الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
دور الرد والمناقشة:
وجاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه
فترى القرآن لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم. بل يتركها مؤقتاً
كأنها سليمة ليبنى عليها وجوب الإيمان بغيره من الكتب فيقول:
" كيف يكون إيمانهم بكتابهم باعثاً على الكفر بما هو حق مثله؟
لا بل (هُوَ الحَق) كله وهل يعارض الحق الحق.
فيكون الإيمان بأحدهما موجباً للكفر بالآخر "؟
ثم يترقى فيقول: " وعجيبة العجائب أن الحق الذي كفروا به جاء (مُصَدِّقاً)
لما سبق من الكتب المنزلة - ومنها التوراة التي آمنوا بها - فكيف يُكَذِّب به مَنْ يؤمن بهاً؟
ثم يستمر مفنداً حالتهم فيقول: " لو أن هذا الكتاب جاء مصدقاً لمقاصد
فى الكتب المنزلة بعده، وكانت هذه المقاصد مما طمسها التحريف لكان لهم عذر فى كفرهم. لكن كيف يكون لهم عذر وقد جاء هذا الكتاب (مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ) مما يتلونه ويدرسونه ويعلمونه "؟
فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان.
إنما هي كلمة رُفِعَت وأخرى وُضِعَت فى مكانها عند الحاجة إليها.
فكانت حَسْماً لكل عذر، سادة لكل باب من أبواب
الهروب، بل كانت بمثابة حركة تطويق للخصم
أتت في خطوة واحدة هادئة رزينة.
* *
*
إفحام الخصم:
وبعد هذا التعليق الفاضح للخصم، الكاشف لنواياه السيئة، القاطع عليه
طريق النجاح. انبرى القرآن للرد على المقصد الأصلى الذي تبجحوا بإعلانه.
وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم فأوسعهم إكذاباً.
وبيَّن أن الكفر والجحود داء دفين فيهم، ومرض مزمن توارثوه جيلاً عن جيل.
فليس الذي أتوه اليوم إلا حلقة متصلة السلسلة بماضيهم اللعين.
وساق على ذلك الشواهد والوقائع التاريخية بما لا سبيل لإنكارها.
جهلٌ بالله، وانتهاك حُرم الأنبياء وتمرد على الأوامر:(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) .
هنا تبرز حقائق يجب أن نتأملها:
1 -
تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة
السابقة لأن السامع يفهم من تكذيبهم بما يُصدِّق كتابهم أنهم صاروا مُكذِّبين
لكتابهم نفسه، وهل الذي يُكَذِّب مَنْ يصدقك يبقى مُصدِّقاً لك؟
غير أن هذا المعنى إنما أُخذَ، استنباطاً من أقوالهم، وإلزاماً لهم بمآل مذاهبهم،
ولم يؤخذ بطريق مباشر من واقع أحوالهم.
فكانت هذه هي مهمة الرد الجديد.
وهكذا كانت كلمة: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) مغلاقاً لما قبلها مفتاحاً لما
بعدها، وكانت آخر درجة في سلم الغرض الأول هي أول درجة في سلم الغرض
الثاني. فما أوثق هذا الالتحام بين أجزاء الكلام، وما أرشد هذه القيادة للنفس بزمام البيان، تدريجاً له على مدارجها وتنزيلاً له على قدر حاجتها. وفي وقت تلك الحاجة.
2 -
وانظر كيف عدل بالإسناد عن وضعه الأصلى. وأعرض عن ذكر
الكاسب الحقيقي لتلك الجرائم. فلم يقل: فلمَ قتلَ آباؤكم أنبياء الله واتخذَوا العجل وقالوا: (سَمعْنَا وَعَصَيْنَا) لأَنه لو جاء القول - كذلك - لقالوا: تلك أمة قد خلت.
ولو زاد: وأنتم مثلهم. لجاء هذا التدارك بعد فوات البيان.
فكان اختصار الكلام على هذا الوجه إسراعاً بتسديد الحُجَّة إلى هدفها.
وأنهم سواسية فى الجُرم فعلى أيهم وضعتَ يدك
فقد وضعتها على الجاني الأثيم.
3 -
وقد زاد هذا المعنى ترشيحاً بإخراج الجريمة الأولى - وهي جريمة القتل - فى صيغة الفعل المضارع تصويراً لها بصورة الأمر الواقع الآن، وكأنه - بذلك - يعرض على النظارة هؤلاء المجرمين أنفسهم، وأيديهم ملوثة بتلك الدماء الزكية.
4 -
ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح باباً
من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم، وباباً من الإطماع لأعدائه في نجح
تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله. فانظر كيف أسعفنا بالاحتراس عن ذلك كله بقوله: (منْ قَبْلُ) فثبَّت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وقطع أطماعهم، كما أشارت هذه الكلمة إلى إرادة التجوز في الكلام.
5 -
وانظر كيف جيء بالأفعال في الجرائم التالية على صيغة الماضي بعد أن
وطأ لها بهذه الكلمة: (منْ قَبْلُ) فاستقام التاريخ على وضعه الطبيعى حين
لم تبق حاجة إلى مثل التعبير الأول.
6 -
وانظر إلى الآداب العالية في عرض الجريمة الثانية - وهي جريمة الشرك
- فإنها لما كانت أغلظ من سابقتها وأشد نُكراً في العقول نبَّه على ذلك ألطف
تنبيه بحذف أحد ركنيها. فلم يقل: اتخذتم العجل إلهاً، بل طوى هذا المفعول
الثاني للتصريح به في صحبة الأول وبياناً لما بينهما من مفارقة.
وكم في هذا الحذف من تعبير وتهويل.
7 -
ثم انظر إلى النواحى التي أوثر فيها الإجمال على التفصيل، إِعراضاً
عن كل زيادة لا تمس إليها الحاجة البيانية في الحال.
فقال: (مُصَدَقاً لِمَا مَعَهُمْ) ولم يبين مدى هذا التصديق.
أفى أصول الدين فحسب؟ أم فى الأصول وبعض الفروع؟.
وإلى أي حد. . فليبحث علماء التشريع.
وقال: (تَقْتُلونَ أنبِيَاءَاللهِ مِن قَبْلُ) فمَنْ هؤلاء الأنبياء؟
وكم عددهم؟ . . فليبحث علماء التاريخ.
وقال: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) فكم هي؟ . . وما هي؟ . . .
وقال: (وَإذْ أخَدنا مِيثَاقَكُمْ) فما صيغة هذا الميثاق؟
وعلى أى شيء أعطوه؟ . . .
لا أحد يدرى.
إن حكمة البيان القرآني لأجلُّ من أن تعرض لمثل هذه التفاصيل في مثل هذا
الوضع. وليس في تركها عيب أو نقص.
8 -
إنك تلمح وراء هذا البيان قوة قوية. أعلى من أن تنفعل بمثل هذه
الأغراض. قوة تؤثر ولا تتأثر. تصف لك الحقائق في أمانة خيرها وشرها فى
عزة مَن لا ينفعه خير. واقتدار مَن لا يضره شر. وهذا شأن القرآن أبداً وسمته التي لا يشركه فيها قسيم.
انظر إليه حين يجادل عن القرآن فلا يزيد في وصفه على هذه الكلمة:
" هو الحق "، نعم. . إنها كلمة تملأ النفس، ولا يتطلب الموصوف بها وصفاً أشرف من هذا الوصف الذي يحوى كل الفضائل (1) .
ولنكتف بهذه الأمثلة الثلاثة دليلاً على ما في القرآن من دقة النظم.
وقوة الربط حتى في المواضع التي ليست هي مظنة لذلك.
ولقد تعمدنا أن تكون أمثلتنا الثلاثة من هذا القبيل.
* * *
3 -
اختلاف الأغراض:
وهذه خاصة من خصائص القرآن الكريم، يعمد فيها إلى الجمع بين
الأغراض المختلفة في موضع واحد، ويمزج بينها مزجاً فنياً قوياً لا تحس فيه
بقلق أو اضطراب. بل تحس بالتناسب والالتئام. وليس ذلك في مقدور أحد من الناس.
(1) انتهى ملخصاً من كتاب " النبأ العظيم " ص 114 - 125