الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس الوقف في العصر العباسي حتى سقوط بغداد (132 - 656 هـ/ 750 - 1258 م)
شهد العصر العباسي في أطواره المختلفة تطوُّر مؤسسة الوقف وازدهارها، بفضل رعاية الخلفاء والسلاطين والأمراء لها، وتأسي الرعية بحكامها بوقف الأوقاف التي تنوعت تنوعًا كبيرًا، وازداد عددها زيادة ملموسة، ولم تعد تقتصر على بناء المدارس والمساجد وسُبل الماء، بل تعدتها إلى بناء المكتبات المتكاملة في مرافقها وخدماتها، والعناية بالطرق، والأيتام والأرامل والمطلقات، وبناء البيمارستانات التي وفرت كل الخدمات الطبية والإنسانية للمرضى، وغيرها من المرافق التي كانت تخدم كل الشرائح الضعيفة في المجتمع، بل تجاوز الأمر كل ذلك إلى وقف الأوقاف لرعاية البهائم والطيور، وتوفير المأكل والعلاج لها.
ولقد تميَّز العصر العباسي بميلاد كبريات الأوقاف الثقافية والصحية والمائية، التي يأتي على رأسها: عين زبيدة في مكة المكرمة؛ التي وفَّرت الماء للحجاج والمعتمرين بعدما كانوا يعانون الأمرين من قلته، والمدرسة المستنصرية، والبيمارستان العضدي في بغداد، وغيرها من الأوقاف التي سيتم التسليط الضوء عليها في الصفحات الآتية.
وإن المتأمل لحركة الوقف في العصر العباسي يلحظ أن المساجد حظيت بالعناية الكبرى من قِبل الخلفاء وزوجاتهم، وأمراء الأمصار، فيذكر على سبيل المثال المستشرق "آدم متز" أنه كان في بغداد عام 300 هـ/913 م نحو من سبعة وعشرين ألف مسجد، وثلاثة مساجد جامعة تصلى بها الجمعة (اثنان في جانبي دجلة، والثالث في دار الخلافة)، وفي البصرة في القرن الثالث الهجري سبعة آلاف مسجد
(1)
، وتعدُّ منارة مسجد الخافقين في بغداد الذي وقفته السيدة "زمرد خاتون" زوجة الخليفة العباسي المستضيء
(2)
أقدم منارة معروفة في بغداد، ويذكر
(1)
انظر: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، آدم متز، 2/ 293.
(2)
قال عنها ابن كثير في البداية والنهاية: "الست الجليلة زمرد خاتون؛ أم الخليفة الناصر لدين الله، زوجة المستضيء؛ كانت عابدة صالحة، كثيرة البر والإحسان والصلاة والأوقاف".
ابن جبير الأندلسي أيضًا أنه كان في الإسكندرية ما بين اثني عشر ألف مسجد وثمانية عشر ألفًا
(1)
.
وتؤكد المصادر المكتوبة والحفريات الأثرية أن العباسيين أَوْلَوا الحرمين الشريفين عنايتهم؛ فكثرت أعمالهم الخيرية فيهما، وازداد عدد أوقافهم المرصودة لهما، فيذكر الطبري أنه منذ قيام الدولة العباسية حرص خلفاء بني العباس على وقف الأوقاف الخادمة للحجاج؛ من سُبل للماء، وخانات الاستراحة الحجيج، وعلامات ترشدهم للطريق، فيذكر أن أبا العباس السفاح عندما تولى الخلافة (132 - 136 هـ/ 750 - 754 م) قام في عام 134 هـ/ 752 م بضرب المنار من الكوفة إلى مكة، ووضع الأميال لإرشاد الحجاج والمسافرين، وحفر الآبار، وأقام البرك والخزانات والخانات وقفًا على إقامة المسافرين وراحتهم
(2)
.
وعندما أسَّس أبو جعفر المنصور (136 - 158 هـ/754 - 775 م) عاصمته بغداد عام 145 هـ/763 م؛ أمر ببناء المساجد والحمامات في كل الأرباض، والأسواق والدروب بما يكفي الناس، وجعل المسجد الجامع بجوار قصره
(3)
، كما قام ببناء مسجد الخيف في منى.
وقام الخليفة المهدي (158 - 169 هـ/ 775 - 785 م) بتوسعة المسجد الحرام، وهو أول من جعل الكعبة في الوسط، وجعل مساحته 120 ألف ذراع، وجعل فيه 23 بابًا و 498 طاقًا، وجلب له من مصر 480 اسطوانة، كما كسا الكعبة، ودهن جدارها بالعنبر والمسك، كما قام بتوسعة المسجد النبوي وحمل إليه أعمدة الرخام والفسيفساء والذهب، ورفع سقفه، وألبس القبة من الخارج بالرخام، وفي عام 161/ 779 م أمر بعمارة طريق الحج عن طريق وضع علامات يستدل بها المسافرون، وعمل برك ماء على طول الطريق
(4)
.
(1)
انظر: رحلة ابن جبير، ابن جبير، دار بيروت للطباعة والنشر، 1979 م، 215.
(2)
انظر: الماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، 4/ 141.
(3)
انظر عن مدينة بغداد: دراسات في تاريخ المدن العربية الإسلامية، عبد الجبار ناجي، مطبعة جامعة البصرة، 1986 م، 271 - 285.
(4)
انظر: المرشد الوجيز، د سلامة البلوي، 306، وتاريخ الأمم الإسلامية (الدولة العباسية)، محمد الخضري بك، دار المعرفة، بيروت، د ت، 87.
ومن أعظم الأوقاف التي شهدها العصر العباسي؛ ما قامت به زوجة الخليفة هارون الرشيد "زبيدة" بوقفها العين زبيدة، التي أسهمت في حلِّ مشكلة المياه في مكة المكرمة، بعد ما حجَّت عام 186 هـ/802 م ورأت ما يعانيه أهل مكة والحجيج من المشاق في الحصول على ماء الشرب، فدعت خازن أموالها وأمرته أن يدعو المهندسين والعمال ليبدأ الحفر، وليشق الطريق للماء في كل خفض ورفع، وسهل وجبل، مسافة اثني عشر ميلًا، حتى يصل الماء إلى مكة المكرمة، ولما أظهر الخازن شيئًا من التردُّد إشفاقًا من كثرة النفقات على هذا المشروع؛ خاطبته بحزم قائلة:"اعمل، ولو كلفك ضربة الفأس دينارًا"، وعمل العمال والمهندسون إلى أن تمَّ المشروع، بعد أن بلغت تكلفته مليونًا وسبعمائة ألف دينار، ووصل الماء زلالًا إلى عرفة ومزدلفة، وأصبح قريبًا من منى، فيما يُعرف ببئر زبيدة
(1)
.
وقد أثنى الرحالة والمؤرخون على فعل زبيدة، فقال المسعودي: إن أحسن ما فعلته أم جعفر في أيام الرشيد بناء دور السبيل بمكة المكرمة، واتخاذ المصانع بها، وما أحدثته من دور للتسبيل بالثغر الشامي وطرطوس، وما وقفته على ذلك من وقوف
(2)
، وهذا ما أكده أيضًا الخطيب البغدادي حين قال: كانت معروفة بالخير والإفضال على أهل العلم، والبر للفقراء والمساكين، ولها آثار كثيرة في طريق مكة من مصانع حفرتها، وبرك أحدثتها، وكذا بمكة والمدينة
(3)
.
وامتدح الرحالة الأندلسي ابن جبير "السيدة زبيدة" وما قامت به من خدمات للحجاج عند حديثه عن طريق مكة التي سلكها حاجًا عام 579 هـ/1086 م، ومما قاله: "وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة هي من آثار زبيدة ابنة جعفر، انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرابع ومنافع تعم وفد
(1)
انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان، تحقيق: إحسان عباس، بيروت، دار صادر، 1971 م، 2/ 134. والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، 4/ 141.
(2)
انظر: مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي، مطبعة البهية، 1346 هـ، 2/ 516.
(3)
انظر: الماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، 4/ 136.
الله كل سنة، من لدن وفاتها إلى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سُلكت هذه الطريق، وتوفيت ببغداد عام 216 هـ، وقد خلفت آثارًا عديدة غير العين"
(1)
.
ويُعدُّ الوزير علي بن عيسى من أشهر الشخصيات البارزة التي تركت بصمات واضحة في خدمة الحجاج وأهل مكة المكرمة، فقد قام في عام 300 هـ/912 م بشراء كثير من الجمال والدواب وجعلها وقفًا على حمل الماء وتوفيره لأهل مكة، كما قام بحفر بئر عظيمة، واشترى عينًا غزيرة المياه بألف دينار ووسَّعها وقفًا عامًا للعامة، حتى كثر الماء واتسع بمكة المكرمة
(2)
.
وحظيت رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة من المعاقين وكبار السن فضلًا عن الأرامل بعناية الواقفين من أهل الخير في هذا العصر من خلال بناء العديد من الأربطة المخصصة لهذه الغاية، ومن أبرز تلك الأربطة "رباط السدرة" الذي يعد أول رباط وقف في مكة المكرمة، كما يعتبر أول رباط وجد في مكة يحمل اسم رباط، وكان يقع في الجانب الشرقي من المسجد الحرام بين باب السلام وباب النبي صلى الله عليه وسلم، ويعود تاريخه إلى عام 312 هـ/924 م، وكانت هذه الأربطة تأوي العجزة والمعاقين وكبار السن
(3)
.
وخصصت "قهرمانة الخليفة العباسي المقتدي" في مكة المكرمة عام 492 هـ /1058 م "رباط الفقاعية" للأرامل من النساء، وكان في الرباط من يقوم بخدمتهن والعناية بهن مسكنًا وملبسًا ورعاية، وكانت بعض هذه الأربطة تلحق بها مكتبات لخدمة النزلاء، كما هو الحال في مكتبة "رباط الربيع" الذي نشأ عام 594 هـ / 1197 م، وهي من أزهى مكتبات الأربطة وأحفلها بالكتب في تلك المرحلة
(4)
.
(1)
انظر: رحلة ابن جبير، ابن جبير، 185.
(2)
انظر: صور من التكافل الاجتماعي، د سلامة البلوي، 58.
(3)
انظر: الأربطة في مكة المكرمة منذ البدايات حتى نهاية العصر المملوكي، حسين عبد العزيز شافعي، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، 1426 هـ، 31.
(4)
انظر: المكتبات في مكة المكرمة، عبد اللطيف بن دهيش، 17، والمكتبات في مكة والمدينة خلال العصرين الأيوبي والمملوكي، عماد صالح العجمي، رسالة جامعية، القصيم، قسم التاريخ، 2010 م، 25.
ولم يقتصر وقف الأربطة على مكة المكرمة بل عم جل المدن الإسلامية، وساهم في وقفها شرائح عديدة من المجتمع، يأتي على رأسها حاشية الخلفاء وزوجاتهم؛ فعلى سبيل المثال: وقفت عائشة بنت الخليفة المستنجد بالله بن المقتفي (640 هـ /1243 م) رباطًا في بغداد
(1)
، وغيرها من الأربطة التي تم تحبيسها في القدس، والمدينة المنورة، ودمشق، وغيرها من المدن.
ومن الأوقاف ذات الصبغة الثقافية التي وقفها أعيان ووجهاء العصر العباسي "دار العلم" في الموصل، وهي أول دار علم عُرفت بهذا الاسم في الموصل، وقفها أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الشحام (240 - 323 هـ / 854 - 934 م)، وكانت تحتوي على جميع صنوف المعرفة، وكانت وقفًا على كل طالب علم، وكانت تقدم المال والورق للطلبة الفقراء، وكان فيها مكان خاص للمحاضرات، وكانت تفتح أبوابها يوميًّا، فكانت مكتبة عامة بكل ما تعنيه الكلمة
(2)
.
ووقف "سابور" وزير بهاء الدولة دار العلم المسماة باسمه في بغداد على أرجح الأقوال عام 381 هـ/ 991 م، على أهله، ونقل إليها كتبًا نُسخت على يد أفضل الخطاطين وكبار العلماء، فبلغت على ما قيل عشرة آلاف وأربعمائة مجلد، منها مائة نسخة من المصاحف كتبها أشهر الخطاطين من أسرة بني مقلة المشهورة بجودة الخط، وكان يدير هذه الدار ثلاثة عشر رجلًا من المشرفين والإداريين، ينفق عليهم من ريع الوقف المخصَّص للدار؛ من عقارات في الكرخ وغيرها
(3)
.
ومن الظواهر الوقفية في العصر العباسي انتشار وقف المصاحف، فقد كتب على سبيل المثال "المفضل ابن محمد الضبي" مصاحف وقفها على المساجد، وعندما
(1)
انظر: أعلام النساء، عمر رضا كحالة، 3/ 190.
(2)
انظر: دور الكتب العربية العامة وشبه العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط، يوسف العش، 128 - 129.
(3)
انظر: المرجع السابق، 133 - 134.
سُئل عن سبب ذلك أجاب: اشتريت بذلك الهجاء الذي كتبته بيدي
(1)
، وأصبح وقف المصاحف أيام الخليفة "المتوكل"(223 - 247 هـ/ 847 - 861 م) مهمًّا جدًّا في جامع عمرو بن العاص بالفسطاطح حتى اضطر القاضي "الحارث بن مسكين" أن يعيِّن أمينًا لحفظها
(2)
، كما وقف "نصير بن يحيى" كتبه على أصحاب أبي حنيفة
(3)
.
ويسجَّل للعصر العباسي انتشار ظاهرة الوقف الصحي على البيمارستانات، التي كانت مستشفيات متكاملة في خدماتها، فكانت مكانًا للعلاج، ومدرسة للطب، حيث كانت تشمل قاعات للمحاضرات ومكتبة طبية عامرة بالكتب الموقوف عليها، ولعل من أشهر هذه البيمارستانات الوقفية التي كانت تقدم خدماتها بالمجان:"بيمارستان الرشيد"، الذي كلف الطبيب "جبريل بن بختيشوع" بالإشراف عليه
(4)
.
أما "بيمارستان أحمد بن طولون" فقد وقفه أحمد بن طولون في مصر عام 259 هـ/ 873 م، وكان بمثابة مستشفى وكلية طب، وجعل فيه خزانة كتب احتوت على ما يزيد مائة ألف مجلد في تخصصات مختلفة
(5)
.
واشتُهرت في بغداد عدة بيمارستانات؛ منها: "البيمارستان المقتدري" نسبة إلى الخليفة المقتدر بالله بن المعتضد (295 - 320 هـ - /908 - 932 م)، والذي كان ينفق عليه الخليفة من ماله الخاص مائتي دينار في كل شهر
(6)
، كما وقفت والدة المقتدر بيمارستانًا آخر في بغداد في عام 306/ 919 م، أُطلق عليه اسم "بيمارستان السيدة"، وكانت النفقة عليه في كل شهر ستمائة دينار، وقدرها ابن تغري بردي بسبعة آلاف
(1)
انظر: دور الكتب العربية العامة وشبه العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط، يوسف العش، 102.
(2)
انظر: المرجع السابق، وصبح الأعشى، القلقشندي، 1/ 419.
(3)
انظر: دور الكتب العربية العامة وشبه العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط، يوسف العش، 102.
(4)
انظر: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، أحمد عيسى، دار الرائد العربي، بيروت، 1981 م، 178.
(5)
انظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي، دار الكتب، 1943 م، 4/ 101.
(6)
انظر: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، أحمد عيسى، 183.
في العام
(1)
، كما عرفت بغداد بيمارستان بدر أبو النجم مولي المعتضد بالله (ت 311 هـ / 924 م)، والذي كان ينفق عليه من وقف سجاح أم المتوكل على الله
(2)
.
وقد عرفت جميع المدن الرئيسية في الشام والعراق، ومصر، والمغرب والأندلس، وبلاد ما وراء النهر وغيرها .. أوقافًا للبيمارستانات؛ فعلى سبيل المثال: تم تحبيس "بيمارستان واسط" في عام 413 هـ / 1022 م على يد "مؤيد الملك أبو علي الحسن بن الحسن الرخجي"؛ وزير شرف الدولة بن بهاء الدولة مدبر دولة الخليفة القادر بالله في العراق، ووقف عليه وقوفًا كثيرة
(3)
، ووقف الخليفة "القائم بأمر الله" الذي تولى الخلافة عام 422 هـ /1031 م "البيمارستان الفاروقي" بـ "ميافارقين"، وأنفق عليه أموالًا كثيرة، ووقف له أوقافًا تقوم بكفايته
(4)
، ويذكر ابن كثير في حوادث عام 572 هـ. بأن الأمير "مجاهد الدين قايماز" نائب قلعة الموصل بنى مجمعا وقفيًّا يتكون من جامع حسن، ورباط، ومدرسة، ومارستان بظاهر مدينة الموصل على دجلة، ووقف عليه الأوقاف، وقد أثنى الرحالة ابن جبير وابن بطوطة على هذا المجمع الوقفي، وعلى رأسه البيمارستان
(5)
.
ويعد "البيمارستان العضدي" الذي وقفه "عضد الدولة ابن بويه" في الجانب الغربي من بغداد في صفر عام 372 هـ/ 983 م من أعظم البيمارستانات التي عرفها العصر العباسي، فقد رتَّب فيه الأطباء، والخدم، والوكلاء، والخُزَّان، ونقل إليه من الأودية والأشربة والعقاقير شيئًا كثيرًا، وكل ما يحتاج إليه، وكان يعمل فيه أربعة وعشرون طبيبًا، فكان مدرسة للطب، تقدم فيه المحاضرات، ويدرب فيه الأطباء، وكان فيه جميع التخصصات: من طب عيون، وجراحة، وعظام، قال عنه ابن خلكان "وليس في الدنيا مثل ترتيبه، وقد تمَّ الفراغ من بنائه عام 368 هـ/ 987 م، وأعد له من الآلات ما يقصر الشرح عن وصفه"، وقد وقف عليه "الحاجب الكبير الشباسي أبو نصر" مولى شرف
(1)
انظر: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، أحمد عيسى، 182 - 183.
(2)
انظر: المرجع السابق، 180 - 181.
(3)
انظر: المرجع السابق، 198.
(4)
انظر: المرجع السابق، 198 - 199.
(5)
انظر: المرجع السابق، 200 - 201.
الدولة بن بهاء الدولة الذي لقبه بـ "السعيد"(ت 408 هـ - /1018 م) ضياعًا كانت شيئًا كثيرًا من الزروع والثمار، وفي عام 439 هـ/ 1048 م أصبح في هذا البيمارستان ثمانية وعشرون طبيبًا، وبوابون، وحرَّاس، وطباخات، وكان فيه عدة جباب فيها السكر، واللوز، والمشمش وسائر الحبوب، وأربع قواصر تمر هندي، وزنجبيل، وعود، وند، ومسك، وعنبر، وصناديق فيها أكفان، وقدور كبار وصغار، وأربعة وعشرون فراشًا، وكان بجواره حمام، وبستان فيه مختلف أنواع الثمار، والسفن على مائة، تنقل الضعفاء والفقراء والأطباء، فضلًا عن مكتبة عامرة بالمصادر المتنوعة
(1)
.
وقد خصصت الدولة الإسلامية مستشفيات لرعاية المجانين، وأفردت لهم غرقًا خاصة في المستشفيات العامة لمداواتهم سريريًّا ونفسيًّا
(2)
، فقد ذكر المؤرخون أنه جاء في نفقات الخليفة العباسي "المعتضد بالله" أنه خصَّص لـ"مستشفى الصاعدي" الذي كان قد وقفة القائد "صاعد بن مخلد" أموالًا للنفقة عليه، لأثمان الأدوية والأطعمة والأشرية؛ لخدمة المغلوبين على عقولهم
(3)
.
وجاء في وقف إحدى المستشفيات المخصصة للأمراض العقلية أن "كل مجنون خُصِّص له خادمان يخدمانه، فينزعان عنه ثيابه كل صباح، ويحممانه بالماء البارد، ثم يلبسانه ثيابًا نظيفة، ثم يفسحانه في الهواء الطلق، ويسمع في الآخر أصوات جميلة، والنغمات الموسيقية اللطيفة
(4)
، وذكر الرحالة ابن جبير أنه عاين في أحد البيمارستانات بالقاهرة جناحًا خاصًا، متسع الفناء، فيه مقاصير عليها شبابيك حديد، اتُّخذت للمجانين، وأنه كان يتم تفقدهم كل يوم
(5)
.
(1)
انظر عن البيمارستان العضدي: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، أحمد عيسى، 187 - 192، والوقف وبنية المكتبة العربية - استنباط للموروث الثقافي، يحيى محمود ساعاتي، 107، والبداية والنهاية، ابن كثير، 11/ 886، ورحلة ابن جبير، ابن جبير، ط لندن، 225.
(2)
انظر: الخطط والآثار، المقريزي، بيروت، دار صادر، 2/ 405.
(3)
انظر: الوقف ودوره في التنمية، عبد الستار إبراهيم الهيتي، البحث الفائز بجائزة الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني الوقفية العالمية، لعام 1418 هـ/1997 م.
(4)
انظر: خطط الشام، محمد كرد علي، مكتبة النوري، 1983 م، 6/ 165 - 166.
(5)
انظر: رحلة ابن جبير، ابن جبير، 26.
وقد انتشرت أوقاف البيمارستانات الخاصة بالمجانين في كل المدن الإسلامية، فأورد ابن عبد ربه في "العقد الفريد" أن هناك بيمارستانًا خاصًّا بالمجانين في بغداد، وهو "دير هرقل القديم"، على مرحلة من واسط
(1)
، كما كان هناك بيمارستان آخر للمجانين في دمشق
(2)
، وآخر في فاس .. وغيرها
(3)
.
وتعددت المدارس الوقفية في العصر العباسي؛ فكان منها لتدريس القرآن الكريم وتفسيره وحفظه وقراءته، ومنها مدارس للحديث خاصة، وأغلبها مدارس للفقه، ومنها مدارس للطب، وأخرى للأيتام، كما شهد هذا العصر ميلاد المدارس النظامية التي أنشأها الوزير السلجوقي "نظام الملك"(ت 485 هـ/1092 م)، فقد أنشأ في عام 459 هـ/ 1067 م نظامية بغداد ونظامية نيسابور ونظامية طوس، وكانت أول من طبق نظام المخصصات المالية والخدمية الخاصة بالأساتذة والطلبة على حدٍّ سواء، وقد وقف نظام الملك أوقافًا كثيرة على تلك المدارس، وكانت أوقاف نظامية بغداد - على سبيل المثال - تقدر بـ 60 ألف دينار
(4)
، يقدر ريعها السنوي بـ 15 ألف دينار
(5)
.
وكان "نظام الملك" ينفق 600 ألف دينار على التعليم
(6)
، وذكر سبط ابن الجوزي أن "نظام الملك" وقف في عام 462 هـ / 1070 م سوق المدرسة وضياعًا وكتبًا على نظامية بغداد
(7)
، وقد رأى الرحالة ابن الجبير حين زار بغداد نحوًا من ثلاثين مدرسة، لها أوقاف عظيمة وعقارات واسعة؛ للإنفاق على الفقهاء والمدرسين والطلبة
(8)
.
(1)
انظر: العقد الفريد، ابن عبد ربه، 7/ 162 - 163.
(2)
انظر: رحلة ابن جبير، ابن جبير، 25 - 26.
(3)
انظر: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، أحمد عيسى، 284.
(4)
انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان، تحقيق: إحسان عباس، بيروت، دار صادر، 1977 م، 2/ 128، والخدمات الوقفية في العراق وبلاد الشام في القرنين السادس والسابع الهجريين، فوزي أمين يحيى الطائي، أطروحة دكتوراه، جامعة الموصل، كلية الآداب، 1997 م.
(5)
انظر: الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، محمد عبده، ط 3، 98.
(6)
انظر: المدرسة المستنصرية، ناجي معروف، 8.
(7)
انظر: مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، شمس الدين أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي الهند، حيدر آباد الدكن، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، 2/ 121.
(8)
انظر: رحلة ابن جبير، ابن جبير، 204 - 205.
وفي عصر الخليفة العباسي "المستنصر بالله"(923 - 640 هـ / 1226 - 1242 م) شهد العراق في عام 631 هـ / 1234 م ميلاد "المدرسة المستنصرية"، التي تعدُّ أكبر وقفية ثقافية في العصر العباسي، وأول جامعة إسلامية نُظِّمت على غرار المدارس النظامية؛ إذ جمعت بين الدراسات الفقهية على المذاهب الأربعة في بناية واحدة، كما درست علوم القرآن والدين واللغة، والطب والرياضيات، وجُهِّزت أقسامها الداخلية بكل ما يلزم الطلبة، وزُوِّدت بالمطابخ والحمامات، وأُلحقت بها دار كتب ضخمة، أُودع فيها ثمانون ألف مجلد، كلها وقف، فضلًا عن مستشفى للتطبيب والتدريس، وقد بلغت نفقات هذه المدرسة سبعمائة ألف دينار، وقد درس فيها فطاحل العلماء، وقيل: إن قيمة ما وُقف عليها يساوي مليون دينار، وإن واردات هذه الأوقاف بلغت نيفًا وسبعين ألف مثقال من الذهب في السنة
(1)
.
ومن الشروط التي وضعها المستنصر في حُجة وقفه للمدرسة: أن تجعل خزانة الكتب الملحقة بها برسم من يطالع ويستنسخ من الفقهاء، وتوفير الورق والأقلام لمن يريد النسخ، وأن يكون لها خازن ومشرف ومناول، وكانت تشمل كل فروع المعرفة، وقد وقف عليها من القِرى والأجربة ما يفوق الحصر، حتى أن وقفها - كما يقول الذهبي - جاء في خمسة كراريس، ولا يُعلم وقف في الدنيا كوقفها أصلًا، سوي أوقاف جامع دمشق، وقد يكون وقفها أوسع، كما وقف الأمراء بعد المستنصر بالله على المدرسة كثيرا من الكتب
(2)
.
ويؤكد كل من القزويني وابن كثير ما قاله الذهبي، فقال القزويني عن المدرسة المستنصرية:"لم يُعرف موضع أكثر منها وقفًا، ولا أرفه منها سكنًا"
(3)
، ويذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" في حوادث سنة إحدى وثلاثين وستمائة أنه: "فيها كمال بناء المدرسة المستنصرية في بغداد، ولم يُبن مدرسة قبلها مثلها، ووُقفت على المذاهب الأربعة، من كل طائفة اثنان وستون فقيهًا، وأربعة معيدين، ومدرس لكل مذهب،
(1)
انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، 23/ 123 - 156.
(2)
انظر: تاريخ علماء المستنصرية، معروف، 2/ 233 و 403.
(3)
آثار البلاد وأخبار العباد، زكريا محمد بن محمود القزويني، بيروت، 1960 م، 306.
وشيخ حديث، وقارئان، وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين بيشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام، وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة، ما فيه كفاية وافرة لكل واحد
…
ووُقفت خزائن كتب لم يُسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها وجودة الكتب الموقوفة بها"
(1)
، وقد شاءت الأقدار أن تبقى آثار هذه المدرسة إلى اليوم، ولعلها الوحيدة التي بقيت من مدارس بغداد التي تعود للعصر العباسي.
وفي أواخر العصر العباسي - وبالتحديد عام 639 هـ/ 1241 م - ظهرت مؤسسة وقفية ذات رسالة سامية لرعاية اللقطاء، فقد أنشأ الأمير عبد القاهر بن عيسى" المعروف بـ" ابن التَّنَّبيّ" دارَّا لرعاية اللقطاء، أُطلق عليها "الخانقاه التَّنَّبِيّة"
(2)
.
ويسجل تاريخ الوقف في العصر العباسي اهتمام الخلفاء والأمة في هذا العصر بوقف الربط؛ التي كانت تأوي الفقراء والغرباء وعابري السبيل، وتعمل جنبًا إلى جنب مع المدارس على رعاية شؤون الطلبة الفقراء وإيوائهم
(3)
، ومن أشهر هذه الربط "الرباط الظاهري" في غربي بغداد، الذي أنشأه الخليفة العباسي "الناصر الدين الله" عام 589 هـ/ 1096 م، وزُوِّد بمكتبة غنية، وقد عُدَّ من أفضل الريط، ومنها "رباط المأمونية" في بغداد أيضًا، الذي حفلت مكتبته بنوادر المخطوطات
(4)
، ومنها "رباط الشرابي" في مكة المكرمة الذي وقف في عام 641 هـ/1244 م عند باب بني شيبة، وكانت مكتبته حافلة بالكتب الموقوفة عليه في مختلف فنون المعرفة، أما "رباط النيار" في مكة (649 هـ/ 1251 م) فقد وقفه عز الدين أبو المكارم الحسين بن أبي منصور البغدادي بن النيار الأسدي، وألحق به مكتبة، وأجرى الجرايات عليه من خالص ماله
(5)
.
(1)
من روائع حضارتنا، مصطفى السباعي، 106.
(2)
انظر: خطط الشام، محمد كرد علي، 6/ 141.
(3)
انظر: الوقف وبنية المكتبة العربية - استنباط للموروث الثقافي، يحيى محمود ساعاتي، 108.
(4)
انظر: المرجع السابق، 108 - 109.
(5)
انظر: المرجع السابق، 110.
وقد أسندت الدولة العباسية إدارة الأوقاف إلى رئيس يسمى: "صدر الوقوف"، يعاونه عدد من الموظفين، وكان عليه أن يقدم حساباته في نهاية كل سنة للقاضي، فإذا أقرَّ القاضي صحة الحساب؛ قُسِّم في سبلة على أهل الوقف، وقد بقيت هذه الوظيفة حتى بعد سقوط بغداد على يد المغول (656 هـ / 1258 م)، حيث حرصوا على إسنادها إلى كبار العلماء
(1)
.
وهكذا توسَّع الوقف في العصر العباسي وتطور إداريًّا وأصبح له ديوانٌ مستقلٌّ، وعم بنفعه كل شرائح المجتمع الضعيفة، وظهرت أنواع جديدة من الأوقاف لمعالجة ظواهر اجتماعية مستجدة، كما هو الحال بالنسبة للقطاء والمجانين، كما يلاحظ في هذا العصر الاهتمام بالوقف الصحي من خلال كثرة الأوقاف المخصصة للمستشفيات، ويلاحظ أيضًا ميلاد عديد من المجمعات الوقفية التي تدل على نضج العمل المؤسسي في تلك الحقبة، كما سجل هذا العصر ميلاد أوقاف المدارس النظامية التي تعد نقطة تحوُّل في التاريخ الوقفي والثقافي الإسلامي، كما مثَّل وقف المكتبات والربط ظاهرة واضحة في أواخر العصر العباسي، فضلًا عن الظاهرة الأبرز؛ وهي العناية بوقف المساجد ورعاية الحرمين الشريفين، ومن الملاحظ أيضًا أن الخلفاء والولاة، والأمراء، وزوجات الخلفاء .. كان لهم الأثر الأبرز في حركة الوقف في العصر العباسي، ولعل ما قامت به السيد زبيدة يمثل شامة نشاط نساء العصر العباسي الوقفي.
وكان طول فترة العصر العباسي، وكثرة العناصر المؤثرة به، وكثرة تقلُّب السلطة في بغداد، وتنافس الحكام على خطب ودِّ الرعية؛ لإضفاء شرعية على سلطتهم، ناهيك عن الازدهار الاقتصادي .. كلها عوامل أثَّرت في مسيرة الوقف خلال ذلك العصر.
(1)
انظر: تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، بيروت، د. ت، 11/ 64، والنظام القضائي في بغداد في العصر العباسي، عبد الرزاق علي الأنباري، النجف، مطبعة النعمان، 378، ومؤسسة الأوقاف في العراق ودورها التاريخي المتعدد الأبعاد، أحمد محمد الشريف، ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامي، بغداد 1983 م، 71 - 72.