الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأقسام موفورة التمام وتصحيح المقابلة بمعان متعادلة، وصحة التقسيم باتفاق النظوم وتلخيص الأوصاف بنفى الخلاف، والمبالغة في الرصف بتكرير الوصف.
وتكافؤ المقابلة بالتوازن وإرداف اللواحق وتمثيل المعاني ".
وهكذا تصرف همم هذا الفريق إلى جمال الألفاظ، وجودة السبك، ظناً منهم
أن الأقدمين ذهبوا بالمعاني كلها ولم يتركوا منها ضرعاً لمحتلب. فكان لا بد
من التسابق في ميدان اللفظ وروعة التعبير.
* * *
*
قيمة هذا المذهب:
ولهذا المذهب خطره في الأدب ونقده. وإن تطرف بعض دعاته كابن خلدون
وقدامة، ذلك لأن الأسلوب أو الأداء اللفظي هو دليل المعنى وآلة البيان،
ولولا الأسلوب ما وقفنا على ما يجول في نفس الأديب من معان وأخيلة
وعواطف وصور أدبية، فليس الأديب تمثالاً صامتاً وإنما هو طائر يغرد،
وتغريده هو الذي يكشف لنا عن عالمه الفسيح. والطعام الطيب إذا قُدَم فى
أوانٍ نفيسة كان أشهى للنفس وأمتع للذوق.
* *
*
نظرة عادلة:
الرأيان اللذان قدمناهما متقابلان فهما يصنعان مشكلة.
ومن هنا تبدو قيمة رأى فريق ثالث
ويرى هذا الفريق ألا تفرقة في العمل الأدبي ونقده بين معانيه وألفاظه، فهم
- إذن - يسوون بين اللفظ والمعنى، ولكل منهما معايير حسن وجمال، ولكل منهما وظيفة يؤديها لكن ليس منفرداً بل باعتبار ارتباطه بالآخر، فإذا توفرت لهما أوصاف الجمال قدما نموذجاً رائعاً من الأدب يمتع من أي جهة نظر إليه سواء من
جهة لفظه، أو من جهة معناه مثل سلكى الكهرباء السالب والموجب عندما
يتماسان ينطلق منهما الشعاع الذي يبدد طبقات الظلام وإن كان كثيفاً.
وإن أزيل اتصالهما فلا نحس لأى منهما أثرا.
فالمعنى بدون اللفظ جنين في ضمير الغيب. واللفظ بدون معنى لا يعتبر.
وهؤلاء على حق فيما ذهبوا إليه لأنهم يحلون تلك المشكلة التي رأيناها بين
الفريقين السابقين. ولأنهم يمثلون الواقع. . فهى نظرة معتدلة حرية بالاعتبار.
ومن أقدم النصوص في هذا المذهب صحيفة بشر بن المعتمر المعتزلى (المتوفى
عام 210 هـ) وقد ذكرها الجاحظ في " البيان والتبيين ". . . وفيها ينصح
بترك التوعر والتكلف " فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذى
يستهلك معانيك ويشين ألفاظك. . وَمن رام معنى كريماً فيلتمس له لفظاً كريماً.
فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهماً.
وفي موضع آخر يقول: " أن يكون لفظك رشيقاً عذباً وفخماً سهلاً، ويكون
معناك ظاهراً مكشوفاً وقريباً معروفاً "
والباحث يرى أنه في الموضعين يتحدث عن جمال اللفظ وجمال المعنى،
ويسوى بينهما ويمضى في الصحيفة مشرعاً للأدب. وناصحاً للأديب.
فهى - بحق - تشريع فريد في صناعة الأدب وبناء الأسلوب. لا فرق بين
الشكل أو المضمون وكان لهذا التوجيه أثره في تقعيد البلاغة العربية.
وممن يسوون بين اللفظ والمعنى ابن قتيبة. فخير الشعر - عنده - ما حسن
لفظه، وجاد معناه، فإذا قصر اللفظ عن المعنى، أو حلا اللفظ ولم يكن وراءه طائل كان الكلام معيباً.
ويسوق نموذجاً على ذلك هو قول الشاعر:
وَلمَّا قَضيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ. . . وَمسحَ بِالأركَانِ مَن هُوَ مَاسِحُ
وَشُدَّتْ عَلى هُدْبِ المهَارَى رِحَالُنَا. . . وَلمْ يَنْظرِ الغَادىِ الذِى هُوَ رَائحُ
أخَدنا بأطرَافِ الأحَاديثِ بِيْنَنَا. . . وَسَالتْ بِأعْنَاقِ المطِىِّ الأبَاطِحُ
ثم يقول: " وهذه الألفاظ أحسن شيء مطالع ومخارج ومقاطع. فإذا نظرتَ إلى ما تحتها وجدته: ولما قضينا أيام مِنًى واستلمنا الأركان وعالينا الإبل
الأنضاد ومضى الناس لا ينظر مَن غدا الرائح ابتدأنا في الحديث وسارت
المطىُّ في الأباطح ".
والشاعر البحترى يرى التسوية بين الألفاظ والمعاني فيقول:
حَجَجٌ تُخْرِسُ الألدَّ بِألفَا. . . ظٍ فَرَادَى كَالجَهَرِ المعْدُوِد
وَمَعانِ لوْ فَصًلتْهَا القَوافِى. . . هَجَّنَتْ شِعْرَ جْرَولٍ وَلبِيدِ
حُزْنَ مُسْتَعْمَل الكَلَاماخْتِيَاراً. . . وَتَجَنَّبْنَ ظلمة التَّعقيدِ
وركبْنَ اللفْظَ القَرِيبَ فأدْركنَ. . . بِهِ غَايةَ المرَادِ البَعِيدِ
وعبد القاهر الجرجانى ممن يسوون في صناعة الأدب بين اللفظ والمعنى. وإن
لم يصرح بذلك. لأنا نجده أحياناً يثنى على اللفظ دون المعنى، وأحياناً أخرى
يثنى على المعنى دون اللفظ، ولعله كان يقصد الرد على المتطرفين فلامَ كلا
الجانبين لنفى ذلك التطرف إلى جانب دون آخر وغرضه من ذلك إثبات التساوى بين العنصرين: الألفاظ والمعاني.
فتراه يقول دفاعاً عن اللفظ:
" واعلم أن الداء الدوى، والذي أعيى أمره في هذا الباب، غلط مَن قدم
الشعر لمعناه. وأقَلَّ في الاحتفال باللفظ، وجعل لا يعطيه من المزية - إن هو
أعطى - إلا ما فضل عن المعنى، يقول ما في اللفظ لولا المعنى، وهل الكلام
إلا بمعناه؟ فأنت تراه لا يقدم شِعراً حتى يكون قد أُودع حكمه وأدباً، واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر ".
ويقول: ". . لأنا لا نرى متقدماً في علم البلاغة، مبرزاً في شأوها، إلا
وهو ينكر هذا الرأي ويعيبه ويزرى على القائل به ".
وهذا يدلنا دلالة واضحة على أن عبد القاهر ليس ممن ينحازون إلى المعاني،
ويفضلونها على الألفاظ.
ثم يقول بعد جولات واسعة المدى بعيدة العمق يرجع فيها المزية إلى المعنى
دون اللفظ: " قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزية وأنها من حيز المعانى
دون الألفاظ، وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك بل هي حيث تنظر بقلبك، وتستعين بفكرك، وتعمل رويتك وتراجع عقلك.
وبلغ القول في ذلك أقصاه، وانتهى إلى مداه ".