الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
منارات على الطريق:
والبلاغة العربية بحثت في اللفظ المفرد وهيئته للاستعمال خالياً من العيوب
فلا يكون اللفظ أو الكلمة فصيحة صالحة للاستعمال إلا إذا سلمت من أربعة
عيوب:
الأول: سلامتها من تنافر الحروف لتكون الكلمة رقيقة عذبة.
الثاني: سلامتها من الغرابة لتكون الكلمة مألوفة الاستعمال غير قلقة.
الثالث: سلامتها من مخالفة القياس لئلا تكون شاذة.
الرابع: سلامتها من الابتذال فلا تكون الكلمة قد أبلاها الاستعمال.
فإذا سلمت من هذه العيوب فهى فصيحة. وإذا لم تسلم فهى غير فصيحة.
واستعمالها معيب ولهذه الاعتبارات ردوا كثيراً من النصوص.
أما الكلام - قَلَّ أو كثر - فالفصاحة - أيضاً - شرط جماله.
وهو لا يكون فصيحاً إلا إذا سلم - أيضاً - من العيوب الأربعة الآتية:
الأول: تنافر الكلمات مجتمعة.
الثاني: ضعف التأليف، فلا يخرج الكلام عن قواعد النحو المشهورة.
الثالث: التعقيد اللفظي بحيث لا يكون الكلام على نسق غير معروف.
الرابع: التعقيد المعنوي بحيث لا يظهر المعنى من الكلام إلا بعد جهد جهيد
. . . هذا نصيب الكلام من الفصاحة والمقصود من ورائه أن يكون النص عذب الكلمات رشيقها وأن يكون معناه واضحاً.
والوضوح دعامة من دعائم جمال النص.
فإذا توافرت في الكلام - بعد الكلمة - شروط الفصاحة - فلا تظننَّ البلاغة
تنتهى بك عند هذا الحد. بل تأخذ بيدك إلى مقياس آخر.
هو أن يكون الكلام
بليغاً. . . ولا يكون الكلام بليغا إلا إذا كان مطابقاً لمقتضى الحال.
مع فصاحة كل كلمة فيه، ولكل مقام مقال، وعلى المتكلم أن يكون خبيراً بأحوال مخاطبيه. فطناً بطرق التعبير حتى يكون كلامه مؤثراً.
وهنا تظهر صلة البلاغة بأحوال النفس. وهي صلة تشغل جانباً كبيراً فيها.
فعلى المتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار السامعين.
ويعرف أقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً. ولكل حالة مقاماً.
وقد فصلت البلاغة القول فيما يناسب كل مقام. وأمدت المتكلم بالنماذج
والأسس التي يسير على هداها في كل حال، وكان علم المعاني - وهو أحد
مباحثها الثلاثة - خير معين على ذلك.
ففيه التوكيد بأنواعه، وفيه ترك التوكيد عند عدم دواعيه، وفيه الحذف
والذِكر، وفيه التقديم والتأخير، وفيه التعريف والتنكير، وفيه الفصل
والوصل، وفيه الإيجاز والمساواة والإطناب، وفيه القصر وعدم القصر، وفيه
الحقيقة العقلية والمجاز العقلي. . وهذه عناوين لأمهات مسائل تحتها كثير من
الدقائق والأسرار.
وعلم البيان مجال فسيح لتصوبر المعاني. وخلجات النفوس في أدق
أحوالها، ففيه التشبيه والتمثيل، وفيه الاستعارة، وفيه المجاز الرسل، وفيه
الكناية والتعريض، وفيه الالتفات من حالة إلى حالة لداع ومقتض. .
وفيه كثير من التوجيهات.
والتشبيه والمجاز وسائل إبراز الخيال والعواطف. ومكامن الإبداع والخلق فى
كل عمل فنى. فليس هناك وسيلة يمكن أن يصور على هداها الخيال إلا التشبيه والمجاز.
والبديع ليس سمة ترف في الأسلوب متى كان جارياً مع الطبع. وإنما هو
مظهر من مظاهر التناسق الصوتى في العمل الأدبي. ومظهر من مظاهر التأنق
فى روعة المعنى وحسن تأديته.
إن منزلة البديع من الأسلوب منزلة المكملات في الجملة بعد استيفاء ركنيها،
ولم يقل أحد بتهوين شأن تلك المكملات في الإفصاح عن المعنى واكتماله.
فليس في البديع مظهر ترف في البيان وإنما هو إضافات تزدان بها العبارات
وتكسبها بهاءً وخلابة.
تلك هي - في إيجاز - بلاغتنا العربية، دعامة الإعجاز البياني ومصدر
القوة والجمال في البيان الرفيع. وصدق الله العظيم إذ يقول منوِّهاً بفضل
بلاغة القول: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) .
* * *