الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- أمام فاصلة لم تقف في تكرارها عند حد المرات الثلاث. بل تعدت ذلك
بكثير. لذلك آثرنا أن نبحثها هنا إذ هي بهذا الموضع أنسب. .
ونعتمد في دراستنا لتكرار الفاصلة على ثلاث سور هي: " الرحمن - القمر
- المرسلات "، وهي السور التي برزت فيها هذه الظاهرة الأسلوبية. بشكل لم يبد في غيرها، كما ورد فيها.
فقد تكررت: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في " الرحمن ".
وتكررت (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابىَ وَنُذُرِ) في " القمر ". وتكررت:
(وَيْل يَوْمئِذ للمُكَذبِينَ) في " المرسلات ".
*
تكرار الفاصلة في " القمر
":
ولهذا التكرار في المواضع الثلاثة أسباب ومقتضيات.
ففى سورة " القمر " نجد العبارة المكررة وهي: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُر)
قد صاحبت فى كل موضع من مواضع تكرارها قصة عجيبة الشأن، وكان أولَ موضع ذكِرت فيه عقب قصة قوم نوح. وبعد أن صوَّر القرآن مظاهر الصراع بينهم وبين نوح عليه السلام ثم انتصار الله لنوح عليهم.
حيث سلط عليهم الطوفان. فأغرقهم إلا مَن آمن وعصمه الله.
ونجد أن الله نجَّى نوحاً وتابعيه. ولكن تبقى هذه القصة موضع عظة وادكار.
ولتلفت إليها الأنظار وللتهويل من شأنها جاء قوله تعالى عقبها: (فَكَيْفَ
كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) مُصدراً باسم الاستفهام " كيف " للتعجيب مما كان،
ولقد مهَّد لهذا التعجيب بالآية السابقة عليه. وهي قوله تعالى: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) ؟.
والموضع الثاني لذكرها حين قصَّ علينا القرآن قصة عاد وعتوها عن أمر ربها.
وفي " عاد " هذه نجد العبارة اكتنفت القصة بدءاً ونهاية.
قال تعالى:
(كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) ؟.
وتكرار العبارة - هكذا - في البداية والنهاية مخرج لها مخرج الاهتمام.
مع ملاحظة أن أحداث القصة - هنا - صُورت في عبارات قصيرة ولكنها
محكمة وافية. . ولم يسلك هذا المسلك في قصة نوح - أعنى قصر العبارات - والسبب - فيما يبدو لى - أن إهلاك قوم نوح كان بالإغراق في الماء. وهي وسيلة كثيراً ما تكون سبب هلاك. فقد كانت سبب هلاك فرعون وملئه. .
أما أن يكون الإهلاك بالريح فذلك أمر يدعو إلى التأمل والفكر.
ولعل مما يقوى رأينا هذا. أن هذه القصة - قصة عاد - وردت في موضع
آخر من القرآن يتفق مع هذا الموضع من حيث الفكرة، ويختلف معه - قليلاً - من حيث طريقة العرض وزيادة التفصيل.
جاء في الحاقة: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) ؟.
فإرسال الريح - هكذا - سبع ليال وثمانية أيام حسوماً مدعاة للعظة
والاعتبار.
ومثله: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) .
(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) .
فقد بطرت " عاد " نعَم ربها عليها. وغرها ما هي فيه من أسباب التمكين
فى الأرض وقوة البطش أن تبارز ربها ومولى نعمها بالمعاصي، فأهلكها الله
بما لا قِبَل لها به. وفي كل موضع يذكر القرآن فيه قصة هؤلاء تأتى عباراته
قوية هادرة واعظة زاجرة. .
جاء في موضع آخر: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) .
وكانت عاقبتها خسراً وهلاكاً مع مَن طغى في الأرض بغير الحق: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) .
أما الموضع الأخير الذىَ ذكِرت فيه هذه العبارة: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى
وَنُذُرِ) فحين قصَّ الله علينا قصة " ثمود "، وقد جاءت فيها كذلك مهيئة
لتلقى صورة العقاب بعد التشويق إليها عند السامع. ولفت نظره إليها:
(فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) .
ومن هنا ندرك شدة اقتضاء المقام لهذا التكرار.
فليست إحدى العبارات فى موضع بمغنية عن أختها في الموضع الآخر.
إنما هو اتساق عجيب تطلبه المقام من الناحيتين: الدينية والأدبية.