الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع الأوقاف في الدولة العثمانية (687 - 1343 هـ / 1288 - 1924 م)
وصلت الأوقاف في الدولة العثمانية قمة ازدهارها؛ من حيث التنظيم والإدارة، وسعة الانتشار، وظهور أنواع جديدة من الوقف لم تكن معروفة في العصور الماضية؛ مثل وقف النقود، كما شهد هذا العصر ميلاد عديد من المجمعات الوقفية الكبرى، والتي كانت نواتها في العصر المملوكي، خصوصًا في الحرمين الشريفين والقدس الشريف، كما شهد هذا العصر ميلاد خط سكة حديد الحجاز؛ الذي يعد أكبر مشروع وقفي يخدم الطرق في تاريخنا الإسلامي، كما حرصت الدولة العثمانية على دعم حركة التعليم بوقف الأوقاف على المدارس في مختلف أرجاء الدولة، وحرصت كذلك على تتبع حاجات المجتمع والدولة وسدِّها، من خلال أوقاف لإطعام الفقراء، والعجزة، وخدمة المسافرين، ورصف الطرق، وتجهيز الفتيات الفقيرات للزواج، وسد ديون المعسرين، والإنفاق على السجناء، وبناء المستشفيات، والمساجد، والزوايا، والأربطة، وتأمين حاجة الجيش من البارود، ورعاية الأيتام، ودعم المكتبات .. وغيرها من الأوقاف التي تعبر عن اهتمام العثمانيين وحاشيتهم ووزرائهم وزوجاتهم بالوقف
(1)
.
واهتمت الدولة العثمانية بالأوقاف منذ فترة مبكرة من تاريخها، حيث قام سلاطين آل عثمان بعد تأسيس دولتهم بإحصاء الأوقاف التي كانت موجودة في بلادهم، وأضافوا إليها أوقافًا كثيرة، ويعدُّ الوزير "سنان باشا" أول ناظر للأوقاف في الدولة العثمانية في عهد السلطان "أورخان بن عثمان" عام 779 هـ/ 1358 م، وفي عهد جلبي سلطان محمد الأول أنيطت مهمة الإشراف على الأوقاف القاضي القضاة "جلال الدين محمد"، حيث عُيِّن ناظرًا عامًّا للأوقاف، وبعد فتح القسطنطينية عام 857 هـ/ 1453 م عيَّن السلطان "محمد الفاتح" الوزير الأعظم "محمود باشا" ناظرًا على الأوقاف، وعندما توسعت الأوقاف أُسندت إدارتها إلى رئيس الكتاب، ثم أصبح قاضي العسكر في كل ولاية ناظرّا على الأوقاف.
(1)
انظر: تاريخ الدولة العثمانية، يلماز أوزنوتا، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مؤسسة فيصل للتمويل، إسطنبول، 1990 م، 491.
وفي عام 911 هـ/ 1506 م أسند السلطان "بايزيد الثاني" مهمة الإشراف على الأوقاف في كل الدولة العثمانية لشيخ الإسلام "علاء الدين أفندي"، الذي كان يديرها نيابة عنه موظف يطلق عليه لقب "التذكرجي" الذي كان يراقب أعماله شيخ الإسلام.
وبما أن الحرمين الشريفين كانت في بؤرة الاهتمام العثماني؛ فقد أسسوا لها في عام 994 هـ/1586 م نظارة خاصة أطلق عليها اسم "نظارة الحرمين الشريفين"، حيث كان الآغا لدار السعادة "محمد آغا الحبشي" أول ناظر لها، ثم توسعت إدارة الحرمين وانقسمت إلى أربعة أقسام: مفتشية أوقاف الحرمين، ومحاسبة أوقاف الحرمين، ومقاطعة أوقاف الحرمين، وكتابة دار السعادة.
أما على مستوى إدارة الأوقاف في الدولة العثمانية، فقد شُكِّلت في عام 1241 هـ/1862 م إدارة جديدة للأوقاف باسم "نظارة الأوقاف الهمايونية"، وفُتحت في مراكز الولايات مديريات للأوقاف، وفي هذه الفترة صدرت عدة أنظمة تتعلق بإدارة الأوقاف، واستمرت التعديلات وإصدار التشريعات والقوانين المنظمة لمؤسسة الوقف حتى نهاية الدولة العثمانية، فصدرت عدة قوانين (نظامنامة) متعلقة بوزارة الأوقاف السلطانية (أوقاف همايون نظارات)، في الأعوام: 1305 هـ/1880 م، و 1330/ 1912 م، و 1331 هـ/ 1913 م، و 1332 هـ/ 1914 م، وقد أُلغيت وكالة الأوقاف مع إلغاء الخلافة بتاريخ 30 مارس 1924 م، وبدلًا من هذه الوكالة أُسِّست "رئاسة الشؤون الدينية" و "المديرية العامة للأوقاف".
وكان ناظر الأوقاف في الدولة العثمانية يحتل مكانة عالية، وكان يمثل في مجلس الوزراء ويحضر جلساته، وكانت كلمته نافذة، ويحظى بتقدير السلطان العثماني
(1)
.
وتشير المصادر إلى أن العثمانيين عندما أسقطوا دولة المماليك عام 923 هـ 1517 م كان من أوائل قراراتهم المحافظة على الأوقاف وعدم المساس بها، فقد أصدر
(1)
انظر: تاريخ تشكيل نظارات الأوقاف الهمايونية، ابن الأمين محمود كمال وحسين حسام الدين، إسطنبول، 1225 هـ.
السلطان سليم الأول" (918 - 926 هـ/ 1512 - 1520 م) مرسومًا ينصُّ على عدم التعرض لجهات أوقاف الجوامع والمدارس، والمكاتب والزوايا والرُّبط، وأنواع البر والقربات، وجهات الخير والصدقات
(1)
.
وفي عهد السلطان سليمان القانوني" (926 - 974 هـ/ 1520 - 1566 م) أصدر قانونًا خاصًّا للأوقاف في مصر (قانون نامه مصر)، حدَّد فيه كل ما يتعلق بالأوقاف من عمليات حبس، واستثمار وتصرُّف في ريعها
(2)
.
وتوضح سجلات محكمة الإسكندرية الشرعية أن الأوقاف فيها: كانت تُدار من قبل أربعة موظفين؛ هم: "ناظر الوقف"؛ ويعيَّن من قِبل قاضي محكمة الإسكندرية الشرعية، وهو المشرف العام على الوقف، و "كاتب الوقف"؛ ويختص بكتابة مصاريف الوقف وكتابة كل ما يتعلق بمصالح الوقفية، و "جابي الوقف"؛ ويختص بتحصيل ريع الوقف، و "شاهد الوقف"؛ وهو المراقب على أموال الوقف ومن يعمل فيها
(3)
.
وقد حظيت القدس والحرمان الشريفان بعناية خاصة من قبل سلاطين الدولة العثمانية، ونالها القسط الأوفر من الأوقاف، فقد شهدت مدينة القدس ميلاد أعظم وقفية خيرية في تاريخ القدس؛ وهي "وقفية خاصكي سلطان" زوجة السلطان سليمان القانوني، التي وقفتها في عام 959 هـ/1552 م، وكانت مؤسسة خيرية تربوية دينية متكاملة، فكانت تشتمل على مطبخ يوزع الطعام على الفقراء، ومسجد وخان، ورباط ومدرسة، وقد انتشرت أوقاف هذه التكية في خمسة سناجق من الشام، وبلغ عدد القرى والمزارع الموقوفة على التكية (34) قرية ومزرعة، ما يقرب من نصفها في
(1)
انظر: الأوقاف والحياة الاقتصادية في مصر في العصر العثماني، د. محمد عفيفي، سلسلة تاريخ المصريين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ع 44، 1991 م، 28 - 29.
(2)
انظر: قانون نامه مصر، ترجمة وتقديم وتعليق: أحمد فؤاد متولي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1986 م، 87 - 88.
(3)
انظر: سجلات محكمة الإسكندرية الشرعية، سجل، 14، ص 287 قسم 1010 شوال 987 هـ، سجل 7، ص 384، قسم 625، صفر 981 هـ، سجل 16، ص 244، ص 571، 15 شعبان 970 هـ، والأوقاف والحياة الاقتصادية في مصر في العصر العثماني، د. محمد عفيفي، 96.
منطقة الرملة في فلسطين، ومن هذه القرى والمزارع أربع وقفها السلطان "سليمان القانوني" في ناحية صيدا: تعزيرًا لوقف زوجته الأصلي
(1)
.
وتنوَّعت الموقوفات على المؤسسات التعليمية في القدس من الأراضي التي وقفها العثمانيون والتي منها: 15 قرية في فلسطين، وقفت مساحات منها على المسجد الأقصى، كما وقفوا عديدًا من الغراس، والنقود التي تسابق كبار رجالات الدولة فيها؛ حيث وقفوا مبالغ نقدية على المؤسسات التعليمية
(2)
.
وقد حرص العثمانيون كذلك على وقف المصاحف في القدس والحرمين الشريفين، فقد بلغ عدد الريعات الموقوفة للقراء في مسجد قبة الصخرة - على سبيل المثال - (15 رُبْعَة) خلال القرن العاشر الهجري، وكان يشرف على القراء شيخ القراء الذي يعيِّنه قاضي القدس
(3)
؛ ومنها مصحف وقفه السلطان سليمان القانوني على المسجد الأقصى
(4)
.
لقد كان في القدس في أواخر القرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر للميلاد (40) مدرسة للفقه، و (10) دُور للقران الكريم، و (7) دُور للحديث النبوي الشريف، فضلًا عن المدارس التي تخصصت بالنحو، وكلها كانت تموَّل من الوقف
(5)
.
(1)
انظر: مؤسسة الأوقاف ومدارس بيت المقدس، كامل العسلي، ندوة مؤسسة الأوقاف، بغداد، 1983 م، 98. وانظر لمزيد من التفاصيل عن الوقف العثماني في القدس: الأوقاف الإسلامية في القدس الشريف - دراسة تاريخية موثقة، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستانبول 2009 م، 6/ 336 - 537، وانظر عن الأوقاف العثمانية في فلسطين:، J.B. Barron .P 58.1922. Mohammedan Wakfs in Palestine(Jerusalem: Greek Convent Prss
(2)
انظر: وقف النقود في القدس في القرنين العاشر والحادي عشر الهجري، زهير غنايم، المؤتمر الدولي السابع لتاريخ بلاد الشام، 2006 م، المجلد الثالث، عمان، الجامعة الأردنية، 2008 م، 122 - 127.
(3)
انظر: الوقف على القدس وأكنافها من بداية العصر الأيوبي وحتى نهاية العصر العثماني (غير منشور)، زهير غنايم، مؤسسة الترات والبحوث الإسلامية، القدس، 25.
(4)
انظر: معاهد العلم في بيت المقدس، كامل العسلي، عمان، الجامعة الأردنية، 1981 م، 377.
(5)
انظر: مكتبات بيت المقدس من الفتح الأيوبي إلى الاغتصاب الصهيوني، د. سلامة محمد البلوي، مجلة التاريخ العربي، جمعية المؤرخين المغاربة، ع 32، خريف 2004 م، 78.
وقد حفلت القدس بعشرات المكتبات الوقفية الخاصة، والتي منها: مكتبة ابن قاضي الصلت (ت 1040 هـ/ 1630 م)، ومكتبة الشيخ أحمد بن يحيى الشهير بالموقت (ت 1171 هـ/ 1727 م)، ومكتبة الشيخ محمد أفندي زاده مفتي القدس (ت 1152 هـ/ 1739 م)، ومكتبة محمد صنع الله الخالدي الذي كان رئيس كتاب المحكمة الشرعية بالقدس (ت 1140 ههـ 1727 م)، ومكتبة الشيخ الخليلي التي تأسست عام 1138 هـ/ 1725 م، والتي وقفها شيخ الإسلام محمد الخليلي مفتي الشافعية بالقدس (ت 1147 هـ/ 1734 م)، ومكتبة حسن عبد اللطيف الحسيني مفتي القدس (ت 1226 هـ - /1811 م)، والمكتبة الخالدية التي تعد من أهم دور الكتب في فلسطين، التي أوصت بوقفها "خديجة الخالدي" ابنة قاضي عسكر الأناضول موسى أفندي، والتي أوصت ولدها الحاج راغب الخالدي رئيس المحكمة الشرعية بيافا أن يقفها وينقل كتب الأسرة الخالدية إليها، قنفذ وصيتها سنة 1318 هـ/ 1900 م، وغيرها من المكتبات
(1)
.
أما أبرز أوقاف العثمانيين في الحرمين الشريفين كان ما وقفته "خاصكي سلطان" زوجة السلطان سليمان القانوني، حيث وقفت رباطًا في مكة المكرمة؛ والذي كان يحتوي على (48) حجرة، وسبيل ماء، واشترطت أن يسكن الرباط العلماء العابدون والصلحاء الزاهدون
(2)
.
وفي عام 979 هـ/ 1571 م قامت كريمة السلطان سليمان القانوني "خانم سلطان" بإعمار "عين زبيدة"؛ فوجهت ألفًا من المهندسين والفنيين والبنائين من مختلف أقطار العالم الإسلامي لإعمارها، فتم مد القناة من "بئر زبيدة" إلى الأبطح، لتلتقي بمياه عين حنين، ثم إلى المُعَلّا، ثم إلى الحرم، ثم يتوزع الماء في شبكة حجرية داخل أحياء مكة المكرمة؛ ليصب في ثلاثة وثلاثين بازانًا منتشرة في مختلف أحيائها، وظلَّ هذا المشروع الوقفي يسقي الحاج والمعتمر والمقيم لمدة تربو على 1200 عام
(3)
.
(1)
انظر: مكتبات بيت المقدس من الفتح الأيوبي إلى الاغتصاب الصهيوني، د سلامة محمد البلوي، مجلة التاريخ العربي، جمعية المؤرخين المغاربة، ع 32، خريف 2004 م، 55 - 90.
(2)
انظر: الحريم في العصر العثماني، ماجد مخلوف، دار الآفاق، القاهرة، 1998 م، 50.
(3)
انظر: تطوير واستثمار أوقاف عين زبيدة لإعمارها وتشغيلها وصيانتها، د. عمر سراج أبو رزيزة، مجلة أوقاف - الكويت، ع 9، السنة الخامسة،1426 هـ، 107.
ويعد خط سكة حديد الحجاز الذي يربط بلاد الشام بالمدينة المنورة من أعظم مآثر الدولة العثمانية الوقفية لخدمة الحج الشامي، فقد بدأ إنشاء الخط عام 1319 هـ / 1901 م، وانتهى عام 1326 هـ 1908 م، وقد سُجِّل وقفًا في عام 1331 هـ/ 1913 م، ورُبط إداريًّا بالجهة المسؤولة عن الأوقاف في تركيا، وقد اشترى السلطان "عبد الحميد الثاني" أراضي كثيرة وقفها على الخط، ومن ضمنها أراضي الحمة في فلسطين، وأراضي واسعة في حيفا وعكا والناصرة، واستثمر مياه وادي اليرموك، ومواضع في قلب دمشق تعد من أغلى مناطقها، واستثمر الفوسفات في الأردن، فضلًا عن وقف كبير في ساحة البرج في بيروت، كل هذه الأوقاف كانت تنفق على هذا الخط الحيوي الذي لاقى كل ترحيب من أبناء الأمة
(1)
.
ويحسب للسلطان عبد الحميد الثاني" أيضًا أنه حرص على تطوير مكتبة الحرم المكي، ووقف عليها كثيرًا من الكتب، فقد أرسل لها في عام 1290 هـ/ 1873 م مجموعة من المؤلفات من الأستانة، وراسل أمين المكتبة آنذاك السيد محمود حافظ أفندي الإبلاغه بأنه سيتم إرسال مفتش إلى الحرم لمتابعة أوضاع المكتبة
(2)
.
وقد حرص العثمانيون على توفير المياه للمقيمين وأبناء السبيل، فوقفوا عديدًا من السبل في كثير من المدن في المشرق والمغرب، فكان في القاهرة وحدها - على سبيل المثال - عشية الحملة الفرنسية على مصر (266) سبيلًا
(3)
، وهكذا كان في الحرمين والقدس وغيرها من المدن، ومن الجدير بالذكر أن بناء السبل كان مرتبطًا
(1)
انظر: سكة حديد الحجاز في المصادر العربية والتركية والإنجليزية، سهيل صابان وعبد الرحمن فراج، قائمة ببيلوجرافية، مجلة الدرعية، الرياض، ع 18 و 19، السنة الخامسة، Massignon،L.(Document sur certains waoqfs des lieux saints،107،1426 هـ pp. (1951) Revue des Etudes Islamiques (d. Islam 0 .73 - 120 ،، وقد أكد المؤتمر الإسلامي العالمي الذي عُقد في القدس على الطابع الوقفي لسكة حديد الحجاز.
(2)
انظر: مجموعة الوثائق العثمانية، دارة الملك عبد العزيز، وثيقة رقم 328، سجل 32878، ملف رقم 8/ 10/ 104، بتاريخ 21/ 6/ 1290 هـ، الموافق 21/ 2/ 1876 م.
(3)
انظر: الأسبلة العثمانية بمدينة القاهرة (1517 - 1798 م)، محمد حامد الحسيني، مكتبة مدبولي، د. ت، وقاهريات، جمال الغيطاني، أسبلة القاهرة، مكتبة مدبولي، د. ت، 17.
ارتباطًا وثيقًا بتعليم الأيتام، فكل سبيل كان يشتمل على كُتَّاب للأيتام، فأنشأت الدولة العثمانية عديدًا من الكتاتيب في مختلف الولايات؛ ومنها على سبيل المثال مكتب سنان باشا (987 هـ/ 1570 م)، ومكتب التمرازية (1015 هـ/1606 م)، ومكتب الخواجا قراجا؛ الذي وقفه الحاج محمد الجبالي (1098 هـ - /1687 م)، وكلها في مدينة الإسكندرية
(1)
، ويعدُّ "سنان باشا" - أول نواب السلطان سليم الأول على مصر (975 - 976 هـ / 1567 - 1568 م) - من أكثر الولاة العثمانيين الذين شيدوا أوقافًا في مصر، ومن أبرز أوقافه: المدرسة السنانية، وكُتَّاب للأطفال في الإسكندرية، حيث وقف عليهما أوقافًا كثيرة
(2)
.
ومن الأوقاف الفريدة التي ظهرت في العصر العثماني؛ وقف "إسماعيل بك رفعت" على كبار السن والأرامل في القاهرة، فقد جاء في نص وقفيته بتاريخ 16 جمادى الأول 1284 هـ /1867 م: على تقديم كسوة للنسوة العجائز الفقيرات، والمسلمات العاجزات عن الكسب، والخاليات من الأزواج، اللائي يقمن في الرباط الذي أُنشئه بباب الخلق بالقاهرة، تعطى كل واحدة في شهر رمضان من كل سنة اثنا عشر ذراعًا من العبك (نوع من القماش)، وستة أذرع من الشاش، وحردة بلدي
(3)
.
ولم تغفل الدولة العثمانية الجانب الصحي؛ فوقفت في تاريخها عديدًا من البيمارستانات؛ والتي منها على سبيل المثال: دار الطب ببروسه (835 هـ/ 1339 م)، وبيمارستان محمد الفاتح في إسطنبول، الذي وقفه في عام 875 هـ/ 1470 م، وبيمارستان السلطان سليمان القانوني في إسطنبول؛ الذي وقفه لمداواة المرضى وتربية المجانين بأنواع الأشربة والأطعمة والمعاجين، وبيمارستان أدرنة لمعالجة مرضى الجذام (937 هـ/ 1431 م)، وبيمارستان خاصكي سلطان بإسطنبول (946 هـ/ 1539 م) .. وغيرها
(4)
.
(1)
انظر: سجلات محكمة الإسكندرية الشرعية، سجل 14، ص 379، قسم 1213، 12 محرم 987 هـ، سجل 35، ص 641، 18 محرم 1015 هـ.
(2)
انظر: تاريخ مصر العثمانية من خلال تحفة الأحباب بمن ملك مصر من الملوك والنواب، إبراهيم يونس سلطح، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الإسكندرية، 1991 م، 144.
(3)
انظر: صور من التكافل الاجتماعي، د سلامة البلوي، 27.
(4)
انظر: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، أحمد عيسى، 276 - 278.
ومن الأوقاف الفريدة في العصر العثماني "وقف قفة الخبز" في بيروت، حيث كانت له دكان خاص في باطن بيروت، توضع فيه قفة مليئة بالخبز كل يوم جمعة، حيث كان يقصدها الفقراء من أهل بيروت من مختلف الطوائف، فيوزع متولي القفة الخبز عليهم، وقد كان لهذه القفة أوقاف وأحكار عديدة، وبعض العقارات والمخازن التي يعود ريعها للقفة، وقد سجلت هذه الأوقاف في سجلات المحكمة الشرعية في بيروت عام 1259 هـ/ 1843 م
(1)
.
وتدين عديد من المدن في أوروبا الشرقية في نشأتها للأوقاف العثمانية، ولعل مدينة "كاتشانيك" في البلقان خير مثال على ذلك، فقد كانت في البداية عبارة عن حصن عسكري صغير في عام 988 هـ/ 1580 م؛ حيث أنشأ القائد "سنان باشا" بجواره مجمعًا وقفيًّا، يتكون من: جامع وتكية ومدرسة، ومدرسة للأطفال، وخان الأبناء السبيل، وحمام، وكان يدير هذا المجمع الوقفي قرابة الأربعين شخصًا، وأدى استقرارهم مع عائلاتهم إلى تشكيل نواة لهذه المدينة، التي غدا سكانها فيما بعد قرابة الخمسين ألفًا!. وهذا ينطبق أيضًا على مدن البوسنة؛ مثل: سراييفو، وتيرانا، وكورنشا .. وغيرها، كما ساعد الوقف على التطور السريع ونمو عديد من المدن في البلقان؛ مثل: بلغراد، وسالونيك، وغيرهما، لدرجة أن هناك بعض المدن أصبح اسمها مركبًا من كلمتين؛ مثل:"اسكندر وقف" و"غروني وقف"، و "دوني وقف"، وكل ذلك يشير لما للوقف من أثر كبير في قيام وتطور تلك المدن وانتشار الإسلام فيها
(2)
.
(1)
انظر: التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في بيروت والولايات العثمانية في القرن التاسع عشر - سجلات المحكمة الشرعية في بيروت، د. حسان حلاق، الدار الجامعية بيروت، 1407 هـ، 26.
(2)
انظر: دور الوقف في نشوء المدن الجديدة في البوسنة (سراييفو نموذجًا)، د محمد موفق الأرناؤوط، مجلة أوقاف الكويت، ع 8، السنة الخامسة، ربيع الأول، 1426 هـ، 47، ودور الوقف في المجتمعات الإسلامية، د. محمد موفق الأرناؤوط، دمشق، دار الفكر المعاصر، 1421 هـ، 57 - 59 و 154.
ومن الظواهر التي تستوقف الباحث في تاريخ الوقف العثماني ظاهرة إقبال سيدات البلاط العثماني على أعمال البر والإحسان، وحرصهن على وقف الأوقاف التي تخدم مختلف الشرائح الاجتماعية، وعلى رأسها طلبة العلم، وكل ما يتعلق بهم من مدارس ومأوى ومعيشة، فإلى جانب ما وقفته "خاصكي سلطان" حرم السلطان سليمان القانوني من أوقاف تقدم ذكرها، وقفت عديدا من السيدات أوقافًا في مدن مختلفة؛ فعلى سبيل المثال: وقفت "عادلة خاتون" ابنة والي بغداد أحمد باشا "المدرسة العادلية" والمسجد الملحق بها؛ والمعروف بجامع العادلية الكبير، عام 1168 هـ./ 1754 م، واشترطت في وقفيتها المؤرخة في 1171 هـ/ 1757 م: تعيين مدرس لهذه المدرسة، وقبول (15) طالبًا فيها في كل سنة، وخصصت لكل طالب مخصصات يومية، وجعلت لكل طالب إشارة خاصة يحملها على صدره، مكتوب عليها "طلبة مدرسة العادلية في بغداد"، كما قامت الشقيقتان "فتحية خاتون" و "عادلة خاتون" ابنتا عبد الفتاح باشا بتأسيس مدرسة الحجيات في بغداد؛ حيث وُقفت عليها كتب متنوعة
(1)
.
أما "نازنده خاتون" زوجة والي بغداد علي باشا؛ فقد شيدت مسجدًا ومدرسة في عام 1263 هـ/1846 م، وعينت لها مدرِّسًا، وخصصت للطلبة خبرًا وشموعًا، ولخازن الكتب راتبًا معينًا من غلة الوقف
(2)
، وقامت ابنة نقيب الأشراف في بغداد السيد علي الكبير "عاتكة خاتون" بوقف مدرسة عام 1227 هـ/ 1811 م، وألحقت بها مكتبة زوَّدتها بنوادر المخطوطات المنقولة من بلاد الشام وغيرها، وأسندت مهمة الإشراف على المكتبة إلى أحد علماء بغداد
(3)
، وفي عام 1291 هـ/ 1874 م وقفت "نائلة خاتون" مدرسة في بغداد، وحبست عليها أوقافًا، وجعلت فيها مكتبة حافلة بنوادر المخطوطات في مختلف العلوم، وجعلت لكل من حافظ الكتب، وخادم المدرسة، وإمام المسجد الملحق بها .. مخصصات مالية
(4)
.
(1)
انظر: أثر المرأة في إنشاء المؤسسات التعليمية إبان العهود الإسلامية، عماد عبد السلام، إصدار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ع 14، السنة السادسة، يناير، 1979 م، 55.
(2)
انظر: أثر المرأة في إنشاء المؤسسات التعليمية إبان العهود الإسلامية، عماد عبد السلام، 56.
(3)
انظر: المرجع السابق، 55.
(4)
انظر: المرجع السابق، 56.
ومن الجدير بالذكر أن معظم المدارس الوقفية في العصر العثماني - خصوصًا في مصر - كان فيها فراشون يتولون تنظيف المدرسة، ومزملاتي لتوفير ما تحتاجه المدرسة من الماء، وجميعهم كانوا يتقاضون رواتبهم من وقف المدرسة
(1)
.
وقد عملت الدولة العثمانية على دعم الوقف في المغرب العربي وتطوير مؤسساته، خصوصًا في الجزائر وتونس، ففي خلال قرن ونصف (في الفترة من 1600 - 1750 م) تضاعف عدد الوقفيات في الجزائر اثني عشر مرة، ولعل "مؤسسة الحرمين الشريفين" في الجزائر تعدُّ من أقدم المؤسسات الوقفية في الجزائر، وكانت وظيفتها تقديم الإعانات الأهالي الحرمين الشريفين المقيمين في الجزائر والمارين بها، وكانت تتكفل بإرسال مداخيلها إلى فقراء الحرمين في مطلع كل سنتين، كذلك كانت توكل إليها حفظ الأمانات، والإنفاق على ثلاثة مساجد في مدينة الجزائر، كما كانت تشرف على 75% من أوقاف الجزائر؛ مما جعلها من أغنى المؤسسات الوقفية، فقد كانت تمتلك أكثر من (1642) وقفية؛ ما بين منازل ومخازن وحمامات ومقاه وفنادق وأرحاء وضيع .. وغيرها
(2)
.
ومن المؤسسات الوقفية الرائدة في الجزائر أيضًا "مؤسسة أوقاف الجامع الأعظم"؛ والتي كانت تمتلك ما يناهز (500 وقفًا)، مما يجعلها تحتل المرتبة الثانية بعد مؤسسة الحرمين الشريفين، وتأتي "مؤسسة سبل الخيرات" الحنفية التي أسَّسها "شعبان خوجة" عام 999 هـ/ 1500 م في المرتبة الثالثة، وهي مؤسسة تتولى الإشراف على تشييد المساجد ومختلف المشاريع الخيرية الأخرى، مثل: تعبيد الطرق، وشق القنوات للري، وإعانة المنكوبين، والإشراف على بناء المدارس الوقفية، واقتناء الكتب، وكل ما يخص الطلبة، إلى جانب إشرافها على إدارة ثمانية مساجد للأحناف، وتمتاز هذه المؤسسة بدقة الإدارة؛ حيث كان يسير أمورها أحد عشر موظفًا، بينهم ثمانية مستشارين منتخبين، وناظر أو وكيل أوقاف المؤسسة، وكاتب ينظم العقود، وشاويش الحراسة منشآت المؤسسة، وتوفير الراحة لثماني قرَّاء يقرؤون القرآن بجوار المؤسسة
(3)
.
(1)
انظر: سجلات محكمة الإسكندرية الشرعية، سجل 12، ص 677، قسم 1881، ربيع الثاني 986 هـ، سجل 54، ص 19، قسم 165، جمادى أول 1089 هـ.
(2)
انظر: تاريخ الجزائر الثقافي، سعد أبو القاسم، دار الغرب الإسلامي 1997 م، 1/ 238، والأوقاف الجزائرية - نظرة في الماضي والحاضر، د. فارس مسدور ود. كمال منصوري، مجلة أوقاف - الكويت، ع 15، 2008 م، 75 - 76.
(3)
انظر: تاريخ الجزائر الثقافي، سعد أبو القاسم، 242 - 243.
وقد شجعت الدولة العثمانية المهاجرين الأندلسيين في الجزائر على تأسيس وقفية الإيواء ومساعدة الأندلسيين الفارين من الاضطهاد الإسباني وظلم وملاحقة محاكم التفتيش، فقام أغنياء الجالية الأندلسية بتأسيس "مؤسسة أوقاف الأندلسيين"، ووقفوا أملاكهم على إخوانهم الفارين من الأندلس، وكانت أول هذه الأوقاف في عام 980 هـ / 1572 هـ
(1)
.
أما في تونس - وخصوصًا في صفاقس - فوجدت فيها أوقاف فريدة في العصر العثماني؛ منها على سبيل المثال: أوقاف لشحذ السكاكين يوم العيد، وحبس لشراء أضحيات للفقراء، وحبس الكوز؛ الذي كان مخصصًا لمن كسر وعاء الزيت لصاحبه يدفع عنه الحبس ثمن الكوز وما فيه، وحبس الزيت لإضاءة الطرقات، وحبس البرنوس للمؤذن .. وغيرها
(2)
.
وأخيرًا .. مثَّل وقف النقود؛ الذي ظهر لأول مرة في أدرنة في عام 827 هـ/1423 م .. تحولًا مهمًّا في تطبيقات الوقف الذي عرفه العالم الإسلامي حتى ذلك الحين؛ ولذلك وصف وقف النقود بأنه ثورة في الفقه الإسلامي المتعلق بالوقف، وقد تميَّز وقف النقود بالمرونة والمزاوجة بين الاستثمار في الاقتصاد على شكل تقديم قروض للتجار والحرفيين بعائد محدد، واستثمار العائد من ذلك لتقديم خدمات مجانية للمجتمع في مختلف الحقول
(3)
.
وهكذا بلغ الوقف ذروته في العصر العثماني، من خلال مشاركة السلاطين والولاة والقادة والعلماء والنساء والتجار من مختلف طبقات المجتمع في وقف الأوقاف التي ساهمت في خدمة كل الشرائح الاجتماعية، يقول المؤرخ التركي يلماز أوزتونا:"إن جميع منجزات المؤسسات الاجتماعية قد شيدت بفضل مؤسسة الوقف وبمشاركة السلاطين والولاة وبقية المواطنين"
(4)
.
(1)
انظر: الأوقاف الجزائرية: نظرة في الماضي والحاضر، د. فارس مسدور ود. كمال منصوري، مجلة أوقاف - الكويت، ع 15، 2008 م، 75 - 76.
(2)
انظر: أوضاع إيالة تونس، أحمد قاسم، 2/ 215.
(3)
انظر: وقف النقود في القدس في القرنين العاشر والحادي عشر الهجري، زهير غنايم،122 - 127.
(4)
انظر: تاريخ الدولة العثمانية، يلماز أوزتونا، ترجمة: عدنان محمود سرحان، مؤسسة فيصل للتمويل، إسطنبول، 1990 م، 2/ 491.