الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
مقارنة جديدة:
وأذكر هنا مثالاً يمكن جعله موضوعاً للمقارنة وهو قوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) .
إذا قارنا هذه الآية بقول السموأل وهو يتفق معه في الغرض العام:
وَنُنْكِرُ إنْ شِئْنَا عَلى الناسِ قَوْلهم. . . وَلَا يُنْكِرُونَ القَول حِينَ نَقُولُ
أقول: إذا وازنا بين الآية الكريمة. . وبين قول هذا الشاعر لبان الفضل فى
جانب الآية الكريمة من عدة وجوه كذلك.
وها نحن أولاء نقوم بموازنة سريعة بينهما. لا على أن ما قلناه هو كل
ما بينهما من فروق. ولكن لضرب المثل بما يكون في جانب النص القرآني من
الخصائص والمزايا التي لا توجد في سواه مهما كان عظيماً جيداً.
ونجرى الموازنة على النحو الآتى:
أولاً - من حيث الأسلوب:
(أ) الآية الكريمة تتكؤن من ست كلمات، بينما يتكون البيت من إحدى
عشرة كلمة، وعدد حروف الآية اثنان وعشرون حرفاً، بينما البيت بلغ عدد حروفه خمسة وأريعين حرفاً.
(ب) في الآية إيجاز بالحذف في أربعة مواضع هي:
1 -
" يُسْئَلُ " حيث حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول وأضمر فيه نائب
الفاعل.
2 -
" يَفْعَلُ " وهذا الفعل صلة الموصول " ما " حذف منه عائد الصلة.
والأصل " عما يفعله ".
3 -
" يُسْئَلُونَ " حيث فعل فيه مثل ما فعل في سابقه، فبنى الفعل
للمفعول وحذف فاعله.
وجيء بالضمير (واو الجماعة) وجُعِلَ نائب فاعل.
4 -
الوضع الرابع. . حيث حذف معمول " يُسْئَلونَ " والتقدير: " عما
يفعلونه " وهذا الحذف اعتماداً على ما ذكِرَ مع نظيره " لا يُسْئَلُ عما يفعل "
فحذف من الثاني لدلالة الأولى عليه.
أما البيت ففيه إطناب في موضعين أحدهما لا بأس به، والثاني جاء قيداً
مضراً بالمعنى الذي يقتضيه المقام.
فالأول حيث قال: " إن شئنا " معترضاً به بين العامل: " ينكر " والمعمول
" قولهم "، والثاني قال:" حين نقول " وقد أضر هذا بالمعنى لما سيأتى:
(جـ) كل من الآية والبيت اشتمل على محسنين بديعيين.
أحدهما الطِباق، والثاني رد العجز على الصدر.
والطِباق في الآية طِباق سلب وإيجاب. وفي البيت طِباق إيجاب وسلب،
ولتقديم السلب على الإيجاب في هذا المقام فضيلة لا نراها لغيره - حيث نفت
الآية أن يُسئل الله عن فعل يفعله فأثبتت له كمال الإرادة بما يصدر عنه أولاً.
ثم أثبتت له صفة متعدية وهي أنه يُسئل عما يفعله سواه. أو أن سواه يُسئل
عما يفعله سواء أكان السائل الله. أو بعضهم بعضاً.
أما طِباق البيت فقد أثبت أولاً الصفة المتعدية، وثانياً الصفة الذاتية.
: المقام هنا مقام فخر، فكان الأولى أن يبدأ بإثبات الصفة الذاتية.
ثم يُثنى بالصفة المتعدية، ولو فعل لكان أنسب بالمقام إذ يكون الانتقال - من إحدى الصفتين إلى الأخرى - انتقالاً طبيعياً قد مهد له ورشح.
لكنه خالف.
فجاء أسلوبه على غير المختار.
وكذلك رد العجز على الصدر، فإن الآية التي هي موضع المقارنة ردت آخر
كلمة في العبارة على أول كلمة بعد أداة السلب فيها.
بينما البيت رد أول كلمة من الشطر الثاني بعد أداة النفى على أول كلمة فى
البيت.
فأنت ترى أن الآية ردت العجز فعلاً على الصدر، بينما البيت إنما يعتبر فيه
العجز مع شيء من التسامح.
فإطلاق ضابط المحسن البديعى - رد العجز على الصدر - في " الآية "
أكثر اتساقاً منه في " البيت " وهذا ملحظ دقيق جداً.
(د) ليس في الآية ما في البيت من التكرار. ققد وقع التكرار في البيت
فى موضعين تكرر أحدهما مرتين وهو: " ننكر "، " ينكرون "، وتكرر
ثانيها ثلاث مرات وهو: " قولهم "، " القول "، " نقول ".
بينما الآية لم يتكرر فيها سوى موضع واحد، وهو تكرار لا فضول فيه إذ أن
الكلمة المكررة " يُسْئَل " و " يُسْئَلُون " تؤدى معنى أساسياً في الموضعين
وهذا وإن جاز اعتباره في البيت في: " ننكر "، " ينكرون "، فلا يجوز
بحال من الموضع الثاني: " قولهم "، " القول "، " نقول ".
(هـ) في الآية موسيقى داخلية شجية تلحظها بين اللامين في " يُسئل "،
و" يفعل " مع سهولة نطق ألفاظها وسلاستها.
وهذا الجانب غير واضح في البيت. بل هو - على العكس من الآية -
خشونة في الألفاظ.
ثانياً - من حيث المعنى:
(أ) في الآية التعبير بالفعل دون القول. وفي البيت التعبير بالقول دون
الفعل. والفعل أعم من القول فهو يشمل، والقول لا يشمل الفعل.
وهذا يسلمنا إلى الموازنة بين الموضعين من حيث المعنى، بعد أن وازنا بينهما من حيث أسلوب التعبير. فالآية أعم في المعنى من البيت، فليس هناك مأخذ
يتوجه إليها إذ ثبت المراد منها في دقة وإحكام.
فالله كامل الإرادة، مطدق التصرف، لا يسأله أحد عن فعل يفعله أو قول
يقوله لأن سلطانه على العالمين قائم.
أما الناس فليسوا مطلقى التصرف، ولا كاملى الإرادة، فالله يسألهم عما
يقولون وعما يفعلون ولا محالة.
وقد يسأل بعضهم بعضاً بما لأحدهم على الآخر من قوامة.
وهذا العموم فى تعيين السائل مأخوذ من بناء الفعل للمفعول ولو ذكر الفاعل لوجب الالتزام به.
فانظر إلى الأسلوب القرآني ودلالة ألفاظه كيف تكون.
(ب) ثلاثة مأخذ: أما البيت ففيه ثلاثة مآخذ فيما أرى - من حيث المعنى
تتنافى ومقام الفخر.
أولاً: التعبير بالقول دون الفعل حصر منهم للناس فيه دون غيره. والمقام
يقتضي أن تكون له سلطة تمنع الناس القول والفعل وإلا فإن مقومات الفخر عند الشاعر لم تُستكمل.
ثانياً: هو يقول: " وننكر إن شئنا على الناس قولهم "، فكان الأنسب
لتكون المقابلة تامة بين النظائر أن يقول في الشطر الثاني: " ولا ينكرون
قولنا "، لكنه أتى بالألف واللام عوضاً عن المضاف إليه فجاء المعنى
غامضاً الأنه يرد عليه سؤال مؤداه: قول مَن يا ترى الذي لا ينكرونه؟
ثالثاً: لا يدفع هذا الاعتراض بقوله في آخر البيت: " حين نقول " لأنها تبين
أن المراد بالقول قولهم هم لا قول غيرهم لأن هذه العبارة المقام يقتضي حذفها إذ تخص عدم المنع في حالة القول. والأولى أن يكون عدم المنع أو النكران مستمراً قبل وأثناء وبعد القول. هذا أولى ليكونوا أجلاء مهابين في جميع الأوقات، فأنت ترى إذن أن هذه العبارة قلقة أضرت بالمعنى ولم تأت إلا للوزن الشعرى.