الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا فإنك لا تجد في القرآن كلمة معيبة من حيث الصورة أو الاستعمال.
ولا تجد فيه لفظاً قلقاً مضطرباً أو نابياً في موضعه.
إلى آخر تلك العيوب التي يرددها نقاد الشعر وخبراء الأساليب.
وسلامة اللفظ القرآني من العيوب نعنى بها أن الألفاظ في القرآن مختارة
منتقاة لم يأت لفظ فيه حيثما اتفق. بل تدبير حكيم عليم. وإلى جانب انتقاء
اللفظ القرآني من حيث صورة اللفظ نفسه - حروفه وحركاته وسكناته - فإن القرآن يؤثر استخدام الألفاظ القصار الثلاثية الأصول أو الرباعية الأصول.
والثلاثية الأصول فيه أوفر عدداً من الرباعية.
" أما أن اللفظة خماسية الأصول فهذا لم يرد منه في القرآن شيء. لأنه مما
لا وجه للعذوبة فيه. إلا ما كان من اسم عُرِّب ولم يكن في الأصول عريياً.
كإبراهيم. . . . وإسما يل. . . . وطالوت. . . وجالوت. . ونحوها.
ولا يجيء فيه كذلك إلا أن يتخلله المد كما ترى.
فتخرج الكلمة وكأنها كلمتان ".
وتحقيقاً لهذه الصفة - انتقاء الألفاظ وعذوبتها في القرآن - فإن القرآن
يعمد إلى تهذيب ما قد يُعاب من اللفظ إذ دعا داع بلاغى لوروده فيه.
ولهذا فإنك ترى في القرآن كلمات يشهد الذوق بحسنها لأنها هُذِّبت ووُضعَت وضعاً مُحْكماً فيه.
بينما تراها في غيره معيبة شاذة. . وذلك بشهادة النقاد أنفسهم.
وليس ذلك مجاملة منهم للقرآن لما له من قداسة، بل لأسباب فنية أوضحوها
ووجهوا إليها الأنظار.
* *
*
ألفاظ حسنت في القرآن وعيبت في غيره:
من ذلك كلمة " مقاعد ". فقد عابها النقاد في شِعر الشريف الرضي حيث
أعْزِزْ عَلى بِأنْ أرَاكَ وَقَدْ خَلتْ. . . مِنْ جَانِبَيْكَ مَقَاعِدُ العُوادِ
قال ابن سنان الخفاجى ينقده: " فإيراد - مقاعد - في هذا البيت صحيح.
إلا أنه موافق لما يُكره ذكره في مثل هذا الشأن. لا سيما وقد أضافه إلى من
يحتمل إضافته إليهم. وهم العُواد. ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلاً.
فأما إضافته إلى ما ذكره ففيها قبح لا خفاء فيه ".
ونقد ابن سنان لهذه الكلمة وجيه لا أظن أحداً يخالفه فيه لأن المقام يقتضي
العدول عن مثل هذه الكلمة جرياً مع الذوق وصحة المعنى.
والأساس الذي بنى عليه الخفاجى نقده هو أن الكلمة يُشترط في فصاحتها -
عنده - ألا يسبق التعبير بها عن معنى يُكره ذكره.
وقد حكم بسلب الفصاحة عن كثير من الكلمات نزولاً على هذا الاعتبار.
وقد وردت هذه الكلمة - مقاعد - في القرآن الكريم عذبة رشيقة.
وذلك فى مواضع منها: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ) ،
وقوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) .
فالمقاعد - هنا - في الموضعين بمعنى المنازل، ولا يمكن أن يُفهم منهما المعنى
الذي من أجله كره النقاد استعمال هذه الكلمة. لأنها لم تضف إلى ما يمكن أن يُفهم من إضافتها إليه ذلك المعنى المستكره. .
وذلك سر الجمال في هذين الموضعين.
ومن ذلك - أيضاً - كلمة " تؤذى ". فقد عابوها في قول المتنبى:
تَلُذُّ لهُ المرُوءَةُ وَهِىَ تُؤْذِى. . . وَمَنْ يَعْشَقْ يَلُذُّ لهُ الغَرامُ
والسبب أن الشاعر قطع الكلمة - وهي ثقيلة - عن الإضافة على العكس من كلمة " مقاعد " فإن عيبها جاء من إضافتها.
ولو أضافها لخفف من ثقلها.
وقد جاءت في القرآن في مواضع هي فيها حسنة رائقة.
وذلك في قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) .
لذلك كانت هذه الكلمة. - هنا - أجمل منها في بيت المتنبي.
والحكم في ذلك للأذن الموسيقية ".
فالقرآن - كما ترى - استعمل الكلمة واقعة على مفعول " النبي " فخفت
ورشقت وهي في قول المتنبي مقطوعة عن الإضافة.
ومن ذلك كلمة " ضيزىَ "، وهي أغرب ما في اللغة من كلمات. بله القرآن.
ولقبح هذه الكلمة لم يستعملها عريى فيما وصل إلينا من أقوالهم وأشعارهم.
ومع ذلك فإنك تجد لها من الحسن في القرآن أضعاف ما ترى لها من القبح
والغرابة في غيره.
قال تعالى في سورة النجم موبخاً أهل الشرك: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) . .
" ولحسن هذه الكلمات في هذا الموضع عدة اعتبارات:
1 -
أن السورة التي وردت فيها فاصلة لإحدى آيها الفية الفواصل،
فجاءت الكلمة ذات نغم صوتى ملتئم. مع فواصل الآي الأخرى.
ولو وضع موضعها " جائرة " وهي قسيمتها في الدلالة لجارت على الموضع وفاتت المناسبة وحسن الجوار. فجيء بها - أي ضيزى - لذلك الالتئام والتناسق الصوتى الذي لا يخفى أثره.