الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثامنًا: الصيغة الجازمة:
الصيغة الجازمة في الوقف: هي الصيغة القاطعة التي لا تردد فيها، ولا وعد، ولا خيار.
وقد اتفق الفقهاء في الجملة على اشتراط الجزم في صيغة الوقف، وعبَّر الحنفية عن هذا الشرط بالجزم، في حين أن غيرهم من فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة عبَّروا عنه بالإلزام.
وفيما يأتي بيان لأحكام ما يتضمنه هذا الشرط من خلال استعراض عدد من الصيغ التي تنافيه:
1 - تضمُّن صيغة الوقف التردد في العقد:
إذا كانت عبارة الواقف لا تزال في مرحلة التفكير بصوت عالٍ في الوقف، وهي تدل على التردد في الإقدام عليه؛ فلا ينشأ الوقف بمثل هذه العبارة.
2 - تضمُّن صيغة الوقف الوعد بالعقد:
إذا وعد الواقف بالوقف، فقال: سأقف أرضي هذه على الفقراء والمساكين، أو على ذريتي؛ لم ينعقد الوقف، ولا يكون الوعد فيه ملزمًا.
ويختلف الوعد بالوقف عن النذر بالوقف، كما لو قال: عليَّ أن أقف عقاري الفلاني على الفقراء والمساكين؛ لأن النذر صدقة وحلف، وهو يتضمن معنى الجزم، بخلاف الوعد الذي ينافي الجزم
(1)
.
3 - تضمُّن صيغة الوقف خيار الشرط:
إذا قال: وقفتُ أرضي هذه على الفقراء والمساكين، أو على المسجد الكبير في البلد على أن يكون لي أو لأستاذي الخيار؛ فهل يصح هذا الوقف؟
(1)
انظر: المبسوط، شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 4/ 132، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، 11/ 152، وشرح منتهى الإرادات، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، 3/ 481.
يختلف الحكم تبعًا للموقوف عليه:
فإن كان الوقف مسجدًا؛ صبح الوقف، وبطل الشرط؛ لأن المسجد حق خالص لله تعالى، لا مجال لإبطاله لأي سبب من الأسباب
(1)
.
وأما إذا كان الوقف غير المسجد؛ كالفقراء والمساكين، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب الحنابلة، والشافعية في الأصح، ومحمد بن الحسن
(2)
وهلال الرأي والخصاف من الحنفية، وهو المفتي به في المذهب الحنفي، والإمامية إلى أن الوقف يبطل مطلقًا؛ أي يبطل الوقف، وشرط الخيار، جاء في كتاب الوقوف للخلال الحنبلي: قال الكرماني: قلت لأحمد: الوقف الذي لا يجوز أيما هو؟ قال: أن يوقف ويقول: إن شاء رجع، وإن شاء نقض؛ فهذا ليس وقفًا، وهذا لا يجوز
(3)
.
وقال هلال الرأي الحنفي: أرأيت رجلًا يقف أرضًا له على وجوه سماها، وعلى أنه بالخيار في إبطال أصل الوقف متى ما بدا له؟ قال: الوقف باطل، لا يجوز
(4)
.
وقال الخطيب الشربيني الشافعي: (ولو وقف بشرط الخيار) لنفسه في إبقاء وقفه والرجوع فيه متى شاء، ويخرج من شاء، أو شرطه لغيره، أو شرط عوده إليه بوجه ما؛ كأن شرط أن يبيعه، أو شرط أن يدخل من شاء، ويخرج من شاء .. بطل على
(1)
انظر: رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، محمد أمين الدمشقي الحنفي المعروف بابن عابدين، 4/ 342.
(2)
انظر: المبسوط، شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 12/ 42.
(3)
انظر: الوقوف والترجل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل، أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخَلَّال البغدادي الحنبلي، 42، ومغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام، يوسف بن عبد الهادي، 150، وكشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، 4/ 251.
(4)
انظر: أحكام الوقف، هلال بن يحيى بن مسلم الرأي، 84.
الصحيح، ومقابل الصحيح: يصح الوقف ويلغو الشرط
(1)
، وقال الحلي الجعفري: وإن شرط فيه (الوقف) خيارًا لنفسه أو غيره؛ بطل
(2)
.
واستدل هلال لذلك: "بأنه إنما اشترط الخيار في إبطاله، فلم يزُل ملكه عنه بعد الخيار الذي شرط، فإذا لم يزل ملكه كان الأصل في ملكه على حاله، وإذا كان كذلك؛ كان الوقف باطلًا، لا يجوز، ألا ترى أن رجلًا لو باع من رجل بيعًا على أنه بالخيار؛ كان المبيع في ملك البائع ما لم ينقطع خياره، وكذلك الوقف، إلا وقف بتات: لا مَثْنَوية فيه ولا رجعة، ألا ترى أن وقف السلف كلها وقوفًا بتاتًا في أصلها، وشروطهم فيها ألا تباع ولا توهب ولا تورث، وإنما يريدون بذلك أنه لا رجعة لهم فيها، فكل ما كان الوقف على وقوفهم لا مثنوية فيه، فهو جائز، وما كانت فيه الرجعة، فلا يجوز؛ لأنه خلاف وقوفهم"
(3)
.
واستثنى الحنفية وقف المسجد من هذا الحكم، فقالوا: لو اتخذ مسجدًا على أنه بالخيار، جاز والشرط باطل
(4)
.
القول الثاني: ذهب المالكية، والإباضية
(5)
، وأبو يوسف من الحنفية إلى أن الوقف صحيح مطلقًا؛ أي يصح الوقف، وشرط الخيار، وقال ابن شاس المالكي: ولا يحتاج الوقف إلى شرط اللزوم، بل لا يقع إلا لازمًا، فلو قال: على أني بالخيار في الرجوع عنه، وإبطال شرطه .. لزم الوقف وبطل الشرط
(6)
.
(1)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، 2/ 385، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغير، 5/ 375 - 376.
(2)
انظر: الجامع للشرائع، يحيى بن مسلم الرأي، 84.
(3)
انظر: أحكام الوقف، هلال بن يحيى بن مسلم الرأي، 84.
(4)
انظر: رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، محمد أمين الدمشقي الحنفي المعروف بابن عابدين، 4/ 342.
(5)
انظر: منهج الطالبين وبلاغ الراغبين، خميس بن سعيد بن على بن مسعود الرستاقي، 13/ 259.
(6)
انظر: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، أبو محمد جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار الجذامي السعدي المالكي، 3/ 967.