الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الإباضية في شرح كتاب النيل: "وفي التاج: الْوَقْف حبس الموقف إليه، والتصدق بالمنفعة، ولا يلزم إلا إن حكم به عدل، أو إن قال: إذا مت فقد وقفته"
(1)
.
ثانيًا: توثيق الْوَقْف لدى جهة رسمية:
التوثيق في صيغة الْوَقْف: هو أن يقوم الواقف بالإشهاد على ما صدر منه من وقف، أو تسجيله لدى جهة رسمية؛ كالمحكمة الشرعية.
فهل يشترط ذلك لصحة الْوَقْف ولزومه؟
لم ينص الفقهاء القدامى على اشتراط التوثيق من إشهاد، أو تسجيل لصحة الْوَقْف ولزومه، وإنما نصوا على استحباب التوثيق؛ لما له من أهمية بالغة في حفظ الحقوق، وتحديد المراكز القانونية للأشخاص والأشياء.
قال ابن فرحون في بيان أهمية التوثيق: هي صناعة جليلة، وبضاعة عالية منيفة، تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية، وحفظ دماء المسلمين وأموالهم، والاطلاع على أسرارهم وأحوالهم
(2)
.
فحجة الْوَقْف أو الوقفية تتضمن كل ما يتعلق بالوقف والعين الموقوفة؛ من حيث: تحديد شروط الْوَقْف، والغرض منه، وبيان جهة الصرف؛ سواء أكانت خيرية أم أهلية، وتحديد حدود العين الموقوفة، وما قد يطرأ عليها من تطوير وتحوير واستبدال.
وقد لقي توثيق حجج الْوَقْف وغيرها من الحجج عناية خاصة من قبل الفقهاء والجهاز القضائي الرسمي في الدولة الإسلامية منذ أقدم العصور الإسلامية، من حيث تعيين موثق عدل في نفسه، مأمون على كتابة الحجة، خبير بشروط التوثيق، عالم بأحكام المعاملات المالية الشرعية
(3)
؛ لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}
(4)
.
(1)
شرح النيل وشفاء العليل، محمد بن يوسف أطفيش، 12/ 454.
(2)
انظر: المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق، أحمد بن يحيى بن عبد الواحد الونشريسي، تحقيق: لطيفة الحسيني، مطبعة الفضالة، المغرب، 1418 هـ / 1997، 211 - 212.
(3)
انظر: المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق، أحمد بن يحيى بن عبد الواحد الونشريسي، 211 - 212.
(4)
سورة البقرة، آية 282.
كما اعتبر الفقهاء الشهادة شرطًا لسماع دعوى الْوَقْف عند الإنكار، فذكر أبو بكر الخصاف أنه: إن شهد الشهود أن فلانًا أقرَّ عندنا أنه وقف هذه الأرض وقفًا صحيحًا، وحددها، وأنه كان مالكها في وقت ما وقفها .. قضينا بأنها وقف من قبل الواقف، وأخرجناها من يدي الذي هي في يديه، ثم قال في الجواب عن السؤال التالي: ما تقول إن شهد الشهود أن فلانا وقف هذه الأرض وقفًا صحيحًا وحددها، والأرض في يدي وارث الواقف؛ يقول: ورثها عنه، ويجحد الْوَقْف؟ أقضي بها وقفًا في الوجوه التي سبلها فيها، وكذلك إن كانت في يدي وصي الواقف؛ يقول: هي في يدي لفلان الذي أوصى إليَّ أو كانت في يد رجل يقول: كنت وكيلًا لفلان الواقف فيها، وقد أقام البينة الذين يدعون أنها وقف على إقرار الواقف أنه وقفها عليهم ومن بعدهم على المساكين، وكانت الشهادة بحضرة وارث الواقف، أو بحضرة وصيه؛ قال: أقضي أنها وقف من الواقف
(1)
.
ومن أقدم وثائق الْوَقْف وثيقة وقفية عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي رواها أبو داود عن يحيى بن سعيد عن صدقة عمر بن الخطاب قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب عبد الله عمرُ في ثَمْغٍ (أرض تلقاء المدينة)، فقص من خبره نحو حديث نافع قال: غير متأثل مالًا، فما عفا عنه من ثمره، فهو للسائل والمحروم، قال: وساق القصة، قال: وإن شاء وليُّ ثَمْغٍ اشتري من ثمره رقيقًا لعمله، وكتب معيقيب، وشهد عبد الله بن الأرقم.
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أوصى به عبد الله عمرُ أمير المؤمنين: إن حدث به حدث أن ثَمْغًا، وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، ألا يباع، ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم، وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل، أو آكل، أو اشترى رقيقًا منه
(2)
.
(1)
انظر: أحكام الأوقاف، أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المعروف بالخصاف، 210.
(2)
سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني، رقم (2879) 3/ 117، وصحح إسناده ابن الملقن وغيره في: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، 7/ 108.
وهناك وثيقة أخرى تاريخية في حياة الإمام محمد بن إدريس الشافعي، رواها الربيع بن سليمان قال: أخبرنا الشافعي إملاء قال: هذا كتاب كتبه فلان بن فلان الفلاني، في صحة من بدنه وعقله، وجواز أمره، وذلك في شهر كذا من سنة كذا: أني تصدَّقت بداري التي بالفسطاط، من مصر، في موضع كذا، أحد حدود جماعة هذه الدار ينتهي إلى كذا، والثاني، والثالث، والرابع (أي: بقية الحدود)، تصدَّقت بجميع أرض هذه الدار وعمارتها، من الخشب، والبناء، والأبواب، وغير ذلك من عمارتها وطرقها، ومسايل مائها، وأرفاقها ومرتفقها، وكل قليل وكثير هو فيها ومنها، وكل حق هو لها داخل فيها، وخارج منها، وحبستها صدقة بتة، مسبلة لوجه الله، وطلب ثوابه، لا مَثْنَوية فيها، ولا رجعة، حبسًا محرّمة، لا تباع، ولا تورث، ولا توهب، حتَّى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
وأخرجتها من ملكي، ودفعتها إلى فلان بن فلان، يليها بنفسه وغيره، ممن تصدّقت بها عليه، على ما شرطت وسميت في كتابي هذا، وشرطي فيه: أني تصدَّقت بها على ولدي لصلبي؛ ذكرهم وأنثاهم، من كان منهم حيًا اليوم، أو حدث بعد اليوم، وجعلتهم فيها سواء؛ ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم .. شرعًا، في سكناها وغلتها، لا يقدم واحد منهم على صاحبه، ما لم تتزوّج بناتي، فإذا تزوّجت واحدة منهن وباتت إلى زوجها انقطع حقّها ما دامت عند زوج، وصار بين الباقين من أهل صدقتي، كما بقي من صدقتي، يكونون فيهم شرعًا، ما كانت عند زوج، فإذا رجعت بموت زوج أو طلاق كانت على حقها من داري، كما كانت عليه قبل أن تتزوّج، وكلما تزوجت واحدة من بناتي؛ فهي على مثل هذا الشَّرط، تخرج من صدقتي ناكحة، ويعود حقها فيها مطلقة أو ميتًا عنها، لا تخرج واحدة منهن من صدقتي إلا بزوج.
وكل من مات من ولدي لصلبي، ذكرهم وأنثاهم، رجع حقه على الباقين معه من ولدي لصلبي، فإذا انقرض ولدي لصلبي، فلم يبق منهم واحد، كانت هذه الصدقة حبسًا على ولد ولدي الذكور لصلبي، وليس لولد البنات من غير ولدي شيء، ثم كان ولد ولدي الذكور من الإناث والذكور في صدقتي هذه على مثل ما كان عليه ولدي
لصلبي، الذكر والأنثى فيها سواء، وتخرج المرأة منهم من صدقتي بالزوج، وترد إليه بموت الزوج أو طلاقه، وكل من حدث من ولدي الذكور من الإناث والذكور فهو داخل في صدقتي مع ولد ولدي، وكل من مات منهم رجع حقه على الباقين معه، حتَّى لا يبقى من ولد ولدي أحد.
فإذا لم يبق من ولد ولدي لصلبي أحد، كانت هذه الصدقة بمثل هذا الشَّرط على ولد ولد ولدي الذكور، الذين إليَّ عمود نسبهم، تخرج منها المرأة بالزوج، وتردّ إليها بموته أو فراقه، ويدخل معهم من حدث أبدًا من ولد ولد ولدي، ولا يدخل قرن ممن إليَّ عمود نسبه من ولد ولدي، ما تناسلوا على القرن الذين هم أبعد إليَّ منهم، ما بقي من ذلك القرن أحد، ولا يدخل عليهم أحد من ولد بناتي الذين إليَّ عمود انتسابهم، إلا أن يكون من ولد بناتي من هو من ولد ولدي الذكور الذين إليَّ عمود نسبه، فيدخل مع القرن الذين عليهم صدقتي لولادتي إياه من قبل أبيه، لا من قبل أمه.
ثم هكذا صدقتي أبدًا على من بقي من ولد أولادي الذين إليَّ عمودي نسبهم، وإن سفلوا، أو تتناسخوا، حتَّى يكون بيني وبينهم مِائَة أب وأكثر، ما بقي أحد إليَّ عمود نسبه.
فإذا انقرضوا كلهم، فلم يبق منهم أحد إليَّ عمود نسبه، فهذه الدار حبس، صدقة، لا تباع، ولا توهب، لوجه الله تعالى، على ذوي رحمي المحتاجين، من قبل أبي وأمي، يكونون فيها شرعًا سواء ذكرهم وأنثاهم، والأقرب إليَّ منهم والأبعد مني.
فإذا انقرضوا، ولم يبق منهم أحد، فهذه الدار حبس، على موالي الذين أنعمت عليهم، وأنعم عليهم آبائي بالعتاقة، لهم وأولادهم وأولاد أولادهم ما تناسلوا، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، ومن بعد إليَّ وإلى آبائي نسبه بالولاء، ونسبه إلى من صار مولاي بولاية سواء.
فإذا انقرضوا فلم يبق منهم أحد، فهذه الدار حبس، صدقة لوجه الله تعالى على من يمرّ بها من غزاة المسلمين، وأبناء السبيل، وعلى الفقراء والمساكين، من جيران هذه الدار وغيرهم من أهل الفسطاط، وأبناء السبيل والمارة، من كانوا حتَّى يرث الله الأرض ومن عليها.
ويلي هذه الدار ابني فلان بن فلان الذي وليته، في حياتي وبعد موتي، ما كان قويًا على ولايتها، أمينًا عليها، بما أوجب الله تعالى عليه من توفير غلَّة، إن كانت لها، والعدل في قسمها، وفي إسكان من أراد السكن من أهل صدقتي، بقدر حقه.
فإن تغيرت حال فلان بن فلان ابني بضعفٍ عن ولايتها، أو قلة أمانة فيه؛ وليها من ولدي أفضلهم دينًا وأمانة، على الشروط التي شُرطت على ابني فلان، ويليها ما قوي وأدى الأمانة، فإذا ضعف، أو تغيرت أمانته، فلا ولاية له فيها، وتنتقل الولاية عنه إلى غيره من أهل القوة والأمانة من ولدي، ثم كل قرن صارت هذه الصدقة إليه، وليها من ذلك القرن أفضلهم قوة وأمانة، ومن تغيرت حالة ممن وليها بضعف أو قلة أمانة، نقلت ولايتها عنه إلى أفضل من عليه صدقتي قوة وأمانة، وهكذا كل قرن صارت صدقتي هذه إليه، يليها منه أفضلهم دينا وأمانة، على مثل ما شرطت على ولدي، ما بقي منهم أحد، ثم من صارت إليه هذه الدار من قرابتي أو موالي، وليها ممن صارت إليه أفضلهم دينا وأمانة، ما كان في القرن الذي تصير إليهم هذه الصدقة ذو قوة وأمانة.
وإن حدث قرن ليس فيهم ذو قوة ولا أمانة؛ ولّى قاضي المسلمين صدقتي هذه من يحمل ولايتها بالقوة والأمانة، من أقرب الناس إليَّ رحمًا، ما كان ذلك فيهم، فإن لم يكن ذلك فيهم، فمن موالي وموالي آبائي الذين أنعمنا عليهم، فإن لم يكن ذلك فيهم، فرجل يختاره الحاكم من المسلمين.
فإن حدث من ولدي أو من ولد ولدي، أو من موالي رجل له قوة وأمانة؛ نزعها الحاكم من يدَي مَن ولاه من قِبَله، وردَّها إلى من كان قويًا وأمينًا ممن سمي.
وعلى كل والٍ يليها أن يعمر ما وهى من هذه الدار، ويصلح ما خاف فساده منها، ويفتح فيها من الأبواب، ويصلح منها ما فيه الصلاح لها، والمستزاد في غلّتها وسكنها، مما يجتمع من غلَّة هذه الدار، ثم يفرق ما يبقى منه على من له هذه الغلّة، سواء بينهم، ما شرطت لهم.
وليس للوالي من ولاة المسلمين أن يخرجها من يديَ مَن وليته إياها، ما كان قويًا أمينًا عليها، ولا من يدي أحد من القرن الذي تصير إليهم، ما كان فيهم من يستوجب ولايتها بالقوة والأمانة، ولا يولي غيرهم، وهو يجد فيهم من يستوجب الولاية.
شهد على إقراره: فلان بن فلان، فلان بن فلان، ومن شهد
(1)
.
فهذه الوثيقة تُعدَّ حجة في تحديد مصارف الْوَقْف؛ من يدخل فيها ومن يخرج، كما أنها تحدد من يلي هذا الْوَقْف، وشروط الولاية، وذُيِّلت بالشهود الذين شهدوا على إقرار الواقف، فيُرجع إليهم عند الاختلاف والتنازع.
(1)
الأم، محمد بن إدريس الشافعي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1393/ 1973 م، 4/ 62 - 63.