الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد الاختناق، على أن المراد به فرض القطع وتقديره، كما أن المراد بالنظر فى قوله تعالى:(فَليَنظرْ هَلْ يُذْهبَن كَيْدُهُ مَا يَغيظُ) تقدير النظر وتصويره.
أى فليصور في نفسه النظر، هل يذهب كيده ذلك الذي هو أقصى ما انتهت
إليه قُدرته في باب المعنادة والمضارة ما يغيظه من النُصرة. كلا.
ويجوز أن يراد: فلينظر الآن أنه إن فعل ذلك هل يذهب ما يغيظه؟
وقيل: المعنى: فليمدد حبلاً إلى السماء المظلة، وليصعد عليه ثم ليقطع الوحى، وقيل: ليقطع المسافة حتى يبلغ شأنها فليجتهد في دفع ضرره.
ويأباه - يعنى هذا الرأي الأخير - أن مقاصد النظم الكريم بيان أن الأمور
المفروضة على تقدير وقوعها وتحققها بمعزل من إذهاب ما يغيظ، ومن البيِّن أن لا معنى لفرض وقوع الأمور الممتنعة وترتيب الأمر بالنظر عليه لا سيما قطع الوحى. فإن فرض وقوعه مخل بالمرام قطعاً.
وقيل: كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون
ما وعد الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام من النُصرة، وآخرون من المشركين يريدون إتباعه عليه السلام ويخشون أن لا يثبت أمره، فنزلت.
وقد فُسر " النصر " بالرزق، فالمعنى أن الأرزاق بيد الله تعالى، لا تُنال
إلا بمشيئته تعالى فلا بدَّ للعبد من الرضا بقسمته.
فمن ظن أن الله تعالى غير رازقه، ولم يصبر ولم يستسلم.
فليبلغ غاية الجزع، وهو الاختناق، فإن ذلك لا يغلب القسمة ولا يرده مرزوقاً.
* * *
*
القراءات وتعدد المعنى:
أما أثر القراءات في تكثير المعنى القرآني وثراء ما يستنبط منه، فيتضح
من الأمثلة الآتية:
أولاً: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) .
فقد تعددت. القراءات في كلمة " غير " فجاءت مرفوعة، ومنصوية،
ومجرورة، فالرفع على أنه صفة للقاعدين، والنصب على الاستثناء، والجر
على أنه صفة للمؤمنين.
والمعنى على الأول: " لا يستوى القاعدون الأصحاء من المؤمنين
والمجاهدون ".
وعلى الثاني: " لا يستوى القاعدون من المؤمنين إلا أولى الضرر ".
والمستثنى منه: إما " القاعدون " وإما " المؤمنون ".
وعلى الثالث: " لا يستوى القاعدون من المؤمنين الأصحاء "(1) .
ثانياً: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) .
فقد قرئت كلمة " أنفُسكم " على وجهين.
أولهما: ضم الفاء والمعنى عليه:
قد جاءكم رسول من جنسكم وأنفسكم ليسِ بغريب عليكم.
ومصداق هذا قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) .
(1) مصدرنا في هذه النقول كتاب: الحجة في علل القراءات السبع لأبى على الحسن بن أحمد الفارسي: 1/119، تحقيق على النجدى وآخرين.
والوجه الثاني - أنفَسكم بفتح الفاء والمعنى عليه: " لقد جاءكم رسول من
أذكاكم وأطهركم قلباً ونفساً ". . وكلا المعنيين لائق به عليه السلام.
ثالثاً: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) .
الآيتان تتحدثان عن أهل سبأ. وعن النعمة التي وهبهم إياها الله.
حيث أدنى منهم مواطن النفع، وحقق لهم الأمن في سيرهم وجعل القرى التي تقع على طريق سفرهم متقارية بحيث يقيلون في قرية، ويبيتون في أخرى حتى
يصلوا القرية التي بارك الله فيها.
وهذا معنى قوله: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) والشاهد في الآية الثانية فى
قوله تعالى: (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) بنصب " رَبَّنَا " على أنه منادى
مضاف. وبناء " باعد " عَلى السكون أمراً من المباعدة وهي قراءة حفص.
وقد أخرج الزمخشري وغيره من المفسرين المعنى على هذا الوجه فقال:
" بطروا النعمة، وبشموا من طيب العيش، ومَلوا العافية. فطلبوا الكد
والتعب كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المن والسلوى، وقالوا:
لو كان جنى جناننا أبعد كان أجود أن نشتهيه، وتمنوا أن يجعل الله بينهم
وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها، ويتزودوا الأزواد.
فعجل الله لهم الإجابة ".
وقد أورد الزمخشري في الآية قراءات أخرى نتعرض لواحدة منها لأنها هى
التي تدخل في موضوعنا لاختلاف المعنى معها.
وهي: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) . برفع " رَبنا " على الابتداء وفتح الدال والعين من " باعد "