الفتح، جاءته نُشَّابَة (1) فأصابت خاصرته، فقتلته. فجاء أخوه معقل بن مُقَرِّن فسجى عليه ثوباً (2)، وأخذ اللواء، فتقدَّم ثمّ قال: تقدَّموا رحمكم الله، فجعلنا نتقدم فنهزمهم ونقتلهم، فلمَّا فرغنا واجتمع النّاس قالوا: أين الأمير؟ فقال معقل: هذا أميركم قد أقرَّ الله عينه بالفتح، وختَم له بالشهادة. فبايع الناس حذيفةَ بنَ اليمان.
قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة يدعو الله، وينتظر مثل صيحة الحبلى، فكتَب حذيفة إلى عمر بالفتح مع رجل من المسلمين، فلمّا قَدِم عليه قال: أبشِر يا أمير المؤمنين بفتحٍ أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله، وأذلَّ فيه الشرك وأهله. وقال: النعمان بعثك؟ قال: احتسبْ النعمان يا أمير المؤمنين، فبكى عمر واسترجع، فقال: ومن ويحك؟ قال: فلان وفلان -حتى عدّ ناساً- ثمّ قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم. فقال عمر رضوان الله عليه -وهو يبكي-: لا يضرهم أن لا يعرفهم عمر، لكن الله يعرفهم" (3).
(1) مفرد النُشَّاب، وهو النَّبْل.
(2)
أي: غطّاه بثوب.
(3)
أخرجه ابن جرير الطبري في التاريخ، وابن حبان والسياق له، وإسناده صحيح، وأصْلُه في البخاري (3159، 3160) وانظر للمزيد من الفوائد الحديثية "الصحيحة" برقم (2826).