الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث قبض الموقوف عليه وأثره في تمام الوقف ولزومه
القبض لغة: تناول الشيء وأخذه وتحصيله
(1)
، وهو في الاصطلاح: حيازة الشيء، والتمكن من رقبته، والتصرف فيه
(2)
.
فإذا صدر الإيجاب من الواقف، فهل يحتاج إلى القبض والحيازة من قبل الموقوف عليه؛ أم لا؟
اختلف الفقهاء في اشتراط القبض والحيازة لتمام الوقف ولزومه على قولين:
القول الأول: ذهب المالكية، والحنابلة في رواية، ومحمد بن الحسن من الحنفية، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والإمامية، والإباضية في قول
(3)
. . إلى أن القبض شرط لتمام الوقف ولزومه.
واستدلوا لذلك بما يأتي:
(1)
انظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أبو العباس أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، 2/ 668.
(2)
انظر: التعريفات الفقهية، محمد عميم الإحسان المجددي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1424 هـ /2003 م، 170.
(3)
انظر: المبسوط، شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 12/ 35 - 36، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن نجيم المصري، 5/ 212، ولباب اللباب في بيان ما تضمنه أبواب الكتاب من الأركان والشروط والموانع والأسباب، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن راشد القفصي المالكي، 293، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، 4/ 79 - 80، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، 8/ 187، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، 7/ 36، ومنهج الطالبين وبلاغ الراغبين، خميس بن سعيد بن على بن مسعود الرستاقي، 13/ 254، وشرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، أبو القاسم جعفر بن الحسن الحلي، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، ط 1، 1389 هـ/ 1969 م، 2/ 212.
1 -
حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جعل وقفه في يد ابنته حفصة رضي الله عنها
(1)
، وإنما فعل ذلك ليتم الوقف.
2 -
ولأن الوقف تبرع
(2)
بمال لم يخرجه عن المالية، فلم يلزم بمجرده؛ كالهبة والوصية.
3 -
ولأن حق الله تعالى إنما يثبت في الوقف ضمن التسليم إلى العبد؛ لأن التمليك إلى الله تعالى وهو مالك الأشياء لا يتحقق مقصودًا، وقد يكون تبعًا لغيره فيأخذ حكمه، فينزل منزلة الزكاة والصدقة
(3)
.
ولهؤلاء الفقهاء القائلين باشتراط القبض للزوم الوقف تفصيلات:
1 -
فالمالكية جعلوا الحيازة (القبض) على نوعين:
النوع الأول: الحيازة الحسية، وهي ما كان التسليم فيها فعليًا، بأن يُمكّن المتولي من العين الموقوفة بكل وسائل التمكين ويستولي عليها، بحيث تكون تحت سلطانه بحكم الموقوف، ويشترط لحيازة المتولي العين الموقوفة أن تكون العين في حيازته لمدة
(1)
سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، رقم (2879) 3/ 172، وصحح إسناده ابن الملقن في: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، دار الهجرة للنشر والتوزيع، الرياض، السعودية، ط 1، 1425 هـ/2004 م، 7/ 108.
(2)
انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن نجيم الحنفي، 5/ 203، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، 4/ 75، وأسنى المطالب في شرح روض الطالب، زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري، زين الدين أبو يحيى السنيكي، 3/ 37، وكشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، 3/ 453، ومطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهي، مصطفى بن سعد بن عبده الدمشقي الحنبلي، 4/ 295، والتاج المذهب لأحكام المذهب، أحمد بن قاسم العنسي اليماني الصنعاني، 4/ 361، ومفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة السيد محمد جواد الحسيني العاملي، 21/ 748.
(3)
انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن نجيم المصري، 5/ 212، وتحفة الفقهاء، علاء الدين السمرقندي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1424 هـ/2003 م، 595.
سنة كاملة، فلا تتحقق الحيازة الحسية بحيازتها أقل من سنة؛ كأن يموت الواقف قبل نهاية السنة، فإن الوقف في هذه الحال يبطل، وكذلك إذا عادت العين الموقوفة إلى الواقف قبل تمام السنة، وكانت من الأشياء ذوات الغلة؛ كالأرض الزراعية، والدار، والحانوت.
وأما النوع الثاني: فهي الحيازة الحكمية، وهي تكون في حال ما إذا كان الموقوف عليه محجورًا عليه وتحت ولاية الواقف؛ كأن يقف الأب على ولده الصغير، أو على يتيم تحت ولايته؛ فإن هذه الحيازة تتحقق بثلاثة شروط؛ وهي:
الشرط الأول: أن يشهد الولي على الوقف، فلا يكفي إقرار الواقف بذلك، ولا يكفي أن يقول: رفعت يدي عن الوقف.
والشرط الثاني: أن يُصرف الواقف الغلة جميعها أو جلها في مصالح المحجور عليه، فلا يصح للواقف صرفها على مصالح نفسه.
والشرط الثالث: ألَّا تكون العين الموقوفة مشغولة من قبل الواقف، فإذا كانت العين دارًا؛ فلا يصح للواقف أن يشغلها بالسكن
(1)
.
2 -
وقال ابن قدامة، وعن أحمد رواية أخرى: لا يلزم إلا بالقبض وإخراج الواقف له عن يده، وقال: الوقف المعروف أن يخرجه من يده إلى غيره، ويوكل فيه من يقوم به
(2)
، وقد اختار القاضي أبو علي محمد بن أبي موسى هذه الرواية.
3 -
وأما محمد بن الحسن وابن أبي ليلى فقد قالا: إن القبض يكون بتسليم كل شيء بما يليق به، ففي المقبرة يتحقق القبض لها بدفن ميت واحد فأكثر بإذن الواقف،
(1)
انظر: شرح مختصر خليل للخرشي، أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي المالكي، 7/ 84، ومنح الجليل على مختصر خليل، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد عليش المالكي، مكتبة النجاح، ليبيا، 4/ 45، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، 4/ 79 - 80.
(2)
انظر: المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، 8/ 187.
وفي السقاية بشرب واحد، وفي الخان
(1)
بنزول واحد، وأما السقاية التي تحتاج إلى صبِّ الماء فيها، فيتحقق القبض بتسليمه إلى المتولي؛ لأنه يحتاج إلى من يصب فيه الماء، هذا إذا كان القيم غير الواقف، أما إذا كان القيم على المقبرة أو السقاية هو الواقف نفسه، فلا يشترط القبض كما صرح القهستاني.
لكن أشكل على البعض أن محمدًا لم يصحح تولية الواقف نفسه، والذي صححها هو أبو يوسف؛ وأجيبَ عن هذا الإشكال بأن محمدًا ورد عنه روايتان في الوقف على النفس، وبهذا يزول الإشكال، وقد صرح الزيلعي - بناء على رواية محمد في تصحيح الوقف على النفس - بانعقاد الإجماع على تولية الواقف نفسه
(2)
.
4 -
وأما الإمامية فقد فرقوا في القبض بين أن يكون الوقف على الجهات الخاصة، وبين أن يكون للجهات العامة:
ففي الوقف على الجهات الخاصة؛ كالوقف على الذرية. . لا بدَّ من قبض الموقوف عليهم للعين الموقوفة، ويكفي قبض الموجود من الطبقة الأولى، وأما الطبقات اللاحقة فلا يُشترط فيها القبض، ويكفي قبض الطبقة الأولى، وفي حال وقف الأب على أولاده الصغار الذين هم تحت ولايته، فلا يحتاج إلى قبض جديد؛ لأن قبض الولي قبض الموْلِيِّ عليه، وكذلك إذا كانت العين الموقوفة بيد الموقوف عليه عن طريق الوديعة أو العارية؛ لم يحتج إلى قبض جديد.
وفي الوقف على الجهات العامة، كالوقف على المساجد، أو على الفقراء والمساكين. . يكفي قبض المتولي، أو الناظر، أو الحاكم (القاضي) للعين الموقوفة، والأحوط عدم الاكتفاء بقبض الحاكم مع وجود المتولي والناظر.
(1)
الخان: مكان مبيت المسافرين (الفندق)، انظر: الكليات، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي الحنفي، 239.
(2)
انظر: المبسوط، شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 12/ 32، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، عثمان بن علي الزيلعي الحنفي، 3/ 326، والإسعاف في أحكام الأوقاف، برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أبي بكر الطرابلسي، 13.
وهل يتحقق القبض بقبض بعض المستحقين من الفقراء والمساكين؟ خلاف، والأقوى عندهم تحققه بذلك، ولا تُشترط الفورية في القبض، فلو وقف عينًا في زمان، ثم أقبضها في زمان متأخر؛ كفى القبض بإذنه
(1)
.
القول الثاني: ذهب الشافعية، والحنابلة في المذهب، وأبو يوسف وهلال الرأي من الحنفية، وهو المفتى به عندهم، والزيدية، والإباضية في قول
(2)
. . إلى أن القبض ليس شرطًا في تمام الوقف ولزومه، فالوقف يتم بمجرد صدور اللفظ من الواقف، من غير حاجة إلى قبض أو تسليم.
واستدلوا لذلك بما يأتي:
1 -
حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وقفه لأرضه بخيبر، فقد تصدق بها على الفقراء وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضعيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متموِّل
(3)
.
(1)
انظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، محمد حسن النجفي، 64/ 38 - 66، والحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، يوسف البحراني، 22/ 131 - 141.
(2)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، 2/ 383، والمبسوط، شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 12/ 35 - 36، أحكام الوقف، هلال بن يحيى بن مسلم الرأي، 14، وأحكام الأوقاف، أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف 21، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، 7/ 36، وكشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، 4/ 254، وشرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار، أبو الحسن عبد الله بن مفتاح، 3/ 462، ومنهج الطالبين وبلاغ الراغبين، خميس بن سعيد بن على بن مسعود الرستاقي، 13/ 254.
(3)
الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه المعروف بصحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، دار طوق النجاة، ط 1، 1422 هـ، رقم (2737).
فليس فيه ما يدل على اشتراط القبض لتمام الوقف، قال الماوردي: ليس من شرط لزوم الوقف عندنا القبض؛ لأن عمر رضي الله عنه وقف تلك السهام التي ملكها من أرض خيبر، فكان يلي صدقته حتى قبضه الله
(1)
.
1 -
ولأن الوقف تبرع يمنع الهبة والبيع والميراث، فيلزم بمجرد اللفظ؛ كالعتق
(2)
، قال ابن قدامة:"ويفارق (الوقف) الهبةَ؛ فإنها تمليك مطلق، والوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، فهو بالعتق أشبه، وإلحاقه به أولى"
(3)
.
(1)
انظر: الحاوي في فقه الشافعي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الشهير بالماوردي، 7/ 514.
(2)
انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، 2/ 383، والمبسوط، شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 12/ 35 - 36، وأحكام الوقف، هلال بن يحيى بن مسلم الرأي، 14، وأحكام الأوقاف، أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف، 21، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، 7/ 36، وكشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، 4/ 254، وشرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار، أبو الحسن عبد الله بن مفتاح، 3/ 462، ومنهج الطالبين وبلاغ الراغبين خميس بن سعيد بن على بن مسعود الرستاقي، 13/ 254.
(3)
المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، 8/ 187.