الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
القرآن الكريم هو معجزة الخلود، بل هو المعجزة الفريدة التي لم يُعرف لها
مثيل، وهو معجزة خالدة فريدة لأنه لم يتقيد بما قُيدت به غيره من المعجزات، من ظهورها في لحظة معينة تتاح خلالها مشاهدتها لمعاصريها فتؤدى وظيفتها
فيهم بما تحمل من الخوارق وتعيها - بعد - الذاكرة، ويظل سلطانها قوياً على النفوس ما دام مَن شاهدوها أحياء صالحين لتحملها وروايتها لن لم يحظ بتلك المشاهدة من الأجيال. أمناء في نقلها وصدق الإحساس بعظمة مدلولها: صدقاً يبدو من جدية الحديث، أو استقامة السلوك، أو رهبة الوقف وجلال الأثر.
فإذا لبثت المعجزة عمراً ذهب خلاله مَن كان حياً من مشاهديها. وأغمض
الموت أعيناً كانت قد شاهدتها. وفَنِىَ مَنْ فَنِىَ ممن سمعوها عنهم مشافهة
فإنها حينئذ تصبح واقعة من وقائع التاريخ، لا ينكَرها مَن آمن بمصدرها لأنه
يثبت له قدرة ليست ذات حدود. أما لدد الخصوم، فإن لهم جرأة حمقاء تحملهم على إنكارها ونفيها، ما دامت لم تقع تحت حاسة يمكن عن طريقها إدراكها وفحصها.
فقد فلق موسى عليه السلام البحر بعصاه - هذا حق - وقد أحيا عيسى عليه السلام الميت بإذن ربه - وهذا حق كذلك - ولكن كم من المعاندين رفضوا كل ذلك، وغير ذلك مما تقدم عليه في الرسالات السابقة.
وهم لا يعدمون شُبهة يتمسكون بها، لأنهم لو ذهبوا إلى البحر الذي فلقه موسى عليه السلام لوجدوه
ملتئماً. ولأن مَن أحياه عيسى عليه السلام بإذن ربه، قد مات مرة أخرى.
وحتى معجزات الإسلام غير القرآن - كالإسراء والمعراج - لهم في رفضها شُبَه وأحاييل.
* * *
أما القرآن الكريم فإنه معجزة خالدة لأنها مستمرة لا تنقطع، مشرقة لا تغرب
وإن غربت الشمس، لامعة لا تأفل وإن أفلت النجوم.
باقية لا تذهب وإن ذهب الكون. ليس من سبيل لإنكارها: لأنها مرئية بالبصر، ومسموعة بالأذن، وملموسة باليد. وتلك روافد هذه المعجزة إلى الإحساس المفضي بالتسليم والإذعان، المؤدي إلى التصديق والإيمان، المقنع للعقول والممتع للعواطف.
ومن هنا كان اهتمام العلماء والدارسين في كل عصر ومصر بالقرآن الكريم،
حفظاً ودراسة، وبحثاً واستنتاجاً. فللفقهاء والأصوليين والشرعين فيه أهداف، ولهم إليها طريقة ومنهج، وللفلاسفة والمتكلمين فيه أهداف، ولهم إليها طريقة ومنهج، وللغويين فيه أهداف، ولهم إليها - كذلك - شِرعة ووسيلة.
وللبيانيين فيه أهداف، ولهم إليها طريقة ومنهج، ولغير هؤلاء من طلاب العلم والدرس أهداف ومناهج. وعلى كثرة ما كتبه الكاتبون حول القرآن، ويخصنا هنا الجانب البياني، فإن القرآن ما زال - وسيظل - جديداً فيه لكل دارس مجال، ولكل باحث مقال.
ولما كان القرآن هو معجزة الإسلام. وإعجازه - في المختار - راجع إلى بيانه
وأدبه، وبلاغته وفصاحته، وأسلوبه ونظمه. فإن الحاجة في هذا العصر الذى
يتسم بالتنكر لحقائق الإيمان، والتمرد على سلطان الدين - تصبح ماسة إلى
ما يساعد على جلاء تلك المعجزة، وتقريبها إلى الأفهام.
ومن هنا كان اختياري لهذا الموضوع " خصائص التعبير في القرآن
الكريم وسماته البلاغية ".
على أن يكون خطوة على الطريق.
وتجرية قابلة للتوجيه والتقويم. وبدهي أننى لم أبدأ من فراغ، ولذلك فإننى استفدتُ
كثيراً من كتابات السابقين قدماء ومحدَثين. كما أننى أفرغت ما أملك من جهد، واستنفدت ما أجد من طاقة في التأمل والنظر في ما درستُ من نصوص قرآنية لم أجد لسابق فيها توجيهاً، أو وجدتُ ولكن لم يبلغ مرحلة الإقناع.
وإن كان هناك فَرق بين هذا البحث المتواضع، وبين ما سبقه من بحوث.
فإنه يهتم بالناحية الموضوعية غالباً. ولم يكتف بمجر التمثيل على فن بلاغى،
أو ملحظ بياني كما صنع جُلة الكاتبين إلا ندرة منهم، ويهتم هذا البحث كذلك بتتبع الظاهرة البيانية في القرآن مع سوق الدليل عليها، ولم يكتف بمجرد التعميم والوصف دون لفت النظر إلى الحقيقة المدروسة وتحديدها وإقامة الدليل عليها.
وكثير من الكاتبين يهملون هذا الجانب كالقاضي أبى بكر الباقلاني من
القدماء في كتابه " إعجاز القرآن "، وكمصطفى صادق الرافعي من المحدَثين
فى كتابه " إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ".
ومن أبرز ما يهتم به هذا البحث الاعتماد على القرآن نفسه في استنتاج
ما أمكن استنتاجه. بالنظر في طرق الصياغة، وبالرجوع إلى أسباب النزول،
وبالوقوف على السابق واللاحق نزولاً، وبالتفريق بين ما هو مكى وما هو مدنى، وبقرائن الأحوال ومقتضيات المقامات، ثم بالرجوع إلى الدلالات اللغوية لألفاظه من حيث اللغة في نفسها، ومن حيث وجودها في سياق معيَّن.
وسيرى القارئ أن هذا الطابع هو الغالب على وسيلة الدرس في هذا البحث في كثير من موضوعاته.
* *
ولعلك تسأل الآن عن الخُطة التي اتبعت في هذا العمل. وأنا أستأذنك
لأختلس من وقتك قليلاً في بيان تلك الخُطة، وهي في إيجاز جاءت على
الصورة الآتية:
الباب الأول: مدخل إلى البحث. وتحته فصلان.
الأول: وظيفة التعبير اللغوي وتطورها.
وقد درستُ فيه كثيراً من المسائل كتعريف التعبير اللغوي
والحاجة الداعية إليه، وأنواعه وخصائصه ومراحل تكوينه وعناصره وفائدته.
وانتهيتُ من هذا كله إلى أن اللغة لم تقف عند الجانب النقلى للأفكار من متكلم إلى سامع. بل لها وظيفة جمالية إمتاعية غير وظيفتها العملية النفعية. تبرز أولاهما في لغة الآداب والفنون الرفيعة وتكون اللغة - حينئذ - في أسمى
مظاهرها.
وقد تأتى وظيفة اللغة في غير هاتين فلا يُراد بها النقل ولا الإمتاع.
كما في عبارات الترويح عن النفس، وعبارات التحية والتأسف، وكما فى
" المنولوج ".
وكان هدفى من هذا الفصل معرفة ما به تسمو وظيفة اللغة. ومنها الوجوه
البلاغية التي هي محور الدراسة في هذا البحث.
لذلك جاء الفصل الثاني من المدخل: الوجوه البلاغية وقيمتها في جمال
التعبير.
وأوجزتُ فيه القول عن البلاغة الفنية في عصورها الأولى - الجاهلى
والإسلامى والأموى والعباسي - وأبنتُ كيف نشأت توأماً مع النقد توجهه
وتعضده. وبينت دور النقد في تكوين الملاحظات البلاغية حتى انفصلا فى
كتاب " البديع " لابن المعتز، وأبنتُ قيمة هذا الكتاب.
كما تعرضتُ لجهود بعض البلاغيين من بعده كقدامة بن جعفر وأبى هلال العسكرى وابن طباطبا؛ لأضرب مثلاً بأصالة البلاغة في النقد والتوجيه. كما ذكرتُ دور البلاغة العربية فى قضايا النقد الكبرى ومنها الصراع بين القديم والجديد، والطبع والصنعة.
ومنها نقد الموازنات بين نصَّين اتحدا موضوعاً واختلفا شكلاً.
ومنها قضية الإعجاز التي شغلت العلماء على مختلف مناهجهم ومشاربهم. كما كان لها دور كبير في قضية اللفظ والمعنى.
كما أوضحتُ دور البلاغة في التشريع للعمل الأدبى لفظاً ومعنى.
وكان هدفى من ذلك أن بلاغتنا العربية ذات شأن عظيم في توجيه الأدب ونقده، وأن مراعاتها تسمو بالأسلوب حتى لا تكون هناك درجة يمكن أن يقصر دونها، فلا وجه إذن للطعن فيها والنقليل من شأنها، ثم تتويج ذلك كله بإشارة القرآن الكريم إلى فضل القول البليغ، ممثلة في إحدى آيه الكريمة.
كان ذلك هو دور المدخل. . أما موضوع البحث فقد جاء في أربعة أبواب
وثلاثة عشر فصلاً. الباب الأول - هو الباب الثاني من جملة البحث - ترجمت له بـ: " خصائص التعبير في القرآن الكريم ".
وتحته أربعة فصول:
الفصل الأول: في الإعجاز التشريعي والعلمي. ورددتُ في مطلع هذا
الفصل على شُبهة الصرفة. . بينتُ المراد منها وفندتها تفنيداً لا يُبقى لها على
أثر.
كما تعرضتُ لقضية المعارضات، ولم أنسق مع القائلين بنفيها أساساً،
وخلصتُ من ذلك إلى أن التسليم بوجود المعارضات يخدم قضية الإعجاز.
أما الإعجاز التشريعي والعلمي. . فلم أذكرهما على أنهما من الإعجاز
المقصود بالتحدى، فهما وإن كان فيهما إعجاز فليسا بمرادين للهِ حين تحدى
العرب بالقرآن. واتخذت من ذلك وسيلة للحديث عن الإعجاز البياني الأدبي.
وكان ذلك هو موضوع الفصل الثاني. وقد عرضتُ فيه آراء مَن وضعوا فى
الإعجاز مؤلفات قديماً وحديثاً، مناقشاً لكل رأى موافقاً ومخالفاً. فمن
الأقدمين عرضتُ آراء الواسطى والخطابى والرماني والباقلاني وعبد القاهر
الجرجانى. . . ومن المحدَثين عرضتُ آراء الرافعي ودراز والزرقانى وعبد الكريم الخطيب وأبى زهرة وبنت الشاطئ. ثم اتبعتُ ذلك بآراء منثورة في الإعجاز للقدماء والمحدَثين وخلصتُ في النهاية إلى أن الإعجاز المقصود للهِ - سبحانه - إنما هو الإعجاز البياني الأدبي بما تحمل هاتان الكلمتان من بيان وأدب.
وفي كل ذلك لم أترك رأياً إلا ناقشته نقاشاً موضوعيأ هادفاً ذاكراً لكل ذى فضل فضله.
والفصل الثالث سميته " خصائص يغلب عليها جانب الألفاظ ".
ودرستُ فيه خمس خصائص: فواتح السور - الفواصل - اللفظ القرآني -
النغم الصوتى - التكرار.
ففى مجال الفواتح كانت الخلاصة أن ذلك إشارة
واضحة للإعجاز البياني الأدبي. وفي مجال الفواصل هُديتُ للفروق بين فواصل الآي الطويلة وفواصل الآي القصيرة، ولم أر أحداً تنبه إلى هذه الفروق، وفى مجال اللفظ فإن ظاهرة الترادف تكاد تكون معدومة في لغة القرآن فلكل لفظ موضع ودلالة.
والقرآن يدعو إلى اختيار الألفاظ في آيتين من آياته ذكرناهما مع التوجيه.
وفي مجال النغم الصوتى فإن القرآن يمتاز بخاصة صوتية فريدة
كفلتها حروفه، وحركاته وسكناته، وجمله وأسلوبه - سواء المرسل منه
والمسجوع - ومع هذا فإن القرآن ليس فيه موضع واحد يُصار فيه إلى حلية
اللفظ أو الصوت دون أن يكون هناك معنى اقتضى هذا العمل. فهما
متعانقان. لذلك ترى طائفة من الآيات مقسمة إلى مجموعات، كل مجموعة
تنتهى بفاصلة متحدة، ثم تأتى آية فاصلتها مختلفة عما قبلها وعما بعدها مع
اتحاد فواصل ما بعدها وذلك كالآيات: (قُتلَ الإنسَانُ مَا أكْفَرَهُ)
إلى آخر سورة عبس. فإن آية: (فَليَنظرِ الإَنسَانُ إلى طعَامه) تفصل
ما قبلها عما بعدها وفاصلتها في نفسها مختلفة عن جاراته.
وذلك لأنها رأس موضوع جديد مؤذنة به مشروحاً فيما تلاها.
أما من حيث التكرار فقد أثبتُ بالدليل أن ما جاء في القرآن مكرراً إنما هو صنع حكيم.
وسردتُ أمثلة موجهة من تكرار الأداة، أو الكلمة، كما تعرضتُ للتكرار في القصة واخترتُ نموذجاً لذلك قصة آدم عليه السلام. ذكرتُ كل نصوصها في القرآن، ودرستها دراسة مقارنة أحسبها فريدة فيما يبدو. وبينت عناصر القصة في كل نص. ثم جمعتُ العناصر
المشتركة في كل النصوص وتحدثتُ عنها.
ثم العناصر المشتركة في مجموعة دون أخرى
وتحدثتُ عنها كذلك. ثم الملامح الخاصة بكل نص. وكانت النتيجة أن سياق كل نص قد اقتضاه، وأنه ما من نص منها إلا اشتمل على جديد لم يرد فى غيره ولو كان هذا النص آية واحدة كما في آية الكهف وبذلك بان للباحث نفى الفضول عما ورد في القرآن مكرراً. بل هو سر من أسرار إعجازه.
والفصل الرابع. ترجمت له بـ " خصائص يغلب عليها جانب المعاني ".
ودرستُ فيه كذلك خمس خصائص: ثراء معاني القرآن - دقة النظم - اختلاف الأغراض - الإقناع والإمتاع - التصوير والتشخيص.
ففى مجال ثراء المعاني أوضحتُ أن القرآن قد يستعمل اللفظ الواحد في ما
يقرب من عشرين معنى كلفظي: " الهدى " و " السوء "، وقد يوضع اللفظ
الواحد ويراد به معان متعددة دون تعدد اللفظ ككلمة " حساب " في قوله
تعالى: (يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، وأوضحت أن تلك المعاني
المرادة لا تتنافى مع طبيعة اللغة ولا مع مقاصد الشرع، فهى إذن فضيلة بيانية
مطلوبة. كما بينتُ دور القراءات وجمل القرآن في ثراء معانيه وتعدد جهات
فهمه، وفي مجال دقة النظم ذكرتُ بعض ما قاله العلماء قدماء ومعاصرين،
وخطوتُ بمثال عندهم خطوة أخرى إلى الأمام.
وهو آية المحرمات من النساء وهى آية لا مجال في مثلها للإبداع المجازى وغيره، ومع هذا فقد اشتملت على أسرار آسرة، كما حللت سورة الغاشية تحليلاً شاملاً بيَّنتُ فيه جهات الترابط الوثيق بين معاني تلك السورة. كما قمتُ بعمل جديد هو البحث عن العلاقة بين سورة وبين جارتيها في المصحف وبين جارتيها في النزول، تلك السورة هى " الكوثر "، وقد أسفرت التجربة عن وجود روابط قوية بين السورة وما تقدم
عليها وما تأخر عنها في المصحف،: ما تقدم وما تأخر عنها في النزول، وبذلك تبدو وحدة النسج بين سور القرآن وكلماته على أي وجه طُلِبت تلك الوحدة.
وفى مجال اختلاف الأغراض فإن القرآن يمزج المقاصد مزجاً قوياً مؤلفاً بينها
برباط آسر، ولم يقتضب في موضع فيه القول اقتضاباً، ولا حُجة لمن قال بهذا
كالعز بن عبد السلام، والغانمي. وقد أثبتُ في ما ذكرتُ من نصوص قوة الربط بين جمل وفقرات القرآن كما وضح في الخاصة السابقة. كما ذكرتُ العِلَّة فى هذا الصنع الحكيم من تيسير القرآن للعظة والانتفاع. والهداية والتوجيه.
وفى مجال الإقناع والإمتاع فإن القرآن يخاطب العقل ويمتع العاطفة في أسلوب واحد ومقام واحد، جامعاً بين مقصدين يعزان على طالبهما، ولو كان ذلك في تقرير حقيقة كونية، أو بيان حكم شرعى.
فليس هناك موضع فيه مطلوب من ورائه
موقف تأثيرى عند السامعين - أمراً أو نهياً - إلا تجد القرآن يخاطب به كل
حاسة مدركة من حواس الإنسان: العقل والعاطفة، والنفس والوجدان.
وقد بينتُ هذه الطريقة في كثير من المقاصد القرآنية كالتشريع والجدل. .
وخاصة في قضيتي التوحيد والبعث.
أما التصوير والتشخيص فإن القرآن فيها يمنح الجمادات حياة والمعدوم
وجوداً: فالليل يعسعس، والصبح يتنفس، والدعاء له طول وعرض. .
إلى آخر هذه الصورة الخلابة. وتلك سمة بارزة في أسلوب القرآن وظيفتها التوضيح والبيان، كما لا تخلو من الإمتاع والإقناع، إذ الفصل بين هذه السمات أو الخصائص إنما هو نسبى، وحقيقة التعبير القرآن أنه مَجْمَع أشعة يأتيك من كل ناحية أبصرته منها شعاع وضياء.
والباب الثالث. . وقفته على دراسة بعض فروع علم المعاني في القرآن
الكريم، وتحته ثلاثة فصول.
الأول: من أسرار الحذف، وتتبعتُ فيه مظاهر الحذف المختلفة من حذف الحرف، إلى حذف الكلمة سواء أكانت مبتدأ أو خبراً،
أو مفعولاً أو فاعلاً، أو موصوفاً أو صفة، أو حالاً أو تمييزاً:
ذكرتُ ضابطاً جديداً لحذف الحرف في القرآن كأن يُحذف ويبقى أثره.
أو يُعتبر الحرف محذوفاً لوروده في موضع مماثل
مذكوراً، وأثبتُ سر ذلك كله.
كما تحدثتُ عن حذف الجملة وحذف الفقرات، وأثبتُ بالدليل أن الحذف فيه يؤدى إلى فخامة العبارة
ولا يؤدى إلى الغموض. وأنه أبلغ من الذكر في موضعه، ولم يُصَر إليه لهدف
بلاغى أصيل. كما أثبتُ أن الحذف في الفقرات يحكمه إما ترتيب زمني بين
المذكور والمحذوف وإما ترابط طبيعى بينهما. فهو إذن بلاغة آسرة، وليس
تعسفاً وجرأة معيبة، وفضلاً عن بيان أسرار الحذف تحدثتُ عن منهج البلاغيين فيه، وبيَّنتُ اهتمامهم ببعض المواضع دون بعض، كما تحدثتُ عن طريقة ابن الأثير. ورددتُ - بالدليل - أن يكون مجرد الاختصار
أو رعاية الفاصلة وحدهما سبباً في حذف ما يُحذف، وخرَّجت مواضع أرجعوا الحذف فيها إليهما على غير الوجه الذي ذكروه، مما ظننته أولى من صنعهم. كحذف المفعول فى قوله تعالى:(أهَذَا الذي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)، وكحذفه أيضاً فى قوله تعالى:(أرِني أنَظرْ إليْكَ) .
كما ذكرتُ قانون الحذف الذي نصَّ عليه السيوطي في كتاب له نُشر لأول
مرة، وناقشتُ هذا القانون وذكرتُ في النهاية أن الحذف في القرآن
يخضع لسمتين بارزتين. .
أولاهما: دليل قوى يدل على المحذوف. بل ويعينه - أحياناً -
وثانيتهما: داع بلاغى اقتضى ذلك الحذف.
وبهذا كان الحذف فى القرآن في جميع مظاهره ومواضعه - بلاغة - فَخُمَ معه المعنى وحَسُنَ اللفظ.
وكم من الإبهام والغموض نتج عن الحذف خارج دائرة القرآن.
وضريتُ لذلك أمثلة مع شهادة النقاد أنفسهم.
والفصل الثاني. . درستُ فيه التقديم في القرآن من خلال أربعة مناهج:
منهج البلاغيين، ومنهج شمس الدين بن الصائغ الحنفى، ومنهج ابن الأثير.
ثم منهج المفسرين ممثلاً في كشاف الزمخشري وتفسير أبى السعود. وناقشتُ
كل منهج على حدة مبيناً محاسن كل، ومشيراً إلى القصور إن وجدا وعقدت مقارنة بين
منهجي البلاغيين وابن الصائغ ذاكراً الفروق بينهما، مسجلاً لكل ذى فضل
فضله، وبيَّنتُ نواحى القصور في كل منهما. وكذلك بيَّنتُ غلو ابن الأثير
- أحياناً - في تفسيره لأسرار التقديم على غير المقبول مع أن النصوص التى
ذكرها لا اختلاف بينها يؤذن باختلاف توجيهها بلاغياً.
أما الفصل الثالث. . فقد درستُ فيه نوعاً جديداً من التقديم أطلقتُ عليه:
التقديم غير الاصطلاحى، أو: اختلاف النظم في العبارات ذات المدلول الواحد.
وقد عرَّفته وذكرتُ الفَرق بينه وبين التقديم الاصطلاحى. الذي عنى به البلاغيون عناية فائقة. كما نبهتُ في مطلع هذا الفصل على نوع ثالث من التقديم اهتم به المفسرون وابن الصائغ.
والتقديم غير الاصطلاحى سمة خاصة بأسلوب القرآن، وقد جمعتُ من أمثلته
عشرين نصاً اختلفت الصياغة في كل نصين متقابلين منها أو أكثر، واتحد
أصل المعنى. مثل: (قُلْ إن هُدَى الله هُوَ الهُدَى) مع قوله تعالى:
(قُلْ إن الهُدَى هُدَى الله) .، حيث قدم " هُدَى الله " في الأولى
واختلف الوضع في الآية الثانيةَ فقدم " الهدى " على " هُدَى الله ".
هذا النوع من التقديم لم يهتم به أحد، لا البلاغيون، ولا المفسرون.
اللهم إلا ندرة يسيرة من التوجيهات، يغلب عليها طابع التعميم قال بها جماعة من العلماء والمفسِّرين، وهي لا تُفسِّر الظاهرة ولا تقنع الباحث.
وقد أفرغتُ جهدي فى هذا الفصل مستعيناً بإطالة النظر والتأمل.
معتمداً على أسباب النزول والسابق واللاحق وأحوال البيئتين المكية والمدنية. وقد انتهيتُ من هذا كله إلى نتائج أطمع أن أُوافَق عليها.
وحسبى أنها تجرية، خاضعة للتوجيه والأخذ والرد.
على أني بعد الفراغ من توجيه تلك المواضع العشرين عثرتُ على كتاب
للخطيب الإسكافى عرَّفت به في موضعه.
وفي هذا الكتاب حديث عن بعض
تلك النصوص المتقابلة، وعند الوقوف على آرائه فيها لم أغير مما كنتُ قد
هداني النظر إليه، واكتفيتُ بذكر رأيه في نهاية حديثى عن كل موضوع وجدت له فيه تعليلاً، كما نبهتُ إلى إغفاله بعض الموضوعات التي درستها. وهذا الفصل أحسبه من الجديد الذي جاء به هذا البحث.
أما الباب الرابع. . فقد جعلته: سحر البيان في القرآن الكريم.
وجاء فى ثلاثة فصول. .
الفصل الأول: درستُ فيه التشبيه والتمثيل دراسة تقرب من الاستقصاء
وقسَّمتُ فيه التشبيه والتمثيل إلى مجموعات:
المجموعة الأولى: في شأن الكافرين وتحتها أربعة فروع: ضلال المعتقد -
ضعف المعتقد - بطلان الأعمال - سوء المصير.
والمجموعة الثانية: في شأن المؤمنين. وتحت هذه المجموعة غرضان رئيسيان
تحت كل منهما صور مختلفة وهما:
الترغيب: سواء أكان في عقيدة، أو سلوك، أو حسن مصير.
والثاني - الترهيب: سواء أكان من عقيدة، أو سلوك، أو سوء مصير.
والمجموعة الثالثة: في مظاهر القُدرة الإلهية.
والرابعة: باقة من الزهور. درستُ فيها نصوصاً كثيرة
وفي كل هذه لم آل جهداً في بيان قيمة التشبيه والتمثيل في القرآن،
والصور الأدبية التي تشع منها متحدثاً عن خصائص كل مجموعة منها يجمعها
غرض واحد، مبيناً دور التشبيه والتمثيل القرآني بيانياً ودينياً.
وقد أتبعتُ هذا كله بحصر لما رأيته من خصائص التشبيه والتمثيل القرآني ونبَّهتُ في أثناء الدراسة إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها بعض المعاصرين داعماً ما ذهبتُ إليه بالدليل.
على أن من أهم مباحث هذا الفصل، وهو مما أطمع أن يكون جديداً كذلك هو نوع من التشبيه لا وجود له خارج القرآن، وقد سميته: التشبيه السلبي،
وذكرتُ نصوصه وعرَّفته وبيَّنتُ لماذا كان هذا النوع من أخص خصائص القرآن.
ووجَّهتُ ذلك توجيهاً مستمداً من طبيعة الظاهرة نفسها.
وفصل التشبيه بعامة أرجو أن أكون وُفًقتُ في دراسته على نفس الصورة التي ورد عليها، والتي أظن أنها يمكن أن تأخذ بعض ملامح الجديد.
والفصلان الثاني والثالث. . درستُ فيهما المجاز القرآني في صوره المختلفة
مع التركيز على الاستعارة - وإنما جعلتهما فصلين؛ لأن الثاني درستُ فيه المجاز من خلال نص " مختار " من سورة البقرة، والثالث درستُ فيه المجاز من خلال نص " مختار " من سورة الأعراف.
ومنهج البحث في الفصلين واحد حيث درستُ الكلمة المستعملة مجازاً فيهما في كل صورها في القرآن، وبعد جمع تلك الصور قمت بالنظر فيها لأوجه مجازها ثم أتبع كل مادة درستها بما لاحظته على استعمالها في القرآن.
وقد درستُ في هذين النصين مواد متعددة على سبيل الاستقراء التام لمواضعها في القرآن - فيما عدا مادتين اكتفيتُ ببعض
أمثلتهما لورودهما كثيراً كثرة يصعب معها ذكر كل نصوصهما في بحث كهذا.
على أن ما ذكرته منها كاف لإيضاح منهج القرآن فيهما، وهما:
" تبع "، و " أخذ ".
ومن أهم النتائج التي أسفرت عنها الدراسة في هذين الفصلين أن القرآن
الكريم يستخدم كل مادة على منهج معيَّن، ولاعتبارات دقيقة.
ثم يلتزم هذا المنهج في جميع صور المادة، وذلك الالتزام يكون في المجاز - مثلاً - أو المدح، أو الذم، أو غير هذه جميعاً فمثلاً: مادة " ذاق ".
لم ترد في القرآن إلا مجازاً استعارياً، ولم ترد - كذلك - إلا في مواضع المخالفة والمؤاخذة.
مثل: (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) .
ومادة " ختم " يستخدمها القرآن إذا كانت " فعلاً " في مواضع الذم
والتهديد، وإذا كانت " اسماً " يستخدمها في مقام المدح والترغيب.
الأول مثل: (نَخْتمُ عَلى أفْوَاههمْ)، والثاني مثل:(رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ) .
ومادة " مرض " يستخدمها " فعلاً " استخداماً مجازياً استعارياً،
وتختص حينئذ بمواضع الذم إلا في موضع واحد وردت فيه - فعلاً - محتملة
للحقيقة والمجاز وذلك هو قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:
(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) . .
أما إذا كانت " اسماً مفرداً " أو " مثنى " أو "مجموعاً " فإنه يستخدمها استخداماً " حقيقياً " لا مجازياً وتختص حينئذ بمواضع التشريع، وهكذا تجد كل مادة في القرآن لها قاعدة وقانون.
وهذا شجعنى على أن أقترح أن نسمى هذا
المنهج البياني الآسر ب " منهج الالتزام "
وقد أشرقت بوادر هذه النظرية عند دراستنا لألفاظ القرآن في الباب السابق
. وستطالعك في غضون البحث عنوانات ربما بدت غريبة في أول الأمر مثل:
" الأب ليس والداً - النعمة ليست نعيماً - المرأة ليست زوجاً ".
وسوف تزول تلك الغرابة عندما نقف على النصرص القرآنية التي نُسلِّم من
تأملها بصحة تلك العنوانات وغيرها مما لم نذكره هنا.
لتلك الاعتبارات - جميعاً - فإنى أطمع في اتفاقك معي على
" نظرية الالتزام " فإن شرفتُ بذلك، فتلك مِنَّة من الله.
وقد أثبتُ - بعد - ما بانَ لي من خصائص المجاز القرآني، وسماته التى
تميزه من أساليب الناس.
أما الباب الخامس. . فقد وقفته على دراسة " البديع " في القرآن، ووزعته
فى ثلاثة فصول:
الأول: درستُ فيه بعض المحسنات المعنوية، كالطباق والتورية.
والثاني: درستُ فيه بعض المحسنات اللفظية، كالجُناس والمشاكلة.
وكان هدفى من هذين
الفصلين التدليل على أصالة " البديع " في القرآن سواء المعنوي واللفظي منه،
: قد تبين من الدراسة أن أصالة " البديع " القرآني قد أخرجته من كونه حلى
للمعنى أو اللفظ تأتى بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال، إلى كونه قريباً من
ذلك المقتضى إن لم يكن منه. وقد استشهدتُ في بعض المواضع بآراء مَن
سبقوا من علماء البلاغة، الذين لهم فيها قدم راسخة.
أما الفصل الثالث. . فقد درستُ فيه " البديع " معاني وألفاظاً من خلال
ثلاثة نصوص قرآنية حلَّلتُ كل ما بدا لى من صور " البديع " فيها، وقمتُ
بإحصاء شامل لمظاهر " البديع " التي وردت في تلك النصوص فبلغت - بعد
حذف المكرر منها - واحداً وأربعين نوعاً، فإذا علمنا أن تلك النصوص الثلاثة لم تزد في جملتها على خمس آيات فإن مقابلة هذين الرقمين تفيد أن الآيات الخمس قد حفلت بصور " البديع " وكثر هو فيها كثرة يُحَذِّرُ النقاد منها في غير القرآن لأنهم يشترطون في تناوله شرطين أساسيين هما:
1 -
جريه مع الطبع.
2 -
الإقلال منه.
وإنما فعلوا زلك ليأمن الأديب الزلل.
وهذان الشرطان سلم أحدهما في القرآن الكريم وهو: جريه مع الطبع وعدم التكلف.
أما الثاني فلا مفهوم له فيه، ومع هذا فإن بديع القرآن بديع حقاً وَفَّى بحق اللفظ والمعنى.
وذلك هو الفارق بين القرآن في بيانه المعجز، وبين غيره من الآداب الرفيعة.
ثم ذكرتُ نصوصاً للشعراء تناولوا فيها " البديع " فأصابوا وأخطأوا حتى
المقلون منهم. حيث لم يكن الإقلال منه عاصماً لهم من الزلل.
ولذا سيظل الفرق بين أدب القرآن وبين الآداب الأخرى كالفرق بين الصوت صادراً من مصدره الأصيل، والصدى لا تلوى منه على شيء.
كما بيَّنت في مطلع الباب خلط العلماء بين فنون " البديع "، وبيَّنتُ السبب
فيما ظهر لى، وأوضحتُ في نهايته إسرافهم في أنواعه.
والاعتدال كان أحوط.
وبهذا تنتهى أبواب وفصول هذا البحث واضعاً أمامك صورة تقريبية فى
وصف كل باب وفصل.
وبقيت - بعد - كلمة أخيرة عن المراجع والرجاء.
فمن حيث المراجع. . فقد رجعتُ إلى كل ما أمكن الاطلاع عليه مما يتصل
بالموضوع من كتب التفسير، واعتمدتُ منها على كشاف الزمخشري
وتفسير أبى السعود، وهذا لم يمنع من الرجوع إلى غيرهما أحياناً. كما رجعتُ إلى مَن كتبوا في الإعجاز قديماً وحديثاً حتى المقالات التي صدرت أثناء كتابة هذا البحث وأثناء مثوله للطبع، كما رجعتُ إلى كتب البلاغة المختلفة، وإلى كتب اللغة وغيرها.
وقد بلغت جملتها ما يقرب من مائة وخمسين مرجعاً متباينة
فيما بينها في الأهمية من حيث صلتها بالموضوع.
واستفدتُ - كذلك - من كتب النقد وقد وجَّهتني كثيراً.
ولسهولة الوقوف عليها جملة وتفصيلاً أثبتها
فى نهاية البحث مرتبة ترتيباً أبجدياً حسب أسمائها.
هذا جهد متواضع أضعه أمامك لتشجعني على صواب، أو ترشدني إلى
خطأ، فإن جلال كلام الله يجعل الثقات يضعون أيديهم على قلوبهم حين
يتصدون لبيان شيء فيه، وأين أنا منهم؟ وما حملنى على الكتابة فيه - فوق ما قدمت - إلا حب أكنه لهذا البيان العالي، وإلا عظمة وعزة وروعة يحسها فيه كل مَن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد. وحسبى أنى مجتهد،
والمجتهد لا يخلو من الأجر. أصاب أو أخطأ، وفرق ما بين الأجرين فرق ما بين الصواب والخطأ.
وكفى هذا البحث أن يكون بناناً تومئ من بعيد إلى تلك
العظمة في آفاقها، وإن البنان - على الإشارة - لأقدر من الباع على الإحاطة، وخير من عجز المحيط طاقة المشير. .
والحمد لله في الأولى والآخرة.
(رَثنَا لَا تُزغ قلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لنَا من لدُنكَ رَحْمَةً، إئكَ
أنتَ الوَفابُ @11!.
جمادى الأولى سنة 1393 هـ (يونيو سنة 1973 م.
عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني
* * *