الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[زمن الأمر]
قال ابن مالك: (والأمر مستقبل أبدا).
ــ
التاء التي للغائبة والغائبتين والغائبات غير التاء التي للمخاطب؛ لأن هذه تدل على الخطاب، وتلك تدل على التأنيث عوضا من التاء الساكنة اللاحقة آخر الماضي؛ فهما إن اشتركتا لفظا فمدلولهما مختلف.
وتبين بهذا: أن التاء التي للمضارعة ثنتان: تاء خطاب وتاء تأنيث. وكذا يقال:
أنت تفعلين فالتاء لمحض الخطاب والتاء للتأنيث.
وأما الياء: فجعلت للغائب مطلقا، توفية للقسمة؛ لأن المتكلم خص بالهمزة، والمخاطب خص ببدل الواو، ولم يبق من حروف العلة إلا الياء، ولم يبق إلا الغائب فأعطيها.
ولما كان الفرق بين المفرد وضديه يحصل في المخاطب والغائب بالضمير، ولم يجعلوا في التكلم بين المفرد وضده ضميرا للفرق، أتي بالنون؛ لتدل على المتكلم غير المفرد (1)، وكانت النون أولى من غيرها؛ لما بينها وبين أحرف العلة من الشبه؛ لأنها تدغم في الياء والواو، وتبدل منها الألف، ولهذا أعربت الأمثلة الخمسة بها عند تعذر الحركات وتعذر أحرف العلة.
قال ناظر الجيش: لما تقرر أن الأفعال ثلاثة، وأن مدلول الفعل حدث وزمان، وأن الأزمنة ثلاثة، شرع المصنف في ذكر صيغة صيغة، وما وضعت له من الأزمنة، وما يجوز أن يتجوز فيه من تلك الصيغ بالقرائن، فيستعمل مرادا به زمان آخر وما لا يجوز فيه ذلك، والكلام على هذا الموضع يستدعي ذكر مقدمة وهي أن يقال:
الكلام نوعان: خبر وإنشاء: والطلب نوع من الإنشاء. ومنهم من جعله خبرا -
(1) معناه: أنك تقول في المخاطب: أنت تقرأ، وفي مثناه: تقرآن، وفي جمعه: تقرؤون، وفي الغائب:
هو يقرأ، ويقرآن، ويقرؤون، وفيه بدأت المضارع بالتاء للمخاطب مطلقا والياء للغائب كذلك، وجعلت الفرق بين المفرد وضديه بالضمير؛ فهو في الواحد واحد مستتر، وفي المثنى ألف وفي الجمع واو، أما في المتكلم وضده فأنت لا تلحق ضميرا للفرق وذلك لأنك تقول: أنا أقرأ ونحن نقرأ. فلما لم يكن ضمير في آخر المضارع يفرق، جعل الفرق في أوله؛ فكان المتكلم بالهمزة وجمعه بالنون.
وهو تعليل عقلي قاله النحاة. ترى هل لاحظت العرب ذلك وهي تنطق؟ ما أعجب النحاة!.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وطلبا. ومنهم من جعله ثلاثة أنواع: خبرا وطلبا وإنشاء وهو رأي المصنف وعليه قرر كلامه. ولسنا الآن بصدد تحرير الأقوال المذكورة وتبيين الصحيح منها؛ إذ الأمر في ذلك موكول إلى نظر غير صاحب هذا العلم (1).
غير أنّا نمشي مع المصنف هنا على رأيه.
أما الطلب (2)، فيلزم كون زمانه مستقبلا، وأما الخبر فيجوز كون زمانه حالا، ومستقبلا وماضيا، وأما الإنشاء فيلزم كون زمانه حالا.
ولكل من الطلب والخبر صيغة واحدة مختصة به وضعا، وأما الإنشاء فليس له صيغة مختصة به؛ بل يستعمل فيه الصيغة الدالة على الخبر بقرينة.
ثم إن كلّا من صيغتي الطلب والخبر إما أن ينقل عن موضعه الأصلي، فيراد بالطلب الخبر وبالخبر الطلب، وإما أن لا ينقل.
والذي ينقل: منه ما لا يجوز التجوز فيه بالنسبة إلى زمانه، ومنه ما يجوز أن يتجوز فيه بالنسبة [1/ 33] إلى
زمانه، فيراد به زمان غير زمانه المقصود بالوضع بقرينة، فإن حصل نقل صار الحكم في زمان الصيغة المنقولة حكم ما نقلت إليه.
فإذا استعملت صيغة الطلب في الخبر، صار الاستقبال جائزا بعد أن كان لازما.
وإذا استعملت صيغة الخبر في الطلب، انعكس الحكم؛ فيصير الاستقبال لازما بعد أن كان جائزا، وهذا القسم لم يتعرض له المصنف هنا؛ إذ ليس مقصوده، وقد تعرض لشيء من ذلك في باب التعجب، فقال بعد ذكره صيغة أفعل وأن معناها الخبر ما نصه:
«واستفيد الخبر من الأمر هنا وفي جواب الشرط، كما استفيد الأمر من مثبت الخبر، والنهي من منفيّه» (3). -
(1) قال الخطيب القزويني، في كتابه الإيضاح (ص 10): الكلام إما خبر أو إنشاء؛ لأنه إما أن يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه أو لا يكون لها خارج. الأول: الخبر، والثاني: الإنشاء، ثم تحدث عن الخبر وما يخصه. وفي حديثه عن الإنشاء قال (ص 78): «الإنشاء ضربان: طلب وغير طلب.
والطلب يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب؛ لامتناع تحصيل الحاصل. وهو المقصود بالنظر هنا.
وأنواعه كثيرة» ثم شرحها، فظهر من ذلك أنه جعل الإنشاء قسيما للخبر وهو المشهور.
(2)
في هامش نسخة (ب)، كتب قارئ عن البحث الآتي هذه العبارة: مطلب نفيس.
(3)
انظر تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد (ص 130).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأما القسم الثاني، وهو الذي لم تنقل فيه الصيغة عن موضوعها وإنما أريد بها زمان غير زمانها المقصود بالوضع فهو الذي قصده المصنف بالذكر هنا.
إذا تقرر هذا فاعلم أن صيغ الفعل الثلاث:
منها ما هو للطلب وهو الأمر، وما هو للخبر، وهو الماضي والمضارع.
فالأمر مستقبل الزمان، والماضي ماضي الزمان، والمضارع زمانه للحال والاستقبال بالوضع كما سيأتي:
فالأمر: لا يجوز التجوز فيه بتغيير زمانه، وإلى ذلك الإشارة بقول المصنف:
والأمر مستقبل أبدا، أي: وزمان مطلوب الأمر مستقبل أبدا.
وأما المضارع: فيجوز أن ينصرف زمانه إلى المضي وكذا الماضي يجوز أن ينصرف زمانه إلى الاستقبال. كل
ذلك بالقرائن (1).
والسبب في أن لزم الأمر الاستقبال ولم يلزم قسيميه (2) أحد الزمانين: أن معنى الطلب يفوت بمفارقة دلالة صيغته على الاستقبال، والأمر موضوع للطلب؛ فلا يجوز التجوز في زمانه؛ لئلا يفوت المقصود منه.
وأما معنى الخبر فلا يفوت بمفارقة دلالة صيغة الماضي على المضي، ولا بمفارقة دلالة صيغة المضارع على الحال والاستقبال. وكلاهما موضوع للخبر كما تقدم؛ فجاز التجوز في زمانيهما؛ لأنه لا يفوت المقصود منها بالدلالة عند تغيير الدلالة على ما وضعا له من الزمان.
وقال المصنف (3): «لما كان الأمر مطلوبا به حصول ما لم يحصل، كقوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ (4)، ودوام ما حصل كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (5) لزم كونه مستقبلا، وامتنع اقترانه بما يخرجه عن ذلك.
وأيضا فإنّ الفعل فعل بدلالته على الحدث والزمان المعيّن، وكونه أمرا (6) أو خبرا معنى -
(1) بمعنى أن يتغير الوضع؛ فيراد الاستقبال من الفعل الماضي الموضوع للزمن الماضي، ويراد الزمن الماضي من الفعل المضارع الموضوع للحال والاستقبال. وانظر أمثلة وأحوال انصراف المضارع إلى المضي، والماضي إلى الاستقبال في الصفحات القادمة من التحقيق.
(2)
أي الماضي والمضارع.
(3)
انظر: شرح التسهيل (1/ 17 - 18).
(4)
سورة المدثر: 2.
(5)
سورة الأحزاب: 1.
(6)
يقصد بالأمر هنا الطلب وهو أحد نوعي الإنشاء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
زائد على ذلك مطلوب بقاؤه؛ إذ لا يمتاز أحد النوعين على الآخر إلّا به. والاستقبال لازم للأمرية. فلو انتفى بتبدله انتفت الأمرية؛ بخلاف الخبرية المستفادة من الماضي والمضارع؛ فإنها لا تنتفي بتبدل المضي باستقبال ولا الاستقبال بمضي» انتهى وهو كلام جيد.
قال الشيخ (1) بعد نقله هذا الكلام: «قد وجدنا الفعل الدالّ على الخبر خرج عن الخبرية إلى غيرها كما قيل في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ (2)، وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ (3): إنه أمر في المعنى. فكذلك كان يكون الأمر يخرج عن الأمرية إلى معنى الخبرية. وقد خرج على ذلك قوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا (4) أي فيمد.
وقال الشاعر:
11 -
وكوني بالمكارم ذكّريني
…
[ودلّي دلّ ماجدة صناع](5)
أي تذكريني.
ومقتضى تعليل المصنف: أن كلّا من الأمر والخبر لا يخرج [1/ 34] عن بابه وقد بيّنّا خلاف ذلك. والرجوع في هذا إلى وضع العرب واستعمالها، فلو استعملت صيغة الأمر في الخبر الذي صيغته ليست مستقبلة تدل على ذلك، لساغ لها كما استعملت صيغة الخبر الماضي في غير الخبر، وغير زمانه. وذلك في الدعاء، نحو: غفر الله لي؛ فإنه خرج عن الخبر وعن الزمان الماضي بقرينة استعماله في الدعاء. فكذلك كان يسوغ استعمال صيغة الأمر في غير الخبر وفي غير زمانه وهو الاستقبال بقرينة تدلّ عليه» (6) انتهى. -
(1) انظر: التذييل والتكميل (1/ 80).
(2)
سورة البقرة: 228.
(3)
سورة البقرة: 233.
(4)
سورة مريم: 75.
(5)
البيت: من بحر الوافر قائله كما في معجم الشواهد بعض بني نهشل.
اللغة: دلي: بفتح الدال من باب ضرب وتعب، يقال: دلت المرأة دلّا ودلالا وتدللت إذا أظهرت المخالفة وليس بها خلاف. الصناع: بزنة كلام، يقال: امرأة صناع إذا كانت رقيقة اليدين. ومعنى البيت واضح.
ويستشهد به النحاة على وقوع الجملة الطلبية خبرا لكان شذوذا. وسيأتي البيت في باب كان.
واستشهد به أبو حيان هنا على أن الأمر قد يخرج عن الأمرية إلى معنى الخبرية، فمعنى ذكريني. أي:
تذكرينني وروي البيت برواية أخرى هكذا:
دعي ماذا علمت سأتقيه
…
وكوني بالمكارم ذكّريني
والبيت في التذييل والتكميل (1/ 80) وفي معجم الشواهد (ص 232).
(6)
انظر: التذييل والتكميل (1/ 80) ولم يتصرف الشارح في النقل إلا قليلا لتوضيح أو بيان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأقول: إن الذي ذكره المصنف لم يبطله الشيخ وإن الذي ذكره الشيخ لم يمنعه المصنف، وذلك أن الذي قاله المصنف:
«إنّ الاستقبال لازم للأمريّة؛ فما دامت موجودة فالاستقبال واجب، وإنّ الاستقبال غير لازم للخبريّة، وكذا
المضي؛ بل يجوز تبدّل كلّ منهما بالآخر».
وهذا حق لا يمكن إبطاله بوجه.
والذي ذكره الشيخ: أن كلّا من صيغتي الخبر والأمر يجوز أن يخرج عن موضوعه الأصلي إلى غير موضوعه وهو صحيح، والمصنف لم يمنعه؛ بل لم يتعرض في هذا الباب إلى ذلك أصلا.
والحاصل: أنهما قسمان، كما قررناه في الكلام المتقدم، وقد أدخل الأمر على الشيخ، فخلط أحد القسمين بالآخر، وظن أن كلام المصنف غير متجه، وقد بان لك أن الذي قرره المصنف لا شبهة فيه (1).
غير أنه يتجه على المصنف مؤاخذة. وهي كونه ذكر في هذا الفصل أن الماضي ينصرف إلى الحالي بالإنشاء، كبعت، وإلى الاستقبال بالطلب، كغفر الله لزيد (2)؛ لأن مقتضى تقريره المتقدم (3) لا يورد هنا إلا ما كان فيه معنى الخبر باقيا، وإنما تغير زمانه فقط. أما ما نقل عن موضوعه الأصلي إلى غيره، فلا.
ولا شك أن الإنشاء والطلب المدلول عليهما بالماضي، صارفان لصيغته عن ما وضعت له؛ لأنه موضوع للخبر، وهما قسيماه، فلا يناسب ذكرهما مع القرائن الصارفة للزمان دون معنى الخبر.
وأما قوله في المضارع (4): إنه يتخلص للاستقبال باقتضائه طلبا، فهو وإن كان الاستقبال -
(1) كل من الإمامين نظر إلى الموضوع من ناحية، فاختلفت وجهة النظر عندهما:
فابن مالك: نظر إلى أن زمن الاستقبال مستفاد من الأمر حتما، ومن المضارع جوازا، وزمن الماضي مستفاد من الماضي.
وأبو حيان: نظر إلى الخبر والطلب المستفادين من الأفعال كلها، إما لفظا ومعنى وإما معنى فقط.
(2)
انظر (ص 5) من تسهيل الفوائد، وانظر الصفحات القادمة في هذا الموضوع.
(3)
وهو أن الاستقبال لازم للأمرية ويزول بزوالها، والخبرية لازمة للماضي والمضارع. ولا تزول بتبديل هذا مكان ذاك.
(4)
انظر (ص 5) من تسهيل الفوائد، والصفحات القادمة أيضا في هذا الموضوع.