الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحنابلة
(1)
، قالوا: يصح وقف المرهون قياسًا على صحة عتق العبد المرهون، بجامع أن كلًّا منهما إسقاط لحق تقربًا لله تعالى
(2)
.
ثانيًا: مسألة وقف النقود:
أ) تعريف النقود في اللغة:
النقود في اللغة جمع نقد، والنون والقاف والدال أصل صحيح، يدل على إبراز الشيء وبروزه، كما قال ابن فارس
(3)
.
وتأتي كلمة نقد في لغة العرب لعدة معانٍ؛ منها: أن النقد هو تمييز الدراهم أو الدنانير الجيدة من الرديئة، ومنها: أن النقد خلاف النسيئة، ومنها: أن النقد هو المضروب من الذهب والفضة، وهو العين، فالعين هو النقد، وغير المضروب منهما هو التبر
(4)
.
ب) تعريف النقود اصطلاحًا:
هو كل وسيط للتبادل يلقى قبولًا عامًّا مهما كان ذلك الوسيط، وعلى أي حال يكون
(5)
، إذا فالمقصود بالنقدين هنا: النقود المسكوكة، وهي الدراهم والدنانير، ويلحق بها ما جدَّ في عصرنا من أوراق نقدية تقوم مقام الدراهم والدنانير في الثمنية والمالية.
وقد اختلف الفقهاء في حكم وقف النقود على خمسة أقوال:
القول الأول: عدم صحة وقف الدراهم والدنانير مطلقا، وهو مذهب جماهير العلماء قديمًا، من حنفية
(6)
، وشافعية
(7)
، وحنابلة
(8)
،
(1)
انظر: الإنصاف، المرداوي، 12/ 411 و 417.
(2)
انظر: المهذب، الشيرازي، 1/ 413، والإنصاف، المرداوي، 12/ 411 و 417.
(3)
انظر: معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي أبو الحسين، دار الفكر، 1399 هـ/ 1979 م، 5/ 467.
(4)
انظر: لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين بن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي، دار صادر، بيروت، ط 3، 1414 هـ، مادة (نقد).
(5)
انظر: بحوث في الاقتصاد الإسلامي، ابن منيع، 178، والمعاملات المالية المعاصرة، الزحيلي، 149.
(6)
انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 364.
(7)
انظر: المهذب، الشيرازي، 1/ 440.
(8)
انظر: الكافي، ابن قدامة، 2/ 449.
وظاهرية
(1)
، وهو الظاهر من مذهب الإمامية
(2)
، والزيدية
(3)
.
قال ابن الهمام الحنفي: "وأما وقف ما لا ينتفع به إلا بالإتلاف؛ كالذهب والفضة والمأكول والمشروب .. فغير جائز في قول عامة الفقهاء، والمراد بالذهب والفضة الدراهم والدنانير وما ليس بحلي"
(4)
.
وقال الماوردي الشافعي: "وقف الدراهم والدنانير لا يجوز وقفها؛ لاستهلاكها، فكانت كالطعام، وروى أبو ثور عن الشافعي جواز وقفها، وهذه الرواية محمولة على وقفها على أن يؤاجرها لمنافعها، لا لاستهلاكها بأعيانها، فكأنه أراد وقف المنافع، وذلك لم يجز"
(5)
.
وقال ابن قدامة تعليقًا على قول الخرقي الحنبلي: "وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف؛ مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب .. فوقفه غير جائز، قال: وجملته أن ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه؛ كالدنانير والدراهم والمطعوم والمشروب والشمع وأشباهه .. لا يصح وقفه في قول عامة الفقهاء وأهل العلم"
(6)
، وقد نصَّ الإمام أحمد على ذلك في رواية الأثرم؛ فقال:"إنما الوقف في الدُّور والأرضين على ما وقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "
(7)
.
قال ابن حزم وهو يتحدث عما لا يجوز وقفه: "لا سيما الدنانير والدراهم، وكل ما لا منفعة فيه إلا بإتلاف عينه، أو إخراجها من ملك إلى ملك، فهذا هو نقض الوقف وإبطاله"
(8)
.
(1)
انظر: المحلى بالآثار، ابن حزم، 9/ 176.
(2)
انظر: شرائع الإسلام، الحلي، 2/ 444.
(3)
انظر: البحر الزخارف المرتضي، 5/ 152.
(4)
فتح القدير، ابن الهمام، 6/ 218.
(5)
الحاوي الكبير، الماوردي، 7/ 519.
(6)
المغني، ابن قدامة، 8/ 229.
(7)
المغني، ابن قدامة، 8/ 231.
(8)
المحلى بالآثار، ابن قدامة، 9/ 176.
قال الحالي من الإمامية: "وهل يصح وقف الدنانير والدراهم؟ قيل: لا، وهو الأظهر"
(1)
.
وورد في شرح الأزهار من كتب الزيدية: "وأما الذي يشرط في الموقوف فهو صحة الانتفاع به مع بقاء عينه، فلو لم يمكن إلا باستهلاكه لم يصح وقفه؛ كالدراهم والدنانير"
(2)
.
الأدلة: واستدلوا بما يأتي:
1 -
إن الأصل في الوقف أن يحبس الإنسان عينًا ويسبل ثمرتها ومنفعتها، والنقد لا ينتفع به إلا بإتلاف عينه، فلم يصح وقفه
(3)
.
2 -
ثم إن الأصل في الوقف أن يكون منتفعًا به على وجه التأبيد، وكل منقول لا يتصور فيه ذلك، والنقد منقول
(4)
.
القول الثاني: صحة وقف النقود، وهو قول في مذهب الحنفية مال إليه كثير من متأخريهم، وهو مذهب المالكية
(5)
، ووجه عند الشافعية
(6)
، وقول عند الحنابلة
(7)
، الزيدية
(8)
، والإمامية
(9)
، وهو الذي يظهر من مذهب الإباضية؛ إذ نصوص أئمتهم على جواز وقف النقود على المساجد؛ لتعمر بها ويصلح ما خرب منها
(10)
.
(1)
شرائع الإسلام، الحلي، 2/ 444.
(2)
البحر الزخار، المرتضي، 5/ 152.
(3)
انظر: الكافي، ابن قدامة، 2/ 449، وتكملة المجموع، السبكي، 14/ 221.
(4)
انظر: فتح القدير، ابن الهمام، 6/ 217.
(5)
انظر: حاشية الدسوقي، 4/ 77.
(6)
انظر: المهذب، الشيرازي، 1/ 440.
(7)
انظر: الكافي، ابن قدامة، 2/ 449.
(8)
انظر: البحر الزخارف المرتضي، 5/ 152.
(9)
انظر: منهاج الصالحين، الشاهرودي 2/ 343.
(10)
انظر: المدونة الكبرى، الخراساني، 3/ 31.
وبه قال جماعة من المتقدمين، منهم محمد بن شهاب الزهري
(1)
، ومحمد بن عبد الله الأنصاري صاحب زفر
(2)
، وهو ظاهر قول البخاري؛ إذ ترجم في صحيحه بقوله:"باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت"
(3)
، ثم أورد قول الزهري.
وبه صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم (140) في دورته (16) بمسقط، ونصه:"وقف النقود جائز شرعا؛ لأن المقصود الشرعي من الوقف هو حبس الأصل وتسبيل المنفعة متحقق فيها، ولأن النقود لا تتعين بالتعيين، وإنما تقوم أبدالها مقامها".
وذكر ابن عابدين في بيان مذهب الحنفية: "ولمّا جرى التعامل في البلاد الرومية وغيرها في وقف الدراهم والدنانير دخلت تحت قول محمد
(4)
المفتى به في وقف كل منقول فيه تعامل"
(5)
.
وقال الدردير من المالكية: "وأما العين فلا تردد فيها؛ بل يجوز وقفها قطعًا؛ لأنه نص المدونة"
(6)
؛ يعني قول ابن القاسم فيها: "قلت لمالك (أو قيل له): فلو أن رجلًا حبس مائة دينار موقوفة يسلفها الناس ويردونها على ذلك، جعلها حبسًا؛ هل ترى فيها الزكاة؟ فقال: نعم أرى فيها الزكاة"
(7)
.
وقال النووي الشافعي: "في وقف الدراهم والدنانير وجهان، كإجارتهما، إن جوزناها صح الوقف لتكري"
(8)
.
(1)
صحيح البخاري، 3/ 1020.
(2)
انظر: فتح القدير، ابن الهمام، 6/ 219.
(3)
صحيح البخاري، 3/ 102.
(4)
يعني محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة.
(5)
رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 363.
(6)
حاشية الدسوقي، 4/ 77.
(7)
المدونة، مالك بن أنس، 2/ 343.
(8)
روضة الطالبين، النووي، 5/ 315.
وقال ابن قدامة الحنبلي: "وقيل في الدراهم والدنانير: يصح وقفها على قول من أجاز إجارتها"
(1)
، وذكر ابن تيمية أن أحمد نص على جواز وقف الدراهم والدنانير في رواية الميموني، فعن أحمد "أن الدراهم إذا كانت موقوفة على أهل بيته ففيها الصدقة، وإذا كانت للمساكين فليس فيها شيء، قلت: فإن وقفها على الكراع والسلاح؟ قال: هذه مسألة لبس واشتباه"
(2)
، ثم نقل عن جده أبي البركات بن تيمية قوله: وظاهر هذا جواز وقف الأثمان لغرض القرض أو التنمية والتصدق بالربح"
(3)
.
وفي مدونة ابن غانم في فقه الإباضية: "قال ابن عبد العزيز: إذا كان ذلك المال الذي جعله في سبيل الله سلاحا فإني أستحسن أن يقوى به المرابطون في سبيل الله
…
وإن كان ذلك المال ذهبًا أو فضة أو إبلًا أو بقرًا أو أرضًا .. أو نحو ذلك مما يباع؛ ففي أي شيء جعله في سبيل الله فإني أجعله في سبيل الله"
(4)
.
الأدلة: واستدلوا بالآتي:
1 -
دخول النقود في عموم الأدلة الدالة على جواز الوقف، ولا مخرج لها من كتاب ولا سنة، فتبقى داخلة في العموم
(5)
.
2 -
قياس النقود على ما ورد به النص من المنقولات كالفرس والسلاح، بجامع أن كلًّا منها موقوف يوجد فيه غرض الوقف، وهو حصول الانتفاع في الدنيا والثواب في الآخرة
(6)
.
(1)
المغني، ابن قدامة، 8/ 229.
(2)
مجموع الفتاوي، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416 هـ/1995 م، 13/ 432، والرواية موجودة في كتاب الوقوف، للخلال، 2/ 325.
(3)
مجموع الفتاوي، ابن تيمية، 13/ 432.
(4)
المدونة الكبرى، الخراساني، 3/ 31.
(5)
انظر: المحلى بالآثار، 9/ 176.
(6)
انظر: النوازل الوقفية، العلمي، 24.
القول الثالث: أنه يصح وقف الدراهم والدنانير إذا جرى بوقفها التعامل في عرف الناس، وبه قال محمد بن الحسن وزفر، وذهب إليه عامة متأخري الحنفية، وهو المفتى به في المذهب.
فقد جاء في الهداية للميرغناني الحنفي: "وعن محمد: أنه يجوز وقف ما فيه تعامل من المنقولات"
(1)
، وقال ابن نجيم في البحر الرائق:"وقال محمد: يجوز وقف ما فيه تعامل من المنقولات، واختاره أكثر فقهاء الأمصار، وهو الصحيح"
(2)
، وجاء في حاشية ابن عابدين الحنفي:"ولمّا جرى التعامل في زماننا في البلاد الرومية وغيرهما في وقف الدراهم والدنانير؛ دخلت تحت قول محمد المفتي به في وقف كل منقول فيه تعامل، كما لا يخفى، فلا يحتاج على هذا إلى تخصيص القول بجواز وقفها المذهب زفر"
(3)
، وقال:"وقد أفتى صاحب البحر بجواز وقفها، ولم يَحكِ خلافًا"
(4)
.
الأدلة:
استدلوا على المنع فيما لم يجر به التعامل؛ لأنه منقول، وهم لا يرون وقف المنقول، إلا ما استثني بنص، وليست الدراهم والدنانير منه، واستدلوا على الجواز إذا جرى بوقفها التعامل بالعرف؛ لأن العرف عندهم يقضي على القياس، ووجه ذلك أن القياس ألا يجوز وقف ما لم يرد النص باستثنائه، غير أن تعامل الناس وأعرافهم أقوى من القياس.
القول الرابع: أنه يكره وقف الدنانير والدراهم. وهو قول عند المالكية، قال ابن رشد:"وأما الدنانير والدراهم وما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه؛ فتحبيسه مكروه"
(5)
.
(1)
الهداية، المرغيناني، 3/ 61.
(2)
البحر الرائق، ابن نجيم المصري، 5/ 812.
(3)
رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 3/ 473.
(4)
المرجع السابق، 3/ 473.
(5)
البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: د محمد حجي وآخرون، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1408 هـ/ 1988 م، 12/ 189.