الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني نشأة الوقف عند المسلمين (1 - 41 هـ / 623 - 662 م)
نشأ الوقف مع نشأة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وتحددت أهدافه السامية، ومقاصده النبيلة من خلال الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، التي أكدت أن فعل الخير يمثل شعيرة من شعائر الإسلام؛ كما في قوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(1)
، وقوله أيضا:{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(2)
كما عدَّت شريعة الإسلام مساعدة الفئات الضعيفة من المجتمع من أعظم القربات الله تعالى، كما بينت بأن الرحمة رأس مال الإسلام فقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
(3)
، كما أن صيانة كرامة الإنسان مقصد من مقاصدها الجليلة؛ فقال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}
(4)
.
وجاءت أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته لتؤكد على فضيلة الوقف وعظم أجره، فضلًا عن تحديدها لمساراته واتجاهاته؛ فقال صلى الله عليه وسلم:"إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علمًا نشره، وولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته"
(5)
، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"
(6)
، وقد فسَّر
(1)
سورة آل عمران، الآية 92.
(2)
سورة البقرة، الآية 280.
(3)
سورة الأنبياء، آية 107.
(4)
سورة الإسراء، الآية 70.
(5)
أخرجه ابن ماجه في سننه، 1/ 88، رقم 242، وابن خزيمة في صحيحه، 4/ 121 رقم 2490، والبيهقي في شعب الإيمان، 3/ 247، حديث رقم 3448، حديث حسن، وجاء في رواية أخرى إضافة "أو غرس نخلا"، وصحيح الجامع الصغير وزياداته، محمد ناصر الدين الألباني 1/ 674، رقم 6302.
(6)
أخرجه أبو داود في سننه، 3/ 117 رقم 2880، باب ما جاء في الصدقة عن الميت، والترمذي في سننه، كتاب الأحكام رقم 1297، وقال: حديث حسن صحيح.
العلماء الصدقة الجارية بالوقف
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم في الحث على وقف المساجد وتعظيم الأجر لبانيها:"من بنى مسجدًا يبتغي فيه وجه الله بنى الله له مثله في الجنة"
(2)
، لذا كان أول وقفٍ وقفه المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو بناء مسجد قباء
(3)
، ومن بعده المسجد النبوي، فكان عمله هذا سنة تأسَّت به الأمة جيلًا بعد جيل؛ حيث تسابق الحكام والمحكومون على وقف المساجد في مشارق الأرض ومغاربها.
ويذكر أهل السِّيَر ثماني صدقات وقفها النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
، وأن أراضي مخيريقة
(5)
التي أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أوائل أوقافه صلى الله عليه وسلم
(6)
، وفي رواية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل سبع حيطان (بساتين) له بالمدينة صدقة على بني عبد المطلب ويني هاشم
(7)
، وجاء في صحيح البخاري
(8)
أن المصطفى صلى الله عليه وسلم ما ترك عند موته درهمًا ولا دينارًا، ولا عبدًا ولا أمة، ولا شيئًا؛ إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضًا جعلها صدقة (أي وقفًا).
(1)
انظر: سبل السلام، الصنعاني، 3/ 114 - 115، ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، الشوكاني، طبعة دار الحديث، القاهرة، د. ت، 6/ 21.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، 1/ 172 رقم 439، ومسلم في صحيحه، 4/ 2278، رقم 533، وفي رواية بني له بيتًا في الجنة.
(3)
انظر: أحكام الأوقاف، مصطفى الزرقاء دار عمار، عمان - الأردن، 7.
(4)
انظر: الأوقاف النبوية ووقفيات بعض الصحابة الكرام (دراسة فقهية تاريخية وثائقية)، عبد الله بن محمد الحجيلي، بحث مقدم لندوة المكتبات الوقفية في المملكة العربية السعودية المدينة المنورة، 25 - 27/ 1/ 1420 هـ.
(5)
مخيريق: يهودي أوصى بأمواله للرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وهي عبارة عن سبع بساتين (المثيب، الصائفة، والدلال، وحسنى، وبرقة، والأعراف، ومشرية أم إبراهيم). انظر: الأوقاف النبوية ووقفيات بعض الصحابة الكرام (دراسة فقهية تاريخية وثائقية)، عبد الله بن محمد الحجيلي، بحث مقدم لندوة المكتبات الوقفية في المملكة العربية السعودية - المدينة المنورة.
(6)
انظر: بدائع الصنائع، الكاساني، 5/ 214، ونيل الأوطار، الشوكاني، 2/ 22.
(7)
انظر: السنن الكبرى، البيهقي، كتاب الوقف باب الصدقات المحرمات، 6/ 160، وأحكام الأوقاف، الجصاص، 1، ونيل الأوطار، الشوكاني، 6/ 22.
(8)
صحيح البخاري، كتاب الوصايا، 4/ 5، رقم 2458، وكتاب الجهاد والسير، 5/ 81، رقم 2576، وسنن النسائي، كتاب الأحباس، 3/ 229.
وكانت أمهات المؤمنين من أوائل من تأسي بالمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فوقفن الأوقاف في حياته وبعد مماته، فوقفت أم المؤمنين عائشة دارًا اشترتها، وكتبت في شرائها ما نصه:"وجعلتها لما اشتريتها له، فمنها مسكن لفلان وعقبه ما بقي، ولفلان وليس فيه العقبة، ثم يرد إلى آل أبي بكر"
(1)
.
وابتاعت أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها حليًا بعشرين ألفًا فحبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تُخرج زكاته
(2)
، فهو أول وقف في الإسلام من هذا النوع، ووقفت أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها على أخيها الذي بقي على يهوديته
(3)
، كما تذكر المصادر أن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قد وقفت أوقافًا، وكذلك فعلت أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها
(4)
، ووقفت أيضًا فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم أوقافًا في المدينة المنورة، وحذت حذوها أسماء بنت أبي بكر زوج الزبير بن العوام رضي الله عنهم
(5)
.
وتعددت أوقاف الصحابة رضوان الله عليهم على جهات البر العامة والخاصة، فلم يبق أحد من أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف وقفًا، على حَدِّ قولِ الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
(6)
، وقد أحصى الإمام الشافعي ثمانين من الصحابة الأنصار وقفوا أوقافًا
(7)
.
(1)
أحكام الوصايا والأوقاف، محمود مصطفى شلبي، بيروت، الدار الجامعية، 1982 م، 23.
(2)
مفتاح الدراية لأحكام الوقف والعطايا، يوسف إسحاق حمد النيل، دبي، 1978 م، 20.
(3)
انظر: المرجع السابق، 20.
(4)
انظر: الإسعاف في أحكام الأوقاف، إبراهيم موسى الطرابلسي الحنفي، دار الرائد العربي، بيروت، 1981 م، 13.
(5)
انظر: المحلى، علي بن أحمد بن حزم، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي، دار الأوقاف بيروت، د. ت، 9/ 180.
(6)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني 2/ 376، ومفتاح الدراية لأحكام الوقف والعطايا، يوسف إسحاق حمد النيل، 20.
(7)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني، 2/ 376.
وتؤكد المصادر بأن الفاروق عمر رضي الله عنه كان أول الصحابة وقفًا، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشيره بما يصنع بأنفس أراضيه في خيبر، فنصحه صلى الله عليه وسلم بأن يقفها، فتصدق بها على أقاربه، والفقراء، وإطعام الضيف، وتحرير العبيد، فقد جاء في نص وقفيته: أن ريعها يُنفق على الفقراء، والقربي، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من ولي عليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متمول
(1)
، وتعتبر هذه الوثيقة أول رسم وقفي سار على منواله التابعون، وقد أشار البخاري إلى هذه الوثيقة الرائدة
(2)
، كما تصدَّق صلى الله عليه وسلم برَيْعه عند المروة على ولده
(3)
، ووقف فرسًا في سبيل الله
(4)
.
ولما تولى عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم الخلافة (11 - 23 هـ/ 633 - 644 م)، كتب صدقته بمحضر من المهاجرين والأنصار وأشهدهم عليها، فانتشر خبرها في الأمصار
(5)
، وتشير كتب السِّيَر أن عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم قد عيَّن ابنته حفصة لإدارة أوقافه التي أصلها يرجع إلى أرض "ثمغ"، فكانت حفصة أول ناظرة للوقف في تاريخنا الإسلامي
(6)
.
ويُذكر لعمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم أنه من أوائل من وقف الأوقاف في الشام والعراق ومصر، فكان مسجد الكوفة، ومسجد البصرة، ومسجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بيت المقدس، ومسجد عمرو بن العاص رضي الله عنه في مصر، من أقدم المساجد التي وُقفت
(1)
صحيح البخاري، باب أوقاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 4/ 192، وباب الشروط في الوقف، 4/ 438، وصحيح مسلم بشرح النووي، 1/ 85 - 86.
(2)
انظر: نصب الراية لأحاديث الهادية، الزيلعي، مطبعة المأمون، 1938 م، 3/ 476.
(3)
انظر: المرجع السابق، 3/ 678، والمغني، ابن قدامة، 5/ 599، ونيل الأوطار، الشوكاني 6/ 127.
(4)
انظر: صحيح البخاري، باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت، 3/ 102.
(5)
انظر: مشروعية الوقف الأهلي ومدى المصلحة فيه، د محمد الكبيسي، ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي والاسلامي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية، بغداد 1983 م، 25.
(6)
انظر: نصب الراية لأحاديث الهداية، الزيلعي، 3/ 476.
في عهده؛ حيث قامت هذه المساجد بدور مشرف بطبع البلاد المفتوحة بالطابع العربي الإسلامي؛ من خلال رسالتها الدينية والثقافي والاجتماعية.
وقد بشَّر المصطفى صلى الله عليه وسلم عديدًا من الصحابة الكرام بالجنة لوقفهم الأوقاف الخيرية في المدينة المنورة، فقد بشَّر عثمان بن عفان رضي الله عنه بالجنة لأنه حلَّ مشكلة مياه الشرب التي كان يحتكرها اليهود؛ بشرائه لبئر رومة ووقفة للمسلمين
(1)
، ويُذكر لعثمان بن عفان رضي الله عنه أيضًا أنه عندما تولى الخلافة وقف بركة سلوان والحدائق التي كانت تروى منها في جنوبي المسجد الأقصى مباشرة على فقراء بيت المقدس
(2)
.
وجاء في صحيح البخاري أن الصحابي الجليل أبو طلحة لما نزلت آية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(3)
؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن أحب أموالي إلي بيرحاء، فهي إلى الله عز وجل وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم أرجو بره وذخره، فضعها حيث أراك الله، فقال صلى الله عليه وسلم:"بخ يا أبا طلحة، ذلك مال رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين"، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه، وكان منهم حسان بن ثابت وأبيُّ بن كعب"
(4)
.
وعندما نزلت الآية القرآنية: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}
(5)
؛ كان أبو الدحداح البلوي نازلًا في بستان له هو وأهله، وكان فيه ستمائة نخلة مثمرة، فجاء إلى امرأته فقال: اخرجي يا أم الدحداح؛ فقد أقرضته لله عز وجل، فتصدق
(1)
السنن الكبرى، البيهقي، كتاب الوقف باب اتخاذ المسجد والسقايات وغيرها، 6/ 168، ونصب الراية لأحاديث الهداية، الزيلعي، 3/ 477 - 478.
(2)
انظر عن عين سلوان: تراث فلسطين في كتابات عبد الله مخلص، جمع وتحرير: كامل جميل العسلي، دار الكرمل، عمان - الأردن، 1968 م، 208 - 213، والموسوعة الفلسطينية، 2/ 580.
(3)
سورة آل عمران، الآية 92.
(4)
صحيح البخاري، باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه، 5/ 217، رقم 157، وانظر كتاب الأشربة، في باب استعذاب الماء، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، 4/ 109 - 114.
(5)
سورة البقرة، الآية 245.
بحائطه (بستانه) على الفقراء والمساكين
(1)
، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد بشره بالجنة عندما تصدق بنخلة على يتيم قائلًا:"رُبَّ عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة"
(2)
.
ووقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرضًا له في ينبع - بعد أن استصلحها واستنبط الماء فيها - على الفقراء والمساكين، وفي سبيل الله، وابن السبيل؛ القريب والبعيد، وفي السلم والحرب، وليوم تبيضُّ فيه وجوه وتسودُّ وجوه؛ ليصرف الله بها وجهه عن النار، وقد جاء في نص وقفيته:"بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما تصدق به علي أمير المؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بـ (عين أبي نيزر) و (البغيغة)، على فقراء أهل المدينة وابن السبيل؛ ليقي بها وجهه حر نار يوم القيامة، ولا تباعا، ولا تورثا، حتى يرثها الله وهو خير الوارثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن والحسين، فهما طلق لهما، وليس لأحد غيرهما".
ويُذكر أنه ركب الحسن بن علي رضي الله عنهما دين، فحمل إليه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع، وقال: إنما تصدق بهما أبي ليقي الله وجهه حر نار يوم القيامة
(3)
، كما تصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه أيضًا بأمواله بالمدينة وداره بمصر على ولده
(4)
.
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه من أوسع الأنصار بالمدينة منازلًا، فتصدق بداره التي يُقال لها: دار الأنصار
(5)
، ووقف خالد بن الوليد رضي الله عنه سلاحه وأدراعه على المجاهدين في سبيل الله
(6)
، كذلك وقف زيد بن حارثة رضي الله عنه فرسه في سبيل الله
(7)
، ووقف الصحابي سعد بن عبادة رضي الله عنه حائطه المخراف صدقة على أمة التي ماتت وهو غائب عنها،
(1)
الاستيعاب، ابن عبد البر، 4/ 1645 - 1646.
(2)
الاستيعاب، ابن عبد البر، 4/ 1645 - 1646 ترجمة رقم 2939، وأضواء على دور قبيلة بلي في الحضارة الإسلامية، د سلامة البلوي، كتاب الرياض (رقم 35)، 66.
(3)
انظر: الماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، 4/ 150.
(4)
انظر: نصب الراية لأحاديث الهداية، الزيلعي، 3/ 478، والمغني، ابن قدامة، 5/ 599.
(5)
انظر: مفتاح الدراية لأحكام الوقف والعطايا، يوسف إسحاق حمد النيل، 20.
(6)
انظر: صحيح البخاري، كتاب الزكاة، 3/ 36، ونصب الراية الأحاديث الهداية، الزيلعي، 3/ 478.
(7)
انظر: مفتاح الدراية لأحكام الوقف والعطايا، يوسف إسحاق حمد النيل، 19.
فقال: هذا لأم سعد
(1)
، وفي رواية: أنه حفر بئرًا ووقفه صدقة على أمه
(2)
، وخص الصحابي الزبير بن العوام رضي الله عنه بناته بالصدقة، فوقف بيوته على بناته، فقد جاء نص وقفيته:"وللمردودة من بناته، غير مضرة ولا مضر بها"
(3)
.
وتحفل كتب السير والتراجم والحديث والتاريخ بأسماء الكثير من الصحابة الكرام الذين وقفوا بعض أموالهم على ذرياتهم؛ منهم على سبيل المثال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي وقف داره في مكة على ولده، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي جعل داره في المدينة المنورة وداره في مصر صدقة على ولده، وتصدق عمرو بن العاص رضي الله عنه بأرضه في الطائف وداره في مكة والمدينة على ولده
(4)
، وممن وقف على ذريته أيضًا من الصحابة: أسماء بنت أبي بكر، وجابر بن عبد الله، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن الزبير، وحكيم بن حزام .. وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين
(5)
.
ومن أبرز الظواهر الوقفية التي تسترعي الانتباه في هذه الفترة من تاريخ الوقف، ظاهرة كثرة أوقاف الماء في المدينة المنورة، فقد وقف عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما "بئر عروة"، وجعلها موردًا عذبًا للظامئين في المدينة المنورة، ووقف بجانبها بستانًا يأكل الناس والتجار والمارة منه، وقد اشتُهرت "بئر عروة" بالمدينة
(6)
.
(1)
انظر: صحيح البخاري، باب إذا قال أرضي أو بستاني صدقة عن أمي، 5/ 17 - 18، رقم 3675، وباب الإشهاد في الوقف والصدقة، 5/ 21 رقم 2679.
(2)
انظر: سنن أبي داود، رقم 1678، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم 1474.
(3)
صحيح البخاري، 5/ 31.
(4)
انظر: نصب الراية لأحاديث الهداية، الزيلعي، 3/ 478، والمغني، ابن قدامة، 5/ 599.
(5)
انظر لمزيد من التفاصيل: أحكام الأوقاف، الجصاص، ومشروعية الوقف الأهلي ومدي المصلحة فيه، د. محمد الكبيسي، ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي والاسلامي، 25، والإسعاف في أحكام الأوقاف، الطرابلسي، 10 - 11، ومفتاح الدراية لأحكام الوقف والعطايا، يوسف إسحاق حمد النيل، 20.
(6)
انظر: معجم البلدان، ياقوت الحموي، 2/ 5، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، 4/ 109.
وجاء طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بأنه اشترى "بئر نعمان" في جهة خيبر وتصدق بها، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما أنت يا طلحة إلا فياض"؛ فسُمي: طلحة الفياض
(1)
.
ومن الآبار التي وُقفت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئر أريس"(بئر الخاتم)، وهي داخل غربي مسجد قباء، و "بئر غرس" بقباء في شرق مسجدها على نصف ميل من جهة الشمال، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعذبها، و"بئر بضاعة" قرب أبواب المدينة، وحولها مسجد وبركة ماء، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستسقي منها، وبئر البصة" بالقرب من البقيع على طريق قباء، و"بئر اليسيرة" وهي في عوالي المدينة بالقرب من مسجد بني قريظة .. وغيرها
(2)
.
أما بالنسبة للأوقاف الخادمة للعلم والتعليم فقد بدأت بذرتها الأولى بتأسيس مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي كان مركزًا للتعليم، وكان في نهايته مكان مخصص لأهل الصفة من فقراء الصحابة، حيث كانوا يحظون برعاية الأمة التي تكفلت بإطعامهم وإيوائهم وتعليمهم
(3)
.
وتذكر كتب السير أن أول إشارة لأول كتَّاب في المدينة المنورة كان في السنة الثانية للهجرة، عندما طلب المصطفى صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر ممن لا يستطيع فداء نفسه بالمال أن يعلم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة
(4)
، وفي العهد الراشد تظهر إشارة جلية أخرى على تأسيس الكتاتيب؛ عندما أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع صبيان الشهداء والمجاهدين الغائبين في مكان محدد، وكلف رجلًا بتعليمهم كتاب الله،
(1)
انظر: عمدة الأخبار في مدينة المختار، أحمد عبد الحميد العباسي، 236، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، 4/ 116.
(2)
انظر: الماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، 4/ 109 - 115.
(3)
انظر عن أهل الصفة: رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة، محمد بن عبد الرحمن السخاوي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان وأبو حذيفة أحمد الشقيرات الرياض، دار السلف للنشر والتوزيع، ط 1، 1995 م، 246، والمرشد الوجيز في التاريخ والحضارة الإسلامية، د سلامة البلوي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2010 م، 640 - 641.
(4)
انظر: التربية والتعليم في الإسلام، سعيد الدَّيوهجي، 17.
وعندما نجحت الفكرة في المدينة عممها على الأمصار
(1)
، وهذه أول إشارة المؤسسة وقفية حكومية في تاريخنا الإسلامي متخصصة في تعليم الأطفال.
كما سجَّل تاريخ الوقف في هذه الحقبة المبكرة الاهتمام بوقف المصاحف، والعناية بأبناء السبيل، فكان الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه أول من وقف المصاحف، عندما وضع أربع نسخ أو ستًّا منها في مساجد مختلفة من الدولة الإسلامية
(2)
؛ ليصبح وقف المصاحف سنة جارية في الأمة، أما الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد اهتم بأبناء السبيل، وحرص على توفير كل ما يحتاجونه من طعام وشراب، فكان أول من وقف دارًا للدقيق، تشتمل على الدقيق والسويق، والتمر والزبيب، وما يحتاج إليه المنقطع، ووضع السبل في الطريق بين مكة والمدينة وبين الشام والحجاز؛ فكان المنقطع يحمل من ماء إلى ماء
(3)
.
وهكذا تبلورت معالم الوقف الخيري والذري في هذه الفترة المبكرة من تاريخنا الإسلامي، كما تبين أن خدمات الوقف كانت تتجه إلى الشرائح الضعيفة في المجتمع؛ من فقراء ومساكين، وتحرير العبيد، وخدمة أبناء السبيل، وكفالة أبناء الشهداء والمجاهدين، ورعاية المطلقات والأرامل، والإحسان للأقارب والأبناء، كما كانت الأوقاف في الغالب تتكون من الأراضي والبساتين والآبار والمنازل، والسلاح والخيول، وعُدة الحرب والحلي، كما يتضح أن هذه الأوقاف شارك فيها الخلفاء والرجال والنساء بمختلف طبقاتهم، وأنها كانت تدار من قبل أصحابها أو من يراه صاحب الوقف أهلًا للثقة، ذكرًا كان أم أنثى، إلى أن تطور الأمر فيما بعد حين أصبح للأوقاف ديوانٌ خاصٌّ بها، كما سنرى في الصفحات الآتية.
(1)
انظر: نظام الحكومة النبوية، المسمى التراتيب الإدارية، محمد عبد الحي الكتاني، المدينة المنورة، 1414 هـ، 2/ 293.
(2)
انظر: دور الكتب العربية العامة وشبه العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط، يوسف العش، ترجمة: نزار أباظة ومحمد صباغ، بيروت، دار الفكر المعاصرة، 1991 م، 101.
(3)
انظر: الماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، 4/ 148.