الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثانيهما: مذهب " المتكلفون " الذين يبعدون في معانيهم ويحتالون لإيراد
" البديع " في شِعرهم يزينونه به، وإن كان ذلك على حساب المعنى. وجودة
التعبير، ويمثل هؤلاء أبو تمام.
وقد رأينا أن أول مَن حمل حملة شعواء على أصحاب البديع هو ابن المعتز،
بل إنه وضع كتابه للرد عليهم خاصة، وأنهم لم يأتوا بجديد لم يعرفه السابقون
بل إن إسرافهم فيه جعل له بهم شبه إضافة.
نقول: كانت هذه البوادر كلها سبباً في نشأة الخصومة الأدبية والفكرية بين
أنصار القديم والطبع. وأنصار الجديد والصنعة. وهذه الخصومة لم تقم على
غير أساس. بل كانت تعتمد على فروق في الأساليب بين المذهبين. - وهذه
الفروق لم تتضح إلا من كتابات البلاغيين، ولم تعتمد على شيء مثل اعتمادها على الوجوه البلاغية التي يستخدمها الشاعر أو الناثر في أسلوبه للكشف عن معانيه.
* * *
*
صلة البلاغة بقضايا النقد الكبرى:
ونتيجة لذلك عالجت البلاغة قضيتين من أخطر قضايا النقد. وهما قضية
اللفظ والمعنى، وقضية الموازنة بين معنى ومعنى.
وليس من اليسير معالجة هاتين القضيتين في جزء من بحث. ولذلك فإننا
نتناولهما في إيجاز نتبين من خلاله صلة البلاغة بقضايا النقد الكبرى. ومدى
تأثيرها في صقل الأساليب وإجادة المعنى.
أما قضية اللفظ والمعنى فإن النقاد ينقسمون حولها ثلاثة أقسام:
فريق يُقدم المعنى على اللفظ. وينسب إليه كل فضل في صناعة الأدب ونقده، يقول ابن رشيق: " اللفظ جسمٌ روحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح
بالجسم. يضعف بضعفه ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً في الشعر، وهجنة عليه. كما يعرض لبعض الأقسام من العرج والشلل والعور، وما أشبه ذلك من غير أن تذهب الروح، كذلك إذا ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظ، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الروح. ولا نجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ، وجريه فيه على غير
الواجب قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح. فإن اختل المعنى
كله وفسد بقى اللفظ مواتا لا فائدة فيه وإن كان حسن الطلاوة في السمع.
كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين، إلا أنه لا ينتفع به.
ولا يفيد فائدة، وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لا نجد له معنى لأنا لا
نجد روحاً في غير جسم ألبتَّة ".
فابن رشيق - وإن بدا أنه يسوى بين اللفظ والمعنى - فإنه يقدم المعنى على
اللفظ ما دام المعنى روحاً والجسم هو اللفظ. . .
وكذلك يرى ابن الأثير: " اعلم أن العرب كما كانت تعنى بالألفاظ
فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأشرف قدرا فى
نفوسها. فأول ذلك عنايتها بالألفاظ لأنها كانت عنوان معانيها. وطريقا إلى
إظهار أغراضها، أصلحوها وزينوها وبالغوا في تحسينها ليكون ذلك أوقع فى
النفس. وأذهب بها في الدلالة على القصد، فإذا رأيت العرب قد أصلحوا
ألفاظهم وحسنوها. ورققوا حواشيها وصقلوا أطرافها فلا تظن أن العناية إذ
ذاك بالألفاظ فقط. بل هي خدمة منهم للمعاني. ونظير ذلك إبراز الصور
الحسناء في الحلل الموشية. والأثواب الحبرة، فإنَّا قد نجد من المعاني الفاخرة
ما يشوِّه من حسنه بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه ".
وابن الأثير - في هذا النص - أقوى دلالة على بيان مذهبه من ابن رشيق -
وإن سار هو على طريقته في التقرير.
ويرى الجاحظ أن أبا عمرو الشيبانى كان لا يحفل إلا بالمعنى، فمتى
كان المعنى رائقا حسناً ظل كذلك في أي عبارة وُضِعَ فيها. ورأيه هذا مطابق
لما حكاه " أرسطو " عن السوفسطائى " بريزون " من أنه لا حسن ولا قبح فى
اللغة، ففى أي الكلمات وضعت الفكرة فالمعنى سواء.
ومن أنصار المعنى، الآمدى من النقاد، وابن الرومى والمتنبي من الشعر اء،
فهؤلاء يطلبون صحة المعنى. ولا يبالون - أحياناً - حيث وقع من هجنة اللفظ وخشونته
على أن من هؤلاء مَن لا يهمل اللفظ في العمل الأدبي. بل ينظر إليه نظرة
تقدير واحترام، ولكنها نظرة ليست مثل نظرته إلى المعنى فهو السابق.
وإليه يعزَى كل فضل.
والذي حمل هذا الفريق على التعصب لناحية المعنى. ما رأوه من جودة
السبك دون العناية بجمال المعنى عند أصحاب التصنع الذين اتخذوا الأدب
صناعة، ولم يروا فيه إلا وصف الألفاظ وجودة السبك، دون العناية بخطر
الموضوع، وأهمية الموقف، وصدق المعنى وحسن الدلالة. . وهذا أمر ضاق به كثيرون من النقاد.
يقول الآمدى: " وقد رأيتُ جماعة من متخلفى هذه الصناعة يجعلون كل
همهم مقصوراً على الألفاظ التي لا حاصل وراءها، ولا كبير معنى تحتها. وإذا أتى أحدهم بلفظ مسجوع، على أي وجه كان من الغثاثة والبرد، يعتقد أنه