الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس لزوم صيغة الوقف
اللزوم هنا ليس بمعنى الجزم في الصيغة الذي عبَّر عنه جمهور الفقهاء، وإنما هو بمعني: عدم تمكن الواقف من الرجوع عن الوقف، كما لا يجوز للورثة اعتباره ميراثًا يقسم بينهم.
لكن متى يعتبر الوقف لازمًا؟ هل يلزم بمجرد صدور الصيغة من الواقف، أم لابد من وجود أمر آخر؟
اختلف الفقهاء في لزوم العقد وعدم لزومه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
، والظاهرية
(4)
، والزيدية
(5)
، والصاحبان من الحنفية، وهو المفتي به في المذهب
(1)
انظر: الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، المملكة العربية السعودية ط 2، 1400 هـ/ 1980 م، 2/ 1012، ولباب اللباب في بيان ما تضمنه أبواب الكتاب من الأركان والشروط والموانع والأسباب، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن راشد القفصي المالكي، 478، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب الرعيني، 6/ 18، وشرح مختصر خليل للخرشي، أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي المالكي، 7/ 79.
(2)
انظر: الحاوي في فقه الشافعي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الشهير بالماوردي، 7/ 511، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي، 2/ 376.
(3)
انظر: والمغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، 8/ 185، والمبدع شرح المقنع، أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح، دار عالم الكتب، الرياض، 1423 هـ/ 2003 م، 5/ 352، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، 7/ 3.
(4)
انظر: المحلى بالآثار، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، 8/ 149 - 152.
(5)
انظر: تتمة الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، العباس بن أحمد الصنعاني، 4/ 124، وشرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار، أبو الحسن عبد الله بن مفتاح، 3/ 458، والبحر الزخار الجامع لمذاهب الأمصار، أحمد بن يحيى بن المرتضي، 5/ 148.
الحنفي
(1)
، والإمامية
(2)
إلى أن الوقف متى صدر من الواقف وكان مستوفيًا لشروطه أصبح لازمًا، ولا مجال للرجوع عنه، ولا التصرف في العين الموقوفة بأي تصرف يخل بالمقصود من الوقف، فلا يباع ولا يوهب ولا يرهن ولا يورث، ولو اشترط الواقف الرجوع عنه.
قال ابن الحاجب: "الوقف لازم ولو قال: لي الخيار"
(3)
، وقال ابن راشد: الصيغة إن وردت مطلقة فحكمها اللزوم، وإن صدرت مقيدة بخيار فكذلك، وشرط الخيار باطل
(4)
.
وقال الماوردي الشافعي: "إذا وقف شيئًا زال ملكه عنه، ولزم، فلا يجوز له الرجوع فيه بعد ذلك، ولا التصرف فيه ببيع ولا هبة، ولا يجوز لأحد من ورثته التصرف فيه"
(5)
.
وقال البهوتي الحنبلي: "والوقف عقد لازم؛ قال في التلخيص وغيره: أخرجه مخرج الوصية، أو لم يخرجه (لا يجوز فسخه بإقالة
(6)
ولا غيرها)؛ لأنه عقد يقتضي التأبيد، فكان من شأنه ذلك، (ويلزم الوقف (بمجرد القول بدون حكم حاكم) "
(7)
.
(1)
انظر: شرح معاني الآثار، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الطحاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، طـ 1، 1399 هـ، 4/ 95، تحفة الفقهاء، علاء الدين السمرقندي، 2/ 376، والمبسوط، شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 12/ 27، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، عثمان بن علي الزيلعي الحنفي، 3/ 326.
(2)
انظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، محمد حسن النجفي، 28/ 11.
(3)
جامع الأمهات، أبو عمرو جمال الدين عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس بن الحاجب الكردي، 449.
(4)
انظر: لباب اللباب في بيان ما تضمنه أبواب الكتاب من الأركان والشروط والموانع والأسباب، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن راشد القفصي المالكي، 478.
(5)
الحاوي في فقه الشافعي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الشهير بالماوردي، 7/ 511.
(6)
الإقالة: هي رفع العقد وإزالته. انظر: التعريفات الفقهية، محمد عميم الإحسان المجددي، 32.
(7)
كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، 4/ 292، ومطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى، مصطفى بن سعد بن عبده الدمشقي الحنبلي، 4/ 293.
وقال الشيخ محمد حسن النجفي الجعفري: "لا خلاف ولا إشكال في أنه إذا تم الوقف بجميع شرائطه المعتبرة (كان لازمًا، لا يجوز الرجوع فيه، إذا في زمان الصحة)، بل الإجماع عليه عندنا، بل هو كالضروري، خلافًا لأبي حنيفة، فجوَّز للواقف الرجوع به؛ بل لورثته، إلا أن يرضوا به بعد موته؛ فيلزم، أو يحكم به حكم حاكم"
(1)
.
واستدلوا لذلك بالآتي:
1 -
ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصاب أرضًا بخَيبَرَ
(2)
، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إنِّي أصَبتُ أرضًا بخَيبَرَ لم أُصِب مالًا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال:"إن شئتَ حبست أصلها وتصدّقت بها"، قال: فتصدَّق بها عمر؛ أنه لا يباع أصلها ولا يُبتاع، ولا يورث، ولا يوهب، قال: فتصدّق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل والضعيف، لا جناح على متوليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يُطعم صديقًا غير متموّل فيه
(3)
"
(4)
، فقوله: لا يباع ولا يوهب ولا يورث، يدل على لزوم الوقف، وقطع التصرف فيه.
2 -
ما رُوي عن أبي هريرة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"
(5)
.
(1)
جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، محمد حسن النجفي، 28/ 11.
(2)
هذه الأرض يقال لها: "ثمغ" بفتح المثلثة وسكون الميم بعدها معجمة، وقد ورد التصريح باسمها في الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيام المعروف بصحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، رقم (2764).
(3)
غير متمول: غير متخذ منها مالًا، أي ملكًا، والمراد أنه لا يتملك شيئًا من رقابها، انظر: نيل الأوطار، محمد بن علي الشوكاني، 6/ 27.
(4)
الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه المعروف بصحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، حديث رقم (2772).
(5)
صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، بيت الأفكار الدولية، الأردن، رقم (1631).
قال الشوكاني: (صدقة جارية) يشعر أن الوقف يلزم، ولا يجوز نقضه، ولو جاز النقض لكان صدقة منقطعة، وقد وصفه في الحديث بعدم الانقطاع
(1)
.
3 -
ولأن الوقف تبرُّع يمنع البيع والهبة والميراث، فلزم بمجرد صدور صيغته من الواقف كما في العتق.
القول الثاني: وذكره الدسوقي عن ابن عبد السلام: أنّ الوقف تصرف لازم غير أن للواقف أن يشترط لنفسه الحق في الرجوع عن وقفه، ويثبت له هذا الحق بمقتضى اشتراطه، فقال الدسوقي: واعلم أنه يلزم، ولو قال الواقف: ولي الخيار، كما قال ابن الحاجب؛ وبحث فيه ابن عبد السلام: بأنه ينبغي أن يوفي له بشرطه، كما قالوا: إنه يوفي له بشرطه إذا شرط أنه إذا تسوَّر عليه قاضٍ رجع له
(2)
.
القول الثالث: ذهب أبو حنيفة، وزفر، والإباضية إلى أن الوقف جائز غير لازم، فإذا صدر من الواقف جاز له الرجوع عنه حال حياته مع الكراهة، ويورث عنه، وإنما يلزم الوقف عندهم بأحد الأمور الآتية
(3)
.
(1)
انظر: نيل الأوطار، محمد بن علي الشوكاني، 1186.
(2)
انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، 4/ 75، والذخيرة، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، 6/ 322، وجامع الأمهات، أبو عمرو جمال الدين عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس ابن الحاجب الكردي، 449، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب الرعيني، 6/ 18.
(3)
انظر: شرح معاني الآثار، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الطحاوي، 4/ 95، والمبسوط، شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، 12/ 27، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي، 6/ 218، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن نجيم المصري، 5/ 209، والإسعاف في أحكام الأوقاف، برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أبي بكر الطرابلسي، 3، ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، عبد الرحمن بن محمد بن سليمان المدعو بشيخي زاده يعرف بداماد أفندي، 1/ 731، ورد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين)، محمد أمين الدمشقي الحنفي المعروف بابن عابدين، 4/ 343، ومنهج الطالبين وبلاغ الراغبين، خميس بن سعيد بن على بن مسعود الرستاقي، 13/ 257.
الأمر الأول: أن يحكم الحاكم (القاضي) بلزوم الْوَقْف، فإن حصل نزاع بين الواقف والناظر في العين الموقوفة، وحكم القاضي بكونه وقفًا، صار لازمًا، لأن قضاء القاضي في المسائل الاجتهادية يحسم النزاع، ويرفع الخلاف في المسألة.
الأمر الثاني: أن يكون الْوَقْف على مسجد، ويأذن للناس بالصلاة فيه، فيلزم هذا الْوَقْف بذلك، دون حاجة إلى حكم حاكم، فلا يجوز الرجوع عنه، ولا يكون ميراثًا بعد وفاة الواقف؛ لأن المسجد يكون خالصًا لله تعالى، ويتخصص للصلاة، فيكون لازمًا.
والأمر الثالث: أن يخرج الْوَقْف مخرج الوصية، بأن علَّق الواقف الْوَقْف بوفاته، كأن يقول: وقفت داري بعد موتي على الفقراء والمساكين، فإذا قال ذلك؛ خرج الْوَقْف من ملك الواقف بعد وفاته محسوبًا من ثلث التركة.
واستدلوا لذلك بما يأتي:
1 -
حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، إنَّ حَائِطي هذا صدقةٌ، وهو إلى الله ورسوله، فجاء أبَوَاهُ فقالا: يا رسول الله، كان قِوَامُ عَيْشِنَا، فردَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ماتَا فَوَرِثْهُمَا ابنهما
(1)
، فالرسول صلى الله عليه وسلم ردَّ الصدقة، ولو كان الْوَقْف لازمًا لما رده.
2 -
ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حَبْسَ بعد سُورةِ النِّساءِ"
(2)
.
(1)
سنن الدارقطني، علي بن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي، رقم (4509)، 4/ 201، والمحلى بالآثار، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، 8/ 152 - 153 وقد أعله ابن حزم بالانقطاع، وهو حديث ضعيف؛ لأنَّهُ مرسل، ونصب الراية لأحاديث الهداية مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي، جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي، مؤسسة الريان للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، السعودية، 1/ 290.
(2)
المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي الطبراني، رقم (12033)، والمحلى بالآثار، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، 8/ 152، وذكر أنه حديث موضوع ولا يصح.