الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وزاد الاصطخري هذا التوجيه توضيحًا بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم غايرَ بين اللفظين في قصة عُمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فاستعمل التحبيس في الأصول والرقاب، والتسبيل في الثمار، أو يقال: عنى بالتسبيل صرف الثمار إلى السابلة، وأن التسبيل من السبيل، وهو لفظ مبهم، والتحبيس معناه: حبس الملك في الرقبة عن التصرفات المزيلة، فكان في معنى الوقف
(1)
.
2 -
أن لفظ التسبيل من الألفاظ المشتركة التي تطلق على الوقف وغيره، فاحتاج تخصيصه بالوقف إلى قرينة أو نية، قال الكفوي: الأصل في السبيل: الطريق، والحجة، ومنه قوله تعالى:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا"
(2)
، ويطلق "في سبيل الله" على الجهاد
(3)
.
اللفظ الثالث: لفظ "التصدق
":
الوقف بلفظ التصدق إما أن يكون مجردًا، وإما أن يكون مقيدًا بلفظ آخر.
1 -
فإن صدر مجردًا؛ فقد اختلف الفقهاء في انعقاد الوقف به: فذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية في المذهب، إلى أن لفظ "التصدق" المجرد لا يحصل به الوقف وإن نواه؛ لأن هذا اللفظ صريح في التمليك المحض، فلا ينصرف إلى الوقف بنية قائله
(4)
.
(1)
انظر: نهاية المطلب في دراية المذهب، أبو المعالي ركن الدين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني الملقب بإمام الحرمين، 8/ 342 - 343.
(2)
سورة النساء، آية 141.
(3)
انظر: الكليات، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي الحنفي، 512 - 513.
(4)
انظر: فتح القدير شرح الهداية، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، 6/ 202، والجوهرة النيرة على مختصر القدوري، أبو بكر بن علي بن محمد الحداد اليمني، 1/ 335، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن نجيم المصري، 5/ 205، وجامع الأمهات، أبو عمرو جمال الدين عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس بن الحاجب الكردي، اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع، ط 2، 1421 هـ/ 2000 م، 449، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب الرعيني، 6/ 28، والمهذب في فقه الإمام الشافعي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، 2/ 326، والبيان في مذهب الإمام الشافعي، أبو الحسين يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليمني الشافعي، 8/ 73، وتحفة المحتاج في شرح المنهاج، (بأعلى الصفحة: كتاب "تحفة المحتاج في شرح المنهاج"، لابن حجر الهيتمي، =
وقال السرخسي: "لا خلاف أنه لو قال: تصدقت بأرضي هذه على الفقراء والمساكين، أنه لا يكون وقفا، بل يكون ذلك نذيرًا بالصدقة إذا قصد به الإلزام، فإن عيّن إنسانًا فهو تصدق عليه بطريق التمليك، ولا يتم إلا بالتسليم"
(1)
، وذكر الحطاب أنه إذا تجرد لفظ الصدقة عن ذلك القيد فإنه لا يفيد الوقف
(2)
.
وذهب الحنابلة، وبعض الشافعية منهم السبكي، والزيدية، والإمامية إلى أن لفظ "تصدقت" من كنايات الوقف؛ لأن لفظ الصدقة مشترك، فإنه يستعمل في الزكاة والهبات، ولم يثبت لهذا اللفظ عُرف الاستعمال، فلا يحصل الوقف بمجرده؛ ككنايات الطلاق فيه، فإن انضمت إليه قرينة تزيل الاشتراك؛ حصل الوقف به
(3)
.
= بعده مفصولًا بفاصل: حاشية الإمام عبد الحميد الشرواني، بعده مفصولًا بفاصل: حاشية الإمام أحمد بن قاسم العبادي) أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي، المكتبة التجارية الكبرى بمصر لصاحبها مصطفى محمد، 1357 هـ/ 1983 م، 6/ 250، وأسنى المطالب في شرح روض الطالب، زين الدين أبو يحيى زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري السنيكي، 2/ 462.
(1)
المبسوط، شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، دار المعرفة، بيروت، 1406 هـ./ 1986 م، 12/ 32.
(2)
انظر: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب الرعيني، 6/ 28، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، 4/ 87.
(3)
انظر: الهداية على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، محفوظ بن أحمد بن الحسن، أبو الخطاب الكلوذاني، 336، والمغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، 8/ 189، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، 5/ 5، وكشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، 4/ 242، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهي، مصطفى بن سعد بن عبده الدمشقي الحنبلي، المكتب الإسلامي، 1415 هـ، / 1994 م، 4/ 273 - 274، والبحر الزخار الجامع لمذاهب الأمصار، أحمد بن يحيى بن المرتضي، 5/ 150، وشرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار، أبو الحسن عبد الله بن مفتاح، 3/ 463، ومفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة السيد محمد جواد الحسيني العاملي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران، ط 1، 1429 هـ، 9/ 3، وأسنى المطالب في شرح روض الطالب، زين الدين أبو يحيى زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري الستيكي، 2/ 462.
وصرّح الإمامية بأنه لو نوى الواقف بلفظ "تصدقت" الوقف وقع باطنًا؛ ودِين بنيته لو ادعاه أو ادعى غيره
(1)
.
والحنابلة وإن كانوا يعتبرون لفظ "تصدقت" من كنايات الوقف، إلا أنهم يقولون: إن لفظ "تصدقت" يختلف عن بقية كنايات الوقف في أن بقية الكنايات إذا قال الواقف: أردت الوقف، يتم الوقف، ولا يلتفت إلى إنكار الموقوف عليه، بخلاف لفظ "تصدقت" حيث يؤثر فيه إنكار المتصدق عليه، فقال الرحيباني: فلو قال رب دار: تصدقت بداري على زيد، ثم قال المتصدق: أردت الوقف، وأنكر زيد وقال: إنما هي صدقة، فلي التصرف في رقبتها بما أريد؛ قُبل قول زيد، ولم يكن وقفا؛ لمخالفة قول المتصدق للظاهر؛ لأن زيدًا يدعي ما اللفظ صريح فيه، والواقف يدعي ما هو كناية فيه، فقدمت دعوي زيد، لكن إن كان الواقف قد نوى الوقف؛ كان وقفًا باطنًا، وحصل له ثواب الوقف؛ وبهذا يعلم الفرق بين (تصدقت) وغيرها من بقية الكنايات التي ليست صريحة
(2)
.
2 -
أما إذا صدر لفظ الصدقة مقترنًا بقيد فقد اتفق الفقهاء على انعقاد الوقف به في الجملة؛ لأن القيد إنما هو بمثابة قرينة تزيل الاشتراك
(3)
.
وللفقهاء تفصيل في كيفية التقييد وما يفيده:
فقد ذكر الحنفية للوقف بلفظ "الصدقة" المقيد سبعة صور:
(1)
انظر: اللمعة الدمشقية، السعيد محمد بن جمال الدين مكي العاملي، 3/ 164.
(2)
انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، 5/ 5، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، مصطفى بن سعد بن عبده الدمشقي الحنبلي، 4/ 273 - 275.
(3)
انظر: أحكام الوقف، هلال الرأي بن يحيى بن مسلم، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند ط 1، 1355 هـ، 4 وما بعدها، وأحكام الأوقاف، أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 16، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن نجيم المصري، 6/ 205 - 206، وفتح القدير شرح الهداية، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، 6/ 202.
فلو قال الواقف: أرضي هذه صدقة موقوفة مؤبدة على المساكين؛ فلا خلاف في انعقاد الوقف به، ولو قال: صدقة موقوفة؛ فهلال الرأي وأبو يوسف على صحة الوقف به؛ لأنه لما ذكر "صدقة" عرف مصرفه، وانتفى بقوله "موقوفة" احتمال كونه نذرًا، ولو قال: حبس صدقة، أو صدقة محرمة، فهما كصدقة موقوفة، ولو قال: صدقة موقوفة في الحج عني، والعمرة عني؛ يصح الوقف، ولو لم يقل: عني؛ لا يصح الوقف، ولو قال: صدقة لا تباع؛ تكون ندرًا بالصدقة، لا وقفا، ولو زاد: ولا توهب ولا تورث، صارت وقفًا على المساكين، ولو قال: هذه بعد وفاتي صدقة، يتصدق بعينها، أو تباع ويتصدق بثمنها.
وقال المالكية: لفظ الصدقة لا يفيد التأبيد إلا إذا قارنه قيد؛ كقوله: لا يباع ولا يوهب، أو جهة لا تنقطع؛ كصدقة على الفقراء والمساكين وطلبة العلم والمجاهدين، ويسكنونها ويستغلونها، أو على مجهول ولو كان محصورًا؛ كـ: على فلان وعقبه، وغير المحصور؛ كـ: على أهل المدرسة الفلانية أو الرباط الفلاني، فإن كان على معيّن؛ كقوله: هذه صدقة على فلان .. فهي له ملك
(1)
.
وصرّح الشافعية "بأن لفظ: تصدقت بهذه البقعة، ليس بصريح، فإن زاد معه شيئًا، فالزيادة لفظ أو نية؛ فأما اللفظ ففيه أوجه: أصحها: إن قرن به بعض ألفاظ نحو: صدقة محرّمة أو محبسة أو موقوفة، أو قرن به: حكم الوقف، فقال: صدقة لا تباع ولا توهب .. التحق بالصريح؛ لانصرافه بهذا عن التمليك المحض؛ لأن لفظ التصدق مع هذه القرائن لا يحتمل غير الوقف، والوجه الثاني: لا يكفي قوله: صدقة محرمة أو مؤيدة، بل لا بد من التقييد بأنها لا تباع ولا توهب، والثالث: لا
(1)
انظر: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب الرعيني، 6/ 28، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، 4/ 84، وبلغة السالك لأقرب المسالك (حاشية الصاوي)، أبو العباس أحمد بن محمد الخلوتي الشهير بالصاوي المالكي، 4/ 103، وحاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، أبو الحسن علي بن أحمد بن مكرم الصعيدي العدوي، دار حصادر، بيروت، 2/ 264.
يكون صريحًا بلفظ ما؛ لأنه صريح في التمليك المحض، وأما النية، فإن أضاف إلى جهة عامة بأن قال: تصدقت به على المساكين، ونوى الوقف .. فوجهان؛ أحدهما: أن النية لا تلتحق باللفظ في الصرف عن صريح الصدقة إلى غيره، وأصحهما: تلتحق فيصير وقفًا، وإن أضاف إلى معين فقال: تصدقت عليك، أو قاله لجماعة معينين .. لم يكن وقفًا على الصحيح، بل ينفذ فيما هو صريح فيه، وهو التمليك المحض
(1)
.
ووافق الإباضية الشافعية في انعقاد الوقف بلفظ تصدقت، إذا أضافه إلى جهة عامة ونوى، فقد جاء في شرح النيل:"ولو قال: تصدقت به على المساكين، ونوى الوقف، فعندنا أنه وقف، وأصح وجهي الشافعية، والوجه الآخر أنها صدقة"
(2)
.
وذهب الحنابلة إلى أنه إذا انضم إلى لفظ "الصدقة" أحد ثلاثة أشياء؛ فإنه يحصل الوقف به: أحدها: أن ينضم إليه لفظ آخر يخلصه للوقف، فيقول مثلًا: صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، أو محرمة، أو مؤبدة، الثاني: أن يصف الصدقة بصفات الوقف، فيقول: صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث؛ لأن هذه القرينة تُزيل الاشتراك، الثالث: أن ينوي الوقف، فيكون على ما نوى، إلا أن النية تجعله وقفًا في الباطن دون الظاهر؛ لعدم الاطلاع على ما في الضمائر
(3)
.
وصرّح الإمامية بأنّه لو قال الواقف: جعلته صدقة مؤبدة محرمة، كفي؛ لأنه كالصريح، أما لفظ "تصدقت" المجرد فإن انعقاد الوقف عندهم يفتقر إلى قرينة؛ كالتأبيد، ونفي البيع والهبة والإرث، فيصير بذلك صريحًا
(4)
.
(1)
انظر: روضة الطالبين وعمدة المفتين، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، 5/ 323، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، 2/ 382.
(2)
شرح النيل وشفاء العليل، محمد بن يوسف أطفيش، 12/ 453.
(3)
انظر: المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، 8/ 189، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، 7/ 5 - 6.
(4)
انظر: اللمعة الدمشقية، السعيد محمد بن جمال الدين مكي العاملي، 3/ 164.