الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم علق الزركشي على كلام القاضي بقوله: " انتهى. وفيه نظر ". .
لكنه لم يبين وجه النظر المخالف ولعله أراد أن بين الآيتين ارتباطاً ظاهراً،
وليستا من قبيل الاستطراد، فإن كانت هذه وجهة نظر الزركشي فنحن معه.
وإلا فإن عبارته في حاجة إلى إيضاح والحق يقال. . فصاحب البرهان قد أشار إلى مقصد عام وهام في مسألة الجمع بين المعاني التي يبدو عليها عدم التناسب في الظاهر.
وإن كان عزا ما ذكره إلى أنه نوع من الاستطراد.
قال: " ومنه الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطاً
للسامع كقوله تعالى: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) .
فإن هذا القرآن نوع من الذكر لما انتهَى ذكر الأنبياء، وهو نوع من التنزيل أراد أن يذكر نوعاً آخر وهو ذكرَ الجنة وأهلها فقال:(هَذَا ذكْر)
فأكد تلك الإخبارات باسم الإشارة.
* *
*
رد جديد على الشُّبهة:
فيما مضى قدر كاف مما ذكره العلماء في هذا الموضوع.
فلندل بدلونا فيه بأمثلة غير التي تقدمت لهم.
ولنعمد أولاً إلى وحدة كاملة (سورة) من وحدات القرآن نتخذ منها شعاعاً
لمعرفة ما في التنزيل الحكيم من أسس قوية للربط بين المعاني والأحكام بين
الصياغات المختلفة.
بسم الله الرحمن الرحيم
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) .
والمتأمل في هذه السورة يستطيع أن يحللها إلى العناصر الآتية:
1 -
مقدمة قصيرة من آية واحدة مصدرة باستفهام تشويقي لما بعدها.
ولإثارة الشعور والاستعداد النفسي لموضوع الحديث.
2 -
إجابة على هذا الاستفهام التشويقي المثير، وقد استعدت النفس لتلقى
هذه الإجابة واشتاقت إليها.
وهذه الإجابة تشتمل على جزئين أساسيين:
أولهما: حديث عن المكذبين وما يعتريهم يوم الحشر من أسى.
وما أُعِد لهم فى النار من شراب وطعام.
ثانيهما: حديث عن المؤمنين الصادقين وما يغمرهم من سرور يوم الجزاء،
وما أعد الله لهم من مظاهر النعيم في دار الرضوان.
3 -
عود للحديث عن المكذبين موبخاً لهم في أنهم صائرون إلى ما صاروا
إليه، وعندهم من الآيات ما لو تأملوها لآمنوا وصدقوا، ولأنقذوا أنفسهم من العذاب المؤلم والمصير المهين.
4 -
إرشاد للنبى عليه الصلاة والسلام، يبيِّن له حدود وظيفته، ويحثه على
المضي في الدعوة غير آبهٍ بكفر مَنْ كفر، ولا إعراض مَنْ أعرض.
5 -
خاتمة فيها للنبى تسلية. وللمكذبين وعيد شديد. لو تدبروه لكفوا عما
هم فيه ولدخلوا في زُمرة المهتدين.
هذه أغراض خمسة رئيسية اشتملت عليها السورة الواعظة منذرة ومبشرة
ومرشدة.
والمتأمل يدرك في وضوح أن علاقة العنصر الثاني بجزئيه - عقاب العصاة،
وإثابة المصدِّقين - بالمقدمة القصيرة المثيرة هي علاقة الجواب بالسؤال لأن هذا
الاستفهام: (هَلْ أتَاكَ حَديثُ الغَاشيَة) ؟ يلزمه سؤال من النبي عليه
السلام. فكأنه قال: لا. لم يأَتني. فكان الجواب: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) .
وهذا هو الجزء الأول من العنصر الثاني.
أما الجزء الثاني فهو: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) .
وبهذا استوفى الحديث أركانه: سؤال وجواب عن أهل النار، أو كالسؤال
والجواب.
ويلاحظ الباحث أن الجزء الثاني - وهو الحديث عن أهل الإيمان - لم يعطف
عن نظيره المقدم عليه. وهو الحديث عن أهل الكفر.
وكان من حقه أن يعطف عليه لأنه قسيمه.
فلماذا إذن قدم الحديث عن أهل النار. وأخر الحديث عن أهل الجنة ولم
يعطف اللاحق على السابق؟ سؤال هام.
أما التقديم فبداهة أنه ليس للتكريم. . بل لداع بياني أراه فيما يأتى:
فقد تصدر السورة هذه الآية: (هَلْ أتَاكَ حَديثُ الغَاشيَة) .
والغاشية هى القيامة بأهوالها الشداد أو هي النار المحرقة. كما نص على ذلك
المفسرون، وفي التنزيل ما يقوى كلَا التفسيرين فقد جاء فيه:
(يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العَذَابُ)، وجاء فيه: َ (وَتغْشَى وُجُوهَهُمُ النارُ)
بَيْدَ أن إرادة القيامة هنا أولى للتقسيم الذي بعدها.
فإذا استقر ذلك فإن الأولى بالتقديم من الفريقين هو فريق النار لتتلاءم
الألفاظ، فالشدائد يناسبها خشوع الوجوه لا نعومتها. إرهاقها لا سرورها
ورضاها. أما ترك العطف بين القسمين فأرجح أن يكون لتغاير الفريقين تغايراً
تاماً في جميع الأحوال: كفر وإيمان، صلاح وفساد، ذل وإرهاق، وكرامة
وسرور، نار حامية وجنة عالية، عين آنية وعين جارية. . .
ولو عطف الفريق الثاني على الفريق الأولى لتوهم متوهم اشتراكهما في شيء
أى شيء من أجله صح العطف. ولدفع هذا التوهم ترك العطف في الظاهر، وإن بقى مقدَّراً منوياً كما يرى بعض العلماء.
ولما كان القرآن كتاب هداية وإرشاد. فإن منهج التريية الدينية والخُلقية فيه
يقتضي تقديم بعض النصح ليهتدي الضال بعد أن بانَ له ما أُعدَّ لأمثاله من
العذاب.
لذلك ناسب أن يلفت القرآن أنظارهم لفتاً قوياً إلى آيات القُدْرة التي تهدى
إلى الإيمان فجاء قوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) .
ذلك نصحه لمن ضَلَّ. .
والآن أفتظن أن القرآن يهمل صاحب الدعوة - محمداً عقلي - وقد أجهد
نفسه في هداية هؤلاء.
لقد ذكر القرآن على سمعه هذه الآيات العظام التي يشاهدونها ولا يتأملونها
، يمرون عليها صباح مساء وهم عنها غافلون. إنه متابع باهتمام هذه النُّذُر،
وهذا التبشير واع لما ذكره الله من آيات وأعرض عنها القوم.
ألم يذكرهم بها فلم يهتدوا. ماذا بقى الآن؟
أيستخدم معهم أسلوباً آخر غير الكلمة والذكرى؟
أيترك هذه الذكرى التي لم يقدروها حق قدرها؟
لم يترك القرآن صاحب الرسالة في حيرة من أمره.
بل يقدم له التوجيه الرشيد فيلتفت إليه قائلاً: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) .
وهذا تثبيت لنفس النبي عليه السلام. حين يبيِّن له ربه أن سلطان الذكرى هو عنوان الرسالة، ولكن هناك خاطراً لم يزل في نفس الداعي الحريص على هداية الناس المخلص لهم في النصح.
. . . وهؤلاء يا رب. . . هؤلاء العتاة الذين لم يثمر فيهم نصح.
ولم يزعنوا لإصلاح. . وهنا يواصل القرآن إتمام الصورة:
(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) .
ولكن كيف ذلك؟
(إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) .
وهنا يُسدل الستار. مرحلة بدأت ثم انتهت. وبين البدء والنهاية
صور ومشاهد تلتئم كلها برباط وثيق.
كل مشهد يسلم للذى وراءه. . وهكذا تتابع المناظر في إطار واقعى
أو إرشادى أو نفسي. إطار مهما كانت خيوطه فإنه من وحدة واحدة.
ذلك دأب القرآن في الربط بين المعاني في السورة الواحدة.
*