الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووعدَك، اللهم إنْ شئتَ لم تُعْبَد بعد اليوم، فأخَذ أبو بكرٍ بيده فقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك -وهو في الدرع (1) - فخرَج وهو يقول:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (2). وقال وُهَيب: حدّثنا خالد يوم بدر" (3).
كراهةُ تمنّي لقاءَ العدْوّ، والأمرُ بالصبر عند اللقاء
(4)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال: "لا تَتَمنَّوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبِروا"(5).
وجوب الثبات عند لقاء العدوّ ومتى يجوز الفرار
يَجِبُ ثبات المقاتلين عند لقاء العدوّ، لقول الله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً (6) فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (7).
وتقدّم حديث أبي هريرة رضي الله عنه "لا تتمنّوا لقاء العدوّ
…
".
ويحرُم الفِرار لقوله -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الذين كفروا
(1) الدرع: هي الزَّرَديّة وهي: قميص من حلقاتٍ من الحديد متشابكة، يُلبس وقاية من السلاح.
(2)
القمر:45 - 46.
(3)
أخرجه البخاري: 2915.
(4)
هذا العنوان من "صحيح مسلم"(كتاب الجهاد والسِّير)(باب - 6).
(5)
أخرجه البخاري: 3024، ومسلم:1742. وتقدّم.
(6)
أي تقاربتم منهم، ودنوتم إليهم.
(7)
الأنفال: 45.
زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (1)(2).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": "يقول -تعالى- مُتوعّداً على الفرار من الزحف بالنار لمن فعَل ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أي: تقاربتم منهم ودنوتم إليهم، {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} أي: تَفرّوا وتتركوا أصحابكم، {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} أي: يَفرّ بين يدي قِرْنِه (3) مكيدة؛ ليُريَه أنّه قد خاف منه فيتبعه، ثمّ يكرّ عليه فيقتله، فلا بأس عليه في ذلك، نصّ عليه سعيد بن جبير، والسدي.
وقال الضحاك: أن يتقدَّم عن أصحابه ليرى غرةً مِن العدو فيصيبُها.
{أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أي: فرَّ مِن هاهنا إلى فئةٍ أخرى مِن المسلمين، يُعاونهم ويعاونوه، فيجوز له ذلك، حتى ولو كان في سريةٍ ففرَّ إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم، دخَل في هذه الرخصة" انتهى.
وعن عمر رضي الله عنه قال: "لو أنّ أبا عبيدة تحيَّز إلي، لكنت له فئة، وكان أبو عبيدة في العراق"(4).
(1) الأنفال: 15، 16.
(2)
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: نَزَلت في يوم بدر {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} . أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(2648).
(3)
أي: مثلِه في الشجاعة والشدّة والقتال.
(4)
صححه شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(1205).
وفي لفظ عن سويد أنّه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه "يقول لمّا هُزم أبو عبيدة: لو أتوني كنت أنا فئتَهم"(1).
وقال الضحاك في قوله: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} المتحيز: الفارّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكذلك مَن فرّ إلى أميره وأصحابه.
فإمّا إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب؛ فإنّه حرام، وكبيرة من الكبائر (2).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات (3)، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقَتْل النفس التي حرّمَ الله إلاّ بالحقّ، وأكْلُ الربا، وأكْل مال اليتيم، والتَّولي يومَ الزَّحف، وقذْف المحصناتِ (4) المؤمنات الغافلات (5) "(6).
ويجوز الفرار مِن الثلاثة ولا يجوز من الاثنين:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إنْ فَرَّ رجلٌ من اثنين فقد فرّ، ومَن فرّ مِن ثلاثة لم يَفرّ"(7).
(1) أخرجه البيهقي، وصححه شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(1205).
(2)
انظر "تفسير ابن كثير".
(3)
الموبقات: المُهلِكات.
(4)
المحصنات: العفائف.
(5)
الغافلات: أي الغافلات عن الفواحش وما قُذفن به. "شرح النّووي".
(6)
أخرجه البخاري: 6857، ومسلم:89.
(7)
أخرجه البيهقي وغيره، وصححه شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(1206).
وهو وإنْ كان موقوفاً؛ فله حُكم المرفوع؛ بدليل القرآن وسبب النزول (1).
فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لمّا نَزَلَتْ هذه الآية: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (2).
فَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، فَقَالَ سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ: أَنْ لَا يَفِرَّ عِشْرُونَ مِنْ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ نزَلَتْ:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (3) فكَتَبَ أَنْ لَا يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ.
زَادَ سُفْيَانُ مَرَّةً نَزَلَتْ: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} (4) " (5).
وفي لفظ: "لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى المسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةِ، فَجَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ: فَلَمَّا خَفَّفَ اللهُ عَنْهُمْ مِنْ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنْ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ"(6).
(1) انظر الإرواء (1206) للمزيد من الفائدة.
(2)
الأنفال: 65.
(3)
الأنفال: 66.
(4)
الأنفال: 65.
(5)
أخرجه البخاري: 4652.
(6)
أخرجه البخاري: 4653.
وخلاصة القول: وجوب الثبات عند لقاء العدوّ، وعدم التولي مِن ميدان القتال، إلاّ إذا رأى أنّ الأفضل والأنفع؛ أن يفرّ ويكرّ، أو يفرّ مِن فئة إلى أخرى من المسلمين؛ يعاونهم ويعانوه ويقوِّي بعضهم بعضا، مع جواز فِرار الرجل من الثلاثة، وتحريم فِراره من الرجلين.
لأنه ربّما رجّح أنّه سيُقتل مِن غير فائدة مِن قِبَل الثلاثة، ففراره على التفصيل السابق، أو لأجل معركة أُخرى، وهو الأنفع، والله -تعالى- أعلم.
وجاء في "المغني"(10/ 553): "وإذا كان العدوّ أكثرَ من ضِعف المسلمين، فغلَبَ على ظنّ المسلمين الظَّفَر، فالأولى لهم الثبات؛ لما في ذلك من المصلحة.
وإنْ انصرفوا جاز؛ لأنّهم لا يأمنون العَطَب والحُكم عُلّق على مظنّته، وهو كونهم أقلَّ مِن نصف عددهم، ولذلك لَزمَهم الثبات؛ إذا كانوا أكثر من النصف، وإنْ غلَب على ظنّهم الهلاك فيه، ويحتمل أن يلزَمهم الثبات إنْ غلَب على ظنّهم الظَّفَر، لما فيه مِن المصلحة.
وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة، والنجاة في الانصراف؛ فالأولى لهم الانصراف، وإنْ ثبتوا جاز، لأنّ لهم غرضاً في الشهادة، ويجوز أن يغلبوا أيضاً.
وإنْ غلَب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف، فالأولى لهم الثبات، لينالوا درجة الشهداء المُقبِلين على القتال محُتسِبين، فيكونون أفضل مِن المولّين، ولأنه يجوز أن يَغلِبوا أيضاً، فإنّ الله -تعالى- يقول:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) ولذلك صبَر عاصم وأصحابُه، فقاتلوا
(1) البقرة: 249.