الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأن كروتشيه " يحدد المضمون بالأحاسيس أو الناحية الانفعالية قبل صقلها
صقلاً جمالياً، وأما الشكل فهو صقلها وإبرازها في تعبير عن طريق النشاط
الفكرى، وعلى هذا يأبى " كروتشيه " أن تكون الحقيقة الجمالية محصورة
فى المضمون. وإنما هي ترجع إلى الشكل بما يحويه من أحاسيس وخيالات
وعواطف وانفعالات، لأن أهمية المضمون عنده تنحصر في التعبير عنه تعبيراً
جمالياً".
* * *
*
الموازنة بين معنى ومعنى:
وأما الموازنة بين معنى ومعنى فإن الباحث يرى أن الوجوه البلاغية من أهم
العناصر التي كانت تعتمد عليها هذه الموازنات. ونورد بعض الأمثلة فيما
يأتى لنرى إلى أي مدى كانت الوجوه البلاغية تذكيها وتوجهها وتتخذ أساساً
للحكم أو القبح فيها.
فالآمدى وهو أحد رجلين وضعا أصول النقد المنهجى عند العرب، أكثر
ما يقوم عليه مذهبه النقدى هو الملاحظات البلاغية فقد ذكر ابن المعتز قول
أبى تمام:
فَضَربْتُ الشتَاء في أخْدَعَيْهِ. . . ضَريةُ غَادَرَتْهُ عُوْداً ركوبَا
على أن فيه استعارة معيبة، فجاء الآمدى يدافع عن أبى تمام فيقول: "فأما
قوله - يعنى أبا تمام - " فضربتُ الشتاء في أخدعيه " فإن ذكر الأخدعين على قبحهما أسوغ، لأنه قال:" ضربة غادرته ". .
وذلك أن العود المسن من الإبل يُضرب على صفحتى عنقه فيذل، فقربت الاستعارة هنا من الصواب قليلاً".
وللآمدى باب خاص عقده " لا عيب من الاستعارة عند أبى تمام " ويورد
الآمدى بعض استعارات القرآن شارحاً لها وموضحاً أوجه الجمال فيها.
وبهذا القياس نفسه - قبح الاستعارة أو حسنها - يعيب قول أبى تمام:
يَا دَهَرْ قَوِّمْ مِنْ أخْدَعَيْكَ فَقَد. . . أضجَجْتَ هذا الأنامَ من خَرقِك
ويتساءل: أي ضرورة دعته للأخدعين؟ وكان يمكن أن يقول: من اعوجاجك، أو: قَوم من عوج صنعتك، أو: يا دهر أحسن بنا الصنيع، لأن الأخرق هو الذي لا يحسن العمل. .
وعاب - كذلك - قوله:
وَحُمِّلتُ مَا لوْ حُمِّلَ الدهْرُ شَطرَهُ. . . لفَكرَ دَهْراً أَىَّ عِبْئَيْهِ أثقَلُ
إذ جعل للدهر عقلاً، وجعله مفكراً في أي العبئين أثقل، وما معنى أبعد من
الصواب من هذه الاستعارة، وكان الأليق بهذا المعنى لما قال:
" وحملت ما لو حمل الدهر شطره " أن يقول: لتضعضح، أو لانهد، أو لأمن الناس صروفه ونوازله. ونحو هذا مما يعتمده أهل المعاني في البلاغة.
والموازنة في هذه الأمثلة بين معنى قيل وفيه خطأ ومعنى كان يجب أن يقال.
ويورد للبحترى بيتاً آخر وينقده. وهو قوله:
قِفْ العِيسَ قَدْ أدنَى خُطاهَا كَلَالُها. . . وَسَلْ دَارَ سُعْدَى إنْ شَفَاكَ سُؤَالُها
يقول الآمدى: وهذا لفظ حسن ومعنى ليس بالجيد، لأنه قال: " أدنى
خطاها كلالها ". أي قارب من خطوها الكلال، وهذا كأنه لم يقف لسؤال
الديار التي تعرض لأن الوقوف يشفيه وإنما وقف لإعياء المطي.
والجيد قول عنترة:
فَوَقَفْتُ فِيهَا ناقَتِى وكَأنهَا. . . فَدِنٌ لأقْضِى حَاجَةً المتُلوِّمِ
فإنه لما أراد ذكر الوقوف احتاط بأن شبَّه ناقته بالفدن وهو القصر، ليُعلم أنه
لم يقفها ليريحها.
ويمضى بعد ذلك مناقشاً كل الدفوع التي يمكن أن تقال في جانب البحترى
حتى ليقيم عليه الحُجة من كل وجه. بأنه خالف عادات العرب في مثل هذه
الواقف. مؤيداً وجهة نظره بمأثورهم.
ويعيب قول أبى تمام متغزلاً:
بَيْضَاءُ تَسْرِى في الظلَام فَيَكْتَسِي. . . نُوَراً وتُبْدُو فِى الضياء فيُظلمُ
مَلطومَةٍ بِالوْردِ أُطلِقَ طرْفُهَا. . . فِى الخَلقِ فَهُوَ مَعَ المنُونِ مُحْكَمُ -
فيقول الآمدى: " وقوله " ملطومة بالورد " يريد حُمرة خدها، فلِمَ لم يقل:
مصفوعة بالقار يريد سواد شعرها؟ ومخبوطة بالشحم يريد امتلاء جسمها؟
ومضروبة بالقطن يريد بياضها؟ إن هذا لأحمق ما يكون من اللفظ وأسخفه
وأوسخه. وقد جاء مثل هذا في كلام العرب ولكن على وجه حسن. .
قال النابغة: " مقذوفة بدخيس اللحم " يريد أنها قُذفت بالشحم. أى كأنه رُمِىَ على جسمها رمياً.
وإنما ذهب أبو تمام إلى قول أَبى نواس: " وتلطم الورد
بعناب " وهذه كانت تلطم في الحقيقة في مأتم على ميت بأنامل مغضوبة
الأطراف فجعلها عناباً تلطم به ورداً. فأتى بالظرف كله. والحُسن أجمعه.
والتشبيه على حقيقته. وجاء أبو تمام بالجهل على وجهه. والحمق بأسره.
والخطأ بعينه ".
والحق أن الآمدى كان يصدر في نقده عن ذوق وخبرة وعلم وحكمة. وكتابه " الموازنة " حافل بما يمتع الباحث ويفتح أمامه آفاقاً واسعة للموازنة والدرس.