الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول الوقف عند الأمم القديمة
تؤكد المصادر أن الوقف بنظرته الشمولية، وعمله المنضبط بالنصوص الشرعية، والهادف أولا وأخيرا إلى مرضاة الله عز وجل، لم يُعرف إلا بعد مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم، أما الوقف بنظرته الجزئية وأهدافه الضيقة القائمة على حب السمعة والرياء، وإن كان موجها للمعابد ورجال الدين، وبعض الشرائح الضعيفة في المجتمع؛ فقد عرفته البشرية قديمًا، ولعل هذا ما يُفهم من قول الإمام الشافعي:"ولم تحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارًا ولا أرضًا تبرُّرًا بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام"
(1)
.
إن الوقف - بوصفه حبس المال على شيء معين - ظاهرة لا تخطئها العين عند دراسة المخلفات الأثرية للأمم القديمة، فعديد من المعابد والكنس اليهودية والكنائس النصرانية لا تزال قائمة ويعود تاريخها لآلاف السنين؛ مما يؤكد وجود الوقف الديني عند تلك الأمم، حيث كانت تحبس الأراضي والأموال والأدوات الخدمة دور العبادة والكهنة ورجال الدين، وكان الكهنة وسدنة المعابد يوكلون في الكثير من الحالات بتوزيع الإعانات العينية والنقدية على الفقراء والمعوزين لثقة الناس بهم.
وتتحدث الآثار والنقوش المكتشفة حديثًا في مصر عن وقف بعض العقارات على بعض الكهنة في عهد الأسرة الفرعونية الرابعة، وأن رمسيس الثاني منح معبد "آبدوس" أملاكًا واسعة، وأنه نقل ملكية هذه الأراضي في احتفال رسمي أمام الشعب، كما كان بعض أثرياء مصر الفرعونية يخصصون بعض الأراضي الزراعية لصالح الكهنة؛ لتغطية نفقاتهم ونفقات دور العبادة التي يشرفون عليها، وهناك بعض الإشارات المتناثرة التي تشير بأن الفراعنة عرفوا الوقف الذُّرِّي،
(1)
الأم، الشافعي، القاهرة، المكتبة القيمة للطباعة والنشر، 1989 م، 4/ 74، والوقف في التشريعات القديمة، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، مرجع سابق،79.
حيث كانوا يختصون أولادهم وذريتهم بريع ومنافع الأعيان المحبوسة، من غير أن يحقَّ لهم تملك هذه الأعيان أو تمليكها للآخرين
(1)
، إلا أن ذلك لم يمثل ظاهرة في المجتمع المصري آنذاك.
وتشير المخطوطات الصينية والآثار القائمة في الصين اليوم للمعابد البوذية وغيرها عن معرفة الصينيين للوقف، بل إن أباطرة الصين كانوا بين الفينة والأخرى يُطلقون النداءات لرعاياهم لتقديم العون والمساعدة للشرائح الضعيفة في المجتمع، وكانوا في بعض الأحيان يقدمون المساعدات للمحتاجين بأنفسهم؛ ليكونوا قدوة صالحة لرعاياهم
(2)
.
وقد عرفت الحضارة اليونانية عديدًا من الأوقاف الثقافية؛ من مدارس ومكتبات ومسارح، منذ إنشاء أفلاطون الأكاديمية الشهيرة على الأرض التي وقفها "سيمون الأثيني" لغرض عام، وقد أوصى أفلاطون قبل وفاته عام 347 ق. م بأن يخصَّص الريع الناشئ من الأرض الموقوفة لدعم الأكاديمية، حيث استمر هذا الوقف في دعم الأكاديمية حوالي تسعين عامًا
(3)
.
وتؤكد المصادر بأن التشريعات اليونانية والرومانية كانت تحرم تحريمًا قطعًا مد اليد إلى الأوقاف التي تخصصت للمعابد والآلهة، أو حتى تسخيرها في أي عمل لا يرتبط بالمعبد
(4)
.
(1)
انظر: الوقف الإسلامي .. تطوره، إدارته، تنميته، د منذر قحف، دار الفكر المعاصر، دمشق، 2000 م، 18، والوقف وتاريخه، جواد منصور الحلواني، وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، مملكة البحرين، 2012 م، ومحاضرات في الوقف، محمد أبو زهرة، 7 - 8، وأحكام الوقف في الشريعة الإسلامية، محمد عبيد الكبيسي، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1977 م، 1/ 21.
(2)
انظر: الوقف في التشريعات القديمة، محمد بنعبد العزيز بن عبد الله، مجلة دعوة الحق، ع 231، ذو الحجة 1403 هـ محرم 1404 هـ / سبتمبر أكتوبر 1983 م، 76، ولمزيد من التفاصيل انظر: الوقف وتاريخه، جواد منصور الحلواني، وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، مملكة البحرين، 2012 م.
(3)
انظر: الوقف وتاريخه، جواد منصور الحلواني، وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، مملكة البحرين، 2012 م.
(4)
انظر: الوقف الإسلامي: تطوره، إدارته، تنميته، د منذر قحف، 18.
ويعدُّ اعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين للديانة النصرانية في القرن الرابع الميلادي نقطة تحوُّل في تاريخ الوقف؛ إذ أخذت الأوقاف تتوجه للكنائس والأديرة، وأخذ رجال الدين يستثمرون تلك الأوقاف لصالح الكنيسة
(1)
، وأخذ أباطرة بيزنطة يتنافسون في وقف الأوقاف لصالح الكنيسة، ولعل من أعظم الأوقاف الدينية التي وقفها أباطرة بيزنطة وذويهم أوقاف والدة الإمبراطور قسطنطين "هيلانه"، التي شيدت عدة كنائس غدت محجًا للنصارى، وعلى رأسها كنيسة القيامة في القدس التي شيدتها عام 335 م، وفي عام 392 م شيدت امرأة رومانية كنيسة الصعود في بيت المقدس، وبنى القديس سابا "دير سابا" على مقربة من مدينة سلوان شرقي القدس عام 284 م، وغيرها من الأوقاف الكنسية المنتشرة في الشرق والغرب
(2)
.
لقد طور الرومان بعد اعتناقهم للديانة النصرانية نظام الوقف، وجعلوه مؤسسة تابعة للكنيسة، وكلفوها بإدارته لصالح الطبقات الضعيفة في المجتمع، كما تشير المصادر إلى أن الإمبراطور "جستنيان" الذي حكم في القرن السادس الميلادي - قام بإلغاء الأحباس الأهلية إذا تجاوزت أربع طبقات، وأوجب تمليكها لهذه الطبقة الأخيرة؛ مراعاة للمصلحة العامة
(3)
.
وكان الجرمان يسمحون للمتبرع برصد كُلِّ ماله أو بعضه لأسرة معينة مدة محدودة، أو لحين انقراضها، ولم يكن من الممكن عند الجرمان بيع الأحباس أو توريثها أو هبتها، وليس لمستحقها سوى الانتفاع بريعها وثمراتها.
(1)
انظر: الوقف في التشريعات القديمة، محمد بنعبد العزيز بن عبد الله، مجلة دعوة الحق، ع 231، ذو الحجة 1403 هـ - محرم 1404 هـ/سبتمبر - أكتوبر 1983 م، 79 وما بعدها.
(2)
انظر: الممتلكات والأوقاف المسيحية في القدس - دراسة في التراث الثقافي لمدينة القدس، فادي شامية، 255، والفاتيكان، أسامة أمين، مجلة المعرفة، وزارة التربية والتعليم، المملكة العربية السعودية، ع 104، ذو القعدة 1424 هـ/ يناير 2004 م، 8.
(3)
انظر: الوقف في التشريعات القديمة، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، 79 وما بعدها.
وتشير المصادر إلى أن ملوك بابل في العراق كانوا يهبون بعض موظفيهم حقَّ الانتفاع ببعض أراضيهم، دون أن يملكوها أو يتصرفوا فيها ببيع أو هبة أو نحوها، وكان القانون يسمح بانتقال حق الانتفاع لهذه الأراضي إلى ورثة الموظفين بعد موتهم، بحسب الشروط الموضوعة في الاستحقاق الترتيبي
(1)
.
وفي بلاد فارس انتشرت الأراضي والأموال الموقوفة على معابد بيوت النار، كما كانت للهنود أوقاف واسعة على معابدهم وأصنامهم المشهورة، فيذكر ابن كثير أنه كان على الصنم الأعظم "بسومنات" من الأوقاف عشرة آلاف قرية ومدينة مشهورة وقد امتلأت خزائنه أموالًا، وعنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه
(2)
.
وتؤكد النقوش اليمانية أن الوقف في جنوبي الجزيرة العربية في عهد كل من دولة معين" و "سبأ" و "حمير"، وغيرها من الممالك القديمة .. كان جله على المعابد، وأن كثيرًا منها كان يهدف إلى طلب الشفاء، أو النصر، أو اتقاء الكوارث الطبيعية، مما يجعل المعابد تتوافر على أراضي شاسعة كانت تؤجر بموجب عقود مع المعبد
(3)
.
وتعد الكعبة المشرفة التي بناها إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل عليه السلام أقدم وقف عرفته العرب في قلب الجزيرة العربية، إذ جعلها إبراهيم عليه السلام مُصلىً عامًا للعرب على اختلاف قبائلهم، ثم جعلها العرب بعد أن بدلوا ديانة التوحيد معبدًا لأصنامهم، وأخذ العرب وغيرهم يقفون عليها الأوقاف، فكان ملك حمير "أسعد أبو كَرِب" أول مَنْ كسا الكعبة، ووقف عليها، وذلك قبل الهجرة بقرنين، كما كستها "نبيلة بنت
(1)
انظر: موسوعة حضارة العالم، محمد أحمد عوف.
(2)
انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، مكتبة المعرفة، بيروت، 12/ 22 - 23.
(3)
انظر: الوقف في التشريعات القديمة، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، 77، والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، دار العلم للملايين، بيروت، 1971 م، 6/ 419.
حباب" أم العباس بن عبد المطلب بالحرير فكانت أول عربية في الجاهلية تفعل ذلك، كما أهدى ملك الفرس "ساسان بن بابك" غزالين من ذهب وبعض الجواهر وسيوفًا للكعبة
(1)
.
وقد تسابق زعماء وأثرياء مكة المكرمة إلى إطعام وسقاية الحجاج والمعتمرين، فوقف "قصي بن كلاب" بئر العجول في مكة لسقاية الحجاج والمعتمرين، وهي أول سقاية احتُفرت في مكة
(2)
، كما وقف حياضًا من أدم كانت توضع في فناء الكعبة، ويسكب فيها الماء العذب من الآبار، محمولًا على ظهور الإبل من أطراف مكة البعيدة
(3)
، ووقفت كذلك "قبيلة بني سهم" بئر الغمر على زوار بيت الحرام، وكانت الناس تستقي من بئر السنبلة التي وقفتها بني جمع في مكة المكرمة
(4)
، واحتفر عبد المطلب بئر زمزم وجعلها صدقة موقوفة على الحجاج
(5)
.
وكانت قريش تعتبر السقاية والرفادة (سقاية وإطعام الحجاج) مفخرة من المفاخر؛ لذا جعلوها من مناصب مكة المعتبرة، وكان "العباس بن عبد المطلب" يلي السقاية أيام الرسول صلى الله عليه وسلم
(6)
.
(1)
انظر: الوقف في التشريعات القديمة، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، 81، والأوقاف والمجتمع (مجموعة بحوث عن العلاقة التبادلية بين الأوقاف والمجتمع)، د. عبد الله السدحان، الرياض، 2010 م، 38.
(2)
انظر: فتوح البلدان، البلاذري، تصحيح: صلاح الدين المنجد، القاهرة، 1956 م، 48، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، مطبعة فضالة، 1996 م، 5/ 47.
(3)
انظر: تاريخ مكة، أحمد السباعي، 1/ 50، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، 4/ 45.
(4)
انظر: الروض الأنف في شرح السيرة النبوية، عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي الأندلسي أبو القاسم، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الإسلامية، 1967 م، 1/ 175.
(5)
انظر: المرجع السابق، 1/ 171، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، 4/ 48.
(6)
انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، 6/ 419.
وكانت العرب في الجاهلية تحرص على أن يكون المال الذي تنفقه على الوقف الديني مالًا حلالًا، فقد تجنبت قريش حين أرادت إعادة بناء الكعبة بعد أن هدمها السيل أن تُدْخِلَ فيه مالًا حرامًا، وقد نادى مناديهم قبيل الشروع في البناء:"لا تُدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبًا، لا تُدخلوا فيه مهر بغي، ولا بيع ريا، ولا مظلمة أحد من الناس"
(1)
.
وقد عرف العرب في الجاهلية حبس الحيوانات في نذورهم وعبادتهم؛ مدَّعين أن الله أمرهم بذلك كذبًا وزورًا، قال تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}
(2)
.
وهكذا كان الوقف عند الأمم القديمة بسيطًا في مبناه، نخبويًا في عطائه، لا تحكمه قوانين محددة، ولا يمثل ظاهرة واضحة في المجتمع، وكان هدفه في الغالب الأعم السمعة والرياء، عكس ما هو الحال في الحضارة الإسلامية التي تميز فيها الوقف بسمو الغاية، وشمولية النظرة، وصرامة الضوابط والأحكام، حيث مثل ظاهرة عامة شارك فيها الحاكم والمحكوم وكل شرائح المجتمع، كما سنرى في الصفحات الآتية.
(1)
الروض الأنف في شرح السيرة النبوية، عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي الأندلسي أبو القاسم، 1/ 310، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، 4/ 45.
(2)
سورة المائدة، آية 103، البحيرة: هي الناقة تلد خمس أبطن، فإن كانت الخامسة أنثى شقوا أذنها وحرمت على النساء، والسائبة: كانوا يسيبونها ولا يركبون لها ظهرًا، ولا يحلبون لها لبنًا، والوصيلة: الشاة تلد سبع أبطن، فإن كان السابع ذكرًا أو أنثى قالوا: وصلت أخاها، ولا تُذبح، وتكون منافعها للرجال دون النساء، فإن ماتت اشترك فيها الرجال والنساء، والحام: الفحل ينتج من ظهره عشرة أبطن؛ فيقولون: قد حمى ظهره، فيسيبونه للأصنام، ولا يُحمل عليه، ثم يقولون بأن الله عز وجل أمرهم بذلك. انظر: تلبيس إبليس، ابن الجوزي، عند ذكر التلبيس على الجاهلية، والوقف وأثره في تنمية موارد الجامعات، سليمان أبو الخيل، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 2004 م، 78.