الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس الأوقاف في العصر الزنكي (511 - 569 هـ / 1118 - 1174 م)
يمثِّل العصر الزنكي محطة مهمة من محطات التاريخ الإسلامي، ويمثل علامة فارقة ونقطة مضيئة في تاريخ الأمة، فقد قاد حكام هذا العصر حركة شمولية للتحرر؛ تحرير الأوطان من الاستعمار الصليبي، وتحرير الإنسان من الجهل والفقر والمرض، وقد أدركوا بأنه لا يمكن دحر الصليبين إلا بجبهة موحدة، لا يشعر فيها أحد من أفراد الأمة بالتهميش أو الإقصاء أو الإلغاء؛ لذا تضافرت جهود الحكام مع جهود أبناء الأمة في برنامج لإحياء روح التكافل، عن طريق تلمُّس حاجات الشرائح الضعيفة وسدِّ خلتها، فكثرت الأوقاف وتنوعت لتشمل مختلف جوانب حياة الناس، بخاصة في زمن الملك العادل "نور الدين محمود زنكي"(541 - 569 هـ/ 1149 - 1174 م)، الذي اشتُهرت الدولة في عهده بالحرص على فعل الخيرات، ويناء المبرات والمنشآت والمرافق العامة، وتمويلها عن طريق الأوقاف، فقد أمر "نور الدين" بإنشاء المدارس والخانقاوات والبيمارستانات، وأكثر منها في كل بلد، ووقف عليها الوقوف الكثيرة، وأمر ببناء الريط والخانات في الطرق؛ لخدمة المسافرين وأبناء السبيل المنقطعين
(1)
.
لقد تعددت في هذا العصر المدارس الموقوفة بتعدد العلوم الشرعية، والمذاهب الفقهية، التي لا يزال بعضها ماثلًا للعيان حتى الآن في دمشق وغيرها من المدن، وكان القائد "نور الدين زنكي" في طليعة المحبسين لبناء المدارس، فبنى عديدًا من المدارس في دمشق، وحمص، وحماة، وحلب، وبنى المدرسة العادلية والمدرسة النورية للأحناف بدمشق، والجامع النوري بالموصل
(2)
، ودار الحديث في دمشق، وهي أول دار للحديث في الإسلام، وبنى مكاتب كثيرة للأيتام وأجرى عليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة، وبني كثيرًا من المساجد ووقف عليها وعلى من يقرأ بها القرآن
(1)
انظر: التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية بالموصل، عز الدين علي بن الأثير، تحقيق: عبد القادر أحمد طليمات، القاهرة، دار الكتب الحديثة، 1963 م، 171.
(2)
انظر: الأعلام، خير الدين الزركلي، 8/ 46.
أوقافًا كثيرة، يقول العماد الأصفهاني:"ولو شُغلت بإحصاء وقوفه وصدقاته في كل بلد؛ لطال الكتاب ولم أبلغ إلى حدٍّ"
(1)
، وهناك من يذكر أن وقوف نور الدين زنكي بلغت في عام 608 هـ/ 1212 م تسعة آلاف دينار صورية في كل شهر
(2)
.
ومن أجلِّ أوقاف "نور الدين زنكي" التي تعبر عن شفافية أحاسيسه وتعاطفه مع الضعفاء والفقراء؛ ذلك القصر الجميل الذي بناه بريوة دمشق للفقراء، فإنه لما رأى قصور الأغنياء عزَّ عليه ألا يستمتع الفقراء مثلهم بالحياة في مثل هذه القصور، فعمر ذلك القصر، ووقف علية قرية "داريا"؛ وهي أعظم قرى الغوطة وأغناها، وظلت "داريا" وقفًا عامًا على فقراء دمشق تفرق غلاتها على الفقراء إلى القرن الحادي عشر الهجري
(3)
.
ولعل "البيمارستان الكبير النوري" الذي وقفه "نور الدين زنكي" في دمشق يعدُّ أكبر الأوقاف الصحية التي شهدتها دمشق للفقراء والضعفاء، وقد جاء في شرط وقفه: أنه على الفقراء والمساكين، وإذا لم يجد بعض الأدوية التي يعجز وجودها إلا فيه، فلا يمنع منه الأغنياء، ومن جاء إليه مستوصفًا فلا يمنع من شرابه، ويذكر ابن كثير: إنه لم تخمد منه النار منذ أن بُني عام 1549/ 1154 م إلى زمان ابن كثير، الذي توفي عام 1774/ 1373 م
(4)
.
وقد وصف ابن جُبير البيمارستان النوري عندما دخل دمشق عام 580 هـ/ 1184 م؛ فقد قال: "وبها بيمارستان قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما، وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر دينارًا، وله قومه، وبأيديهم الأزمَّة المحتوية على أسماء
(1)
انظر: سنا البرق الشامي (هو مختصر البرق الشامي للعماد الأصفهاني)، قوام الدين الفتح بن علي البنداري الأصفهاني، القسم الأول، تحقيق: رمضان ششن، بيروت دار الكتاب الجديد، 1971 م، 144.
(2)
انظر: الروضتين في أخبار الدولتين، شهاب الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل أبو شامة، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1997 م، 1/ 23.
(3)
انظر: خطط الشام، محمد كرد علي، 5/ 97.
(4)
انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، حوادث سنة 569 هـ
المرضى، وعلى النفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية .. وغير ذلك، حسبما يليق بكل إنسان منهم، والأطباء يبكِّرون إليه كل يوم، ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يُصلحهم من الأدوية والأغذية، وللمجانين المعتقلين أيضًا ضرب من العلاج، وهذا البيمارستان مفخرة عظيمة من مفاخر الإسلام
(1)
، وقد ألحق "نور الدين زنكي" بالبيمارستان النوري مكتبة غنية بالكتب المتنوعة، فقد كان هذا البيمارستان مدرسة طبية عمل فيها خيرة الأطباء آنذاك
(2)
.
لقد كان "نور الدين زنكي" قدوة حسنة لرعيته في أعمال البر والإحسان؛ فقلدته حاشيته ورعيته، وتأسوا به في بناء المرافق الخادمة لشرائح المجتمع المختلفة، فقام على سبيل المثال "أسد الدين شيركوه الكبير" بوقف "المدرسة الأسدية" بدمشق حوالي عام 564 هـ / 1169 م
(3)
، كما وقف الوزراء عديدًا من الأوقاف؛ ولعل من أشهرهم: أبو الفضل الشهرزوري، وعبد الله بن أبي عصرون، وغيرهم من كبار رجال الدولة، وحذا حذوهم نساؤهم، فوقفت "الست خاتون عصمت الدين" زوجة نور الدين زنكي المدرسة الخاتونية الجوانية، وخانقاه خاتون بباب النصر، وأوقافًا كثيرة في دمشق
(4)
، أما المدرسة الخاتونية البرانية فقد وقفتها "الست زمرد خاتون" زوجة عماد الدين زنكي والدة نور الدين محمود زنكي، وقفتها على المذهب الحنفي بدمشق، ووقفت "خاتون" ابنة نور الدين أرسلان ابن أتابك الموصل عام 640 هـ / 1243 م "المدرسة الأتابكية"، كما بنت "دار الحديث الأشرفية" التي درس فيها كبار العلماء فيما بعد؛ أمثال: الذهبي، والسبكي، وابن الصلاح
(5)
.
(1)
انظر: رحلة ابن جبير، ابن جبير، 256.
(2)
انظر: الوقف وبنية المكتبة العربية - استنباط للموروث الثقافي، يحيى محمود ساعاتي، 107، تاريخ البيمارستانات في الإسلام، أحمد عيسى، 206 - 227.
(3)
انظر: الدارس في تاريخ المدارس، عبد القادر بن محمد النعيمي الدمشقي، 2/ 3 و 10.
(4)
انظر: مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، شمس الدين أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي، 8/ 385، والبداية والنهاية، ابن كثير، 12/ 339.
(5)
انظر: الدارس في تاريخ المدارس، عبد القادر بن محمد النعيمي الدمشقي، 1/ 315.
واشتهرت في بلاد الشام في العهد الزنكي خوانق عديدة، في كل من دمشق وحلب وغيرهما من المدن الشامية، وكانت مثار إعجاب الرحالة المارين بها، وممن سجل إعجابه بها الرحالة الأندلسي "ابن جبير" حين زار الشام عام 580 هـ/ 1184 م
(1)
، كما يلاحظ في هذا العصر والعصور التي تلته انتشار ظاهرة الوقف على الريط في مختلف الأرجاء، والتي اشتهرت بتقديم خدمات اجتماعية وتعليمية رائدة، ومن هذه الربط على سبيل المثال:"رباط قصر حرب" بالموصل، الذي كان مقصدًا لطلاب العلم في هذا العصر
(2)
، وهنالك من الريط ما كان مخصصًا لسكن الفقراء في المدينة المنورة، مثل الرياط الذي وقفه الوزير "جمال الدين الأصفهاني"(ت 559 هـ/1164 م) وخصصه للفقراء والزائرين، ووقف عليه الأوقاف المناسبة للصرف عليه
(3)
، ومن الربط ما كان مخصصًا للنساء؛ ومن أشهرها "رباط عذراء خاتون" داخل باب النصر بدمشق، وقد كان في كل رباط من هذه الريط شيخة تتولى تعليم النساء المقيمات في الرباط وتثقيفهن، وكانت هذه الرُّبط تخضع لأنظمة صارمة، تحرص على حفظ النزيلات وصيانة حرمتهن
(4)
.
ومما تقدم يمكن ملاحظة أن نشاط الزنكيين انصبَّ على الاستفادة من الوقف في تنشيط حركة التعليم: من خلال تكثيف وقف المساجد والمدارس والرُّبط بالدرجة الأولى، وإن كان نشاطهم الوقفي في المجالات الحضارية الأخرى لا يمكن الاستهانة به، فقد كان نشر المعرفة جزءًا من مشروع "نور الدين زنكي"، الذي كان يهدف إلى تطهير بلاد الشام من الاستعمار الصليبي، والذي رأى أنه لا يتم إلا بنشر المعرفة والعلم وإحياء الدين في نفوس أبناء الأمة.
(1)
انظر: رحلة ابن جبير، ابن جبير، 257.
(2)
انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان، 4/ 142، والكامل في التاريخ، ابن الأثير، بيروت 1978 م، 5/ 20.
(3)
انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان، 5/ 143 - 145.
(4)
انظر: الأعلام الخطيرة، ابن شداد، قسم دمشق، 196.